الإجازة العلمية ودورها في التواصل العلمي بين علماء المغرب والسودان الغربي: إجازات أحمد بابا التنبكتي أنموذجا
التواصل العلمي بين علماء إفريقيا: الرحلات العلمية، المؤلفات، المراسلات، الإجازات
تحميل المقال بصيغة PDF
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالنيجر االمكلف بالشؤون الإدارية والمالية
الحمد لله رب العالمين القائل في محكم تنزيله: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[1]، والقائل أيضا: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الَّله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾[2]. ثم الصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين القائل: «مَنْ يُرِدِ الَّلُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»[3]، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فنحن نعلم أن الناس اليوم يحرصون على متابعة دراساتهم العليا أو الجامعية في أكبر الجامعات في العالم، وأشهرها قيمة علمية؛ لينالوا منها شهادة تقوّم مستواهم وتبين تخصصاتهم.
أما في العصور الماضية فقد كان العلماء والطلبة يسعون إلى الحصول على الإجازة العلمية من العلماء الكبار الذين اعترف لهم أهل عصرهم بالرسوخ في العلم، وهذه الإجازة بمثابة شهادة علمية في عصرنا الحاضر، فبقدر تضلع العالم في العلوم ورسوخ قدمه فيها، بقدر ما تعظم قيمة إجازته لدى الناس وأهل العلم، وهذا يعني أن الإجازة تستمد قيمتها من مكانة الشيخ أو العالم المجيز، ومستواه المعرفي والأخلاقي.
فالإجازة العلمية كانت قناةً للتفاهم والتواصل العلمي والثقافي بين أهل العلم، وأداةً لتوطيد الروابط الثقافية والصلات الفكرية بين الحواضر الإسلامية في المغرب والسودان الغربي، ومصدراً مهما لمعرفة المصنفات والمؤلفات المنتشرة والمتداولة في الحلقات العلمية في كثير من أرجاء العالم الإسلامي، ووسيلةً لإرساء دعائم الحركة العلمية والثقافية في المدن العلمية الإسلامية، فما هي الإجازة العلمية؟ وما أهميتها؟ وما دورها في التواصل العلمي بين علماء المغرب وعلماء السودان الغربي؟
المبحث الأول: الإجازة العلمية: تعريفها وشروطها وأهميتها
أولا: تعريف الإجازة لغة واصطلاحا
- – تعريف الإجازة لغة
تعددت معاني الإجازة في المعاجم العربية، فقيل: إن الإجازة لغة مشتقة من الفعل جوز، وهي من جُزْتُ الطريقَ وجازَ الموضعَ جَوْزاً وجَوازاً ومَجازاً، وجازَ به وجاوَزه جِوازاً، وأَجازه وأَجاز غيرَه، وجازَه سار فيه وسلكه… وتقول جُزْت الموضع سِرْتُ فيه، وأجزته: خَلَّفْتُه وقطعته. وأَجَزْتُه نَفَذْتُه، وقيل: إن الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي تسقاه الماشية أو الحرث، تقول: استجزته فأجازني إذا أسقاك ماء لماشيتك وأرضك، فكذلك طالب العلم يستجيز العالم أي يسأله أن يجيزه علمه فيجيزه إياه؛ فعلى هذا يجوز أن يقال: أجزت فلاناً مسموعاتي أو مروياتي متعدياً بغير حرف جر من غير حاجة إلى ذكر لفظ الرواية، ولكن من جعل الإجازة إذناً وإباحة وتسويغاً – وهو المعروف – فيقول: أجزت له رواية مسموعاتي، ومتى قال: أجزت له مسموعاتي فعلى الحذف كما في نظائره، وقيل: الإجازة مشتقة من التجوز وهو التعدي فكأنه عدى روايته حتى أوصلها للراوي عنه[4].
- – الإجازة اصطلاحا
عرف مصطلح الإجازة بعدة تعاريف، حيث عرفه المحدثون والفقهاء والشعراء والعروضيون. ويختلف مفهومه من حقل معرفي إلى آخر، والذي يناسب مقامنا هنا أن الإجازة هي: “إذن الشيخ لتلميذه برواية مسموعاته أو مؤلفاته ولو لم يسمعها منه ولم يقرأها عليه، وذلك بقوله: “أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي”[5].
ثانيا: شروطها
نظرا إلى أهمية الإجازة اشترط العلماء “أن يكون المجيز عالما بما يجيزه، ثقة في دينه وروايته، معروفا بالعلم، وأن يكون المجاز من أهل العلم متسما به”[6].
ثالثا: قيمتها وأهميتها
تتجلى قيمة الإجازة وأهميتها في عدة أمور منها:
- – أنها أنفس ما يملكه طالب العلم: ذهب بعض العلماء إلى أنه لا غنى لطالب الحديث عنها، بل كانوا يعتبرونها “من أنفس الحليات ويعتقدونها رأس مال الطالب، ويرون أن من عدمها المغلوب غير الغالب، فإذا ذكر حديثا قراءة أو معنى ما، أو رواية قالوا: أين إسناده وعلى من عماده، فإن عدم سندا ترك سدى ونفي قوله، ولم يعرف فضله”[7].
ومن أجل هذا، “تسابق العلماء والأئمة والملوك إلى نيل الإجازة والحصول عليها وطلبها، وصارت أمنية محببة ومقصدا مطلوبا من جميع الطبقات حتى كانوا يبذلون النفس والنفيس ويرحلون المسافات الطوال من أجل الحصول على إجازة عالم في كتاب أو حديث أو نحوهما”…[8].
- – أنها أساس لوصل الروايات، والإبقاء على الإسناد في الأمة، الذي يُعد من أسمى وجوه مدنيتها العلمية في تاريخ الحضارة العلمية الإنسانية، فالإسناد هو الذي حفظ للأمة السنة النبوية، وهو الذي وصل سلف الأمة بخلفها[9].
- – أن الإجازات تعبر عن رمز علمي للهوية الحضارية للأمة الإسلامية، رمز ولد في فضاء الحياة العلمية الإسلامية، وترسخ كتقليد يضبط الحركة العلمية، يعمل على تصنيف مراتب طلاب العلم، ويفصح عن عروجهم في مدارجه، عبر الإشارة إلى مشايخهم وأساتذتهم الذين نهلوا منهم.
- – أن الإجازات العلمية تعد من بين الوسائل التي تزودنا بمعلومات جغرافية وتاريخية عن مراكز العلم في العالم الإسلامي وعن حركة تنقل الأفراد نحوها.
- – أن الإجازة العلمية رمز من رموز الحياة العلمية الإسلامية، التي أثمرها النظام التربوي الإسلامي، حيث ولدت في فضاء الحلقات العلمية عند المسلمين، وتجذرت كتقليد متوارث، تسهم في تنظيم تلقي العلم وتداوله بين الأجيال.
- – أن الإجازات العلمية يعتبرها كثير من علماء الحديث من التقاليد التعليمية المهمة في النظام التربوي عند المسلمين، فهي من الوسائل السليمة التي يتم عن طريقها نقل مختلف العلوم، خاصة العلوم الدينية من جيل إلى جيل.
- – أن الإجازات لا سيما الكبيرة منها تحفل ببيانات شتى تلمح إلى الأحوال الاجتماعية والسياسية فضلاً عن الثقافية والعلمية السائدة في تلك العصور، وعلى هذا يمكن أن يستند إليها الباحث كوثائق هامة تعيد تحديد صورة الحياة الفكرية والاجتماعية للمجتمعات الإسلامية في ضوئها.
- – أن الإجازة تساعد على إضاءة الأبعاد الغائبة في الحواضر العلمية الإسلامية في جميع الأمصار، بعد التنقيب في الإجازات المدونة داخلها، والتقاط ما تحكيه تلك الإجازات ولو بالإشارة والتلميح.
- – أن الإجازات العلمية تسهل على الطالب الحصول على مبتغاه – أحيانا – من غير أن يتكلف عناء السفر الطويل أو بذل الوقت والجهد الكبيرين للالتقاء بالعالم الذي يطمح للحصول على الإذن منه فيما يمتلك من علم.
- – أن الإجازات العلمية تقرب المسافات بين مختلف الأقطار شرقا وغربا، خاصة لمن لا يجد القدرة في نفسه للسفر الطويل لمرض مانع أو أي شيء آخر.
- – الإجازة العلمية مؤشر كبير على التقدم الحضاري عند المسلمين، حيث أصبحت ضرورة يحرص عليها العالم لضمان انتشار علمه انتشارا صحيحا سليما خاليا من التحريف والأخطاء.
- – أن الإجازة ضرورية للمتعلم ليكون علمه مضبوطا سليما لا يشك في نسبته إليه، ويمكن بواسطتها الوقوف على درجة رقي الحركة الأدبية والثقافية والعلمية آنذاك لطلاب الدراسات في مختلف المجالات وبذلك تصور أعلى درجات المثل الأخلاقية في التربية والتعليم.
- – تعتبر الإجازات العلمية من أهم الوثائق والسجلات التي احتفظت لنا بعدد غفير من أسماء طلاب العلم في التاريخ الإسلامي الذين لم تستوعبهم مصنفات الرجال والتراجم.
- – الإجازات العلمية قناة للتواصل مع السلف، حيث تساعد على الاطمئنان إلى نسبة مؤلفات وآثار الماضين إلى أصحابها، وقطع الطريق على انتحال آثار الآخرين ونسبتها إلى غيرهم، بالإضافة إلى ما تزودنا به الإجازات من معلومات هامة عن مؤلفات العلماء في سائر حقول المعرفة، فإن بعض الإجازات تضمّ طائفة من عناوين مصنفات شيوخ الإجازة، حتى إن غير واحدة من الإجازات تكاد تكون بمثابة قوائم تحصر مؤلفات أولئك الشيوخ بتمامها، بنحو قد لا نعثر عليه في الببليوغرافيات الخاصة في التراث الإسلامي.
المبحث الثاني: دور الإجازات العلمية في التواصل العلمي ونماذج من إجازات أحمد بابا التنبكتي
أولا: دور الإجازات العلمية في التواصل العلمي بين العلماء
إن الإجازