نافذة على إمارة المومنين عبر تاريخ المغرب
لقد تعرض المؤرخون ماضيا وحاضرا لمسألة إمارة المؤمنين، وهي عماد هام من أعمدة خصوصيات المملكة المغربية التي تنفرد بها عن باقي الدول الإسلامية المعاصرة نظرا لتلاحم مكوناتها العرقية ووحدة مذهبها عقائديا وصوفيا وقراءة.
وللتذكيـر، فإن بعد وفاة الرسول ﷺ: اجتمع الصحابة على شخص أبي بكر الصديق ليكون «خليفة لرسول ﷲ»، وبعد وفاته اتفق المسلمون على أن يطلق على خلفه الفاروق عمر بن الخطاب لقب «أميـر المؤمنين»، ثم لقب بعده بهذا اللقب خلفاء الدول الإسلامية المتعاقبة عبر التاريخ الإسلامي.
ويحمل سلاطين الأمة المغربية عبر التاريخ لقب أميـر المؤمنين منذ أن حمله السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين بدل «أميـر المسلمين»، بعد انتصاره في موقعة الزلاقة بالأندلس في القرن الحادي عشر الميلادي، ومنذ هذا التاريخ وسلاطين المغرب وملوكه يحملون لقب «أميـر المؤمنين»، هذا اللقب الإسلامي الجليل الذي يحمل بين طياته أهمية كبرى ومغزى عميقا، وظلت جميع المراسلات الدولية المرسلة لسلاطين المغرب خلال القرون الماضية تخاطبهم «بأميـر المؤمنين»، وكلما ذكر اسم لسلطان المغرب خلال فترات حكم الدول الحاكمة السبع على مدى القرون السالفة داخل المغرب وخارجه، إلا وقُرن اسمه «بأميـر المؤمنين»، لأن السلطان أو الإمام هو الذي يقوم فيما يقوم به على شؤون رعيته دينيا وعقائديا وإصلاحا وصيانة للتعاليم الإسلامية وحمايتها من كل شائبة تسيء إليها، ويدبر كل ما له صلة بالدين وأحكامه، والحكم بالكتاب والسنة والإجماع والاجتهاد حفاظا على مصالح المسلمين والقيم الحميدة.
ولا ريب، أن من أسس إمارة المؤمنين البيعة: بيعة أميـر المؤمنين من قبل ذوي الحل والعقد، وهي خاصية من خصائص المملكة المغربية، وتمثل اليوم «ميثاقا» دستوريا يقوم على الشورى وتبادل الرؤى الحكيمة والنزيهة، وهي أيضا عقد وعهد: عقد وكالة بين أفراد الأمة وولي أمرها أميـر المؤمنين لإصلاح أمورهم وأحوالهم الدينية والدنيوية، ونشر المساواة والعدل فيما بينهم، وحماية بلادهم من الفتن والأهوال، والدفاع عن تطورها ووحدتها الترابية والدينية.
ولم نقرأ في التاريخ أي اعتراض من خلفاء المشرق على لقب أميـر المسلمين أو أميـر المؤمنين الذي لقب به أولو أمر المغاربة، لأن المغرب منذ تلقى رسالة الإسلام وهو يناصر المسلمين، ويدافع عنهم بقوة جيوشه المجاهدة برا وبحرا في رقعة واسعة من العالم تمتد عبر عدة أقطار أوروبية وإفريقية لنصرة إخوانه المسلمين، وتتميم نشر الرسالة الإسلامية، ولرد الهجمات الصليبية والغزوات الاستعمارية، وخاصة على الجناح الغربي من العالم الإسلامي. مما جعله جديـرا بحرص سلاطينه وأمرائه على الاحتفاظ بلقب أميـر المؤمنين ولا سيما منذ أن عادت تقاليد الحكم في المغرب – كما بدأت على أيدي الأشراف من آل البيت النبوي الطاهر.
وهكذا، اهتم ملوك الدولة العلوية – من آل مولاي علي الشريف – محتفظين بهذا اللقب المنيف أبا عن جد معتزين به عاملين على إبرازه لا فرق في ذلك بين مخاطباتهم اليومية ووثائقهم الرسمية وعلاقاتهم الدولية، علما بأنه لا يوجد في هذا العصر من يحمل هذا اللقب من حكام المسلمين والذي يدخل في نطاقه المؤمنون من أهل الكتاب، وإذا كان ملوك الدولة العلوية الشريفة احتفظوا لأنفسهم بهذا اللقب، فإنهم لم يكتفوا بحمله على أنه مجرد «لقب تشريف»، وإنما حملوه وتعاملوا معه على أنه لقب تكليف، فقد كرسوا كافة جهودهم للوفاء بالتزاماته، والقيام بمسؤولياته المتضمنة للحفاظ على الدين الصحيح الخالي من الشعوذة والتطرف المنبوذ، وللدفاع عن حرمات الإسلام والمسلمين ببلادنا.
وهكذا، حمل الملك المؤمن المغفور له محمد الخامس طيب ﷲ ثراه فقيد العروبة والإسلام لقب أميـر المؤمنين، وأم بالمسلمين في عدة صلوات ليوم الجمعة في بلاده، وفي بلاد المنفى السحيق، واهتم بالمناهج التعليمية في الجامعتين الإسلاميتين: القرويين بفاس وابن يوسف بمراكش، وربى وارث سره ورفيقه في الجهاد الحسن الثاني طيب ﷲ مثواه، باني المغرب الحديث تربية إسلامية مثالية، ولقنه أصول العلوم الإسلامية على يد نخبة من كبار العلماء الأفذاذ، وبوأه منصب ولي للعهد بصفة رسمية، وأوصاه بوصية عظمى يقول فيها جلالته رحمه ﷲ: «إياك يا بني أن تحيد عن صراط الإسلام القويم أو تتبع غيـر سبيل المؤمنين فإنه لا عدة في الشدائد كالإيمان، ولا حلية في المحافل كالتقوى، واعرف ﷲ في الرخاء يعرفك في الشدة، تقرب منه بالأعمال الصالحة ذراعا يتقرب منك توفيقه باعا. واجعل القرآن المصباح الذي تستضيء به إذا ادلهمت الدياجي واشتبكت عليك السبل، وليكن لك في رسول ﷲ وصالحي الخلفاء إسوة حسنة» ﴿أوُلئَكَ الذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [سورة الأنعام: 91].
ولما اعتلى الحسن الثاني رحمه ﷲ عرش أجداده الميامين، قال في إحدى خطبه التي ألقاها كأميـر المؤمنين بمناسبة انعقاد المجلس الأعلى للتربية الوطنية سنة 1962: ينبغي أن نشيـر إلى أن الشعب المغربي شعب مسلم عربي قام عبر التاريخ بدور كبيـر في نشر الثقافة العربية والحضارة الإسلامية بالمغرب الإسلامي والقارة الإفريقية على الخصوص، وإن تشبثنا بالقيم الإسلامية التي ندين بها …«ليجعلنا حريصين على أن نواصل الرسالة الإسلامية العربية كذي قبل».
ولما عرض جلالته رحمه ﷲ، مشروع الدستور المغربي على الاستفتاء سنة 1962، كان من بنوده:
- المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة.
- الملك أميـر المؤمنين، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور…
فكان جلالته رحمه ﷲ، على إثر ذلك بصفته أميـر المؤمنين يعد من أبرز الشخصيات القيادية العالمية التي أولت الثقافة الدينية الرعاية والاهتمام، وجعلت جامعة القرويين لمعارف جلالته، الدينية والدنيوية ولإحداثه لدار الحديث الحسنية، وتفوقه في الدروس العلمية التي ألقاها بمحضر كبار علماء الدول الإسلامية العربية والإفريقية خلال شهور رمضان… جعلتها تتشرف بمنحه «الشهادة العالمية الفخرية لأميـر المؤمنين الحسن الثاني».
ولما تبوأ خيـر خلف لخيـر سلف جلالة الملك محمد السادس نصره ﷲ وأيده، عرش أسلافه المنعمين، أكد دستور سنة 2011م، الذي عرضه على شعبه الوفي – على المهام الدينية المخولة لجلالته حفظه ﷲ، باعتباره أميـرا للمؤمنين وعلى إسلامية الدولة المغربية، وعلى أن الملك هو حامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية، وأن جلالته هو رئيس المجلس العلمي الأعلى، كمؤسسة للإفتاء الديني قصد تحصين الإفتاء من المتطفلين عليه.
فتابع جلالته نصره ﷲ ،رسالة إصلاح الشأن الديني بالمغرب بصفته أميـرا لكافة المؤمنين والساهر في البلاد على حقوق المسلمين وغيـر المسلمين، طبقا لما درج عليه أسلافه المنعمين من التأكيد على احترام المعتقدات والتسامح معها، ومواجهة كل أشكال التطرف البغيض والانغلاق العنيف، والتشبث بالدين المتزن الوسطي، والعمل على تعزيز المثل العليا للتسامح والاعتدال، وتفكيك خطابات الكراهية والتكفيـر، والقضاء على الصراع بين كل الأديان وفرقها، والدعوة إلى ثقافة الحوار الديني لتحقيق العيش الرغيد للجميع في بحبوحة من الأمن والسلام والاستقرار والطمأنينة.
وتبعا للغزوات السابقة السعدية والإسماعيلية العلوية لبعض البلدان الإفريقية تحت راية الإسلام، استمر نشر التعاليم الإسلامية بالقارة الإفريقية انطلاقا من جنوب المغرب عن طريق القوافل التجارية والدعوات الجماعية السلمية والعلمية والروحية، التي كان يقودها الدعاة والفقهاء بأمر من أميـر المؤمنين، لنشر العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي السني، وقراءة القرآن برواية ورش عن نافع، وفي المقابل كان يـرد على المغرب الحجاج المسلمون من غرب إفريقيا عبر العصور، ويجتمعون في مراكش أو في فاس لينطلقوا مع الحجاج المغاربة برا إلى الديار المقدسة لأداء مناسك الحج.
وفي إطار العلاقات المغربية الإفريقية التاريخية منذ عقود مضت، لم يأل جلالة الملك محمد السادس نصره ﷲ، جهدا خلال زياراته الإفريقية ومقابلاته الرسمية على إسناد نصائحه الغالية بصفته أميـرا للمؤمنين، لرؤساء الفرق الدينية المسلمة الإفريقية ،ولأئمة مساجدها وللمرشدين بها، بأن يلقنوا مواطنيهم المسلمين الإسلام الوسطي الداعي إلى الاعتدال وثقافة السلام، وإسلام التمسك بالصراط المستقيم؛ أي لا إفراط في الدين ولا تفريط في الدنيا، خال من العنف والإكراه والشذوذ في السلوك والمعاملات ،وأن يفتحوا حوارا جادا ونزيها وفعالا بين الديانات والثقافات والحضارات العالمية .إذ التطرف في الإسلام يقصي على حكمة الاعتدال الذي هو أساس الأحكام الإسلامية في العبادات والمعاملات. ولهذه الغاية النبيلة أسس جلالته برئاسته مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ليعرفوا بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، وليبطلوا الادعاءات الباطلة التي تشوه الإسلام ومعتنقيه في أوساطهم. وهذه المبادرة الملكية الرفيعة تجسد كما قال جلالته في حفل تنصيب المؤسسة – عمق الأواصر الروحية الإفريقية التي ظلت تربط الشعوب الأفريقية جنوب الصحراء بملك المغرب أميـر المؤمنين ولما يجمعنا بها من وحدة العقيدة والمذهب والتراث الحضاري المشترك.
وفي هذا الصدد، تندرج الزيارة البابوية للمملكة المغربية التي إن دلت على شيء، فإنما تدل على الإسهام المشترك في ترسيخ ما تتقاسمه الإنسانية من قيم دينية وروحية سامية، وإلى السلم-كما قال جلالته أميـر المؤمنين-، والتسامح والعيش المشترك، ونبذ كل أشكال الجهل والكراهية والتطرف، وإلى دعم المساعي والجهود الهادفة إلى توطيد جسور التواصل والحوار البناء، والتفاهم بين مختلف الديانات والثقافات والحضارات.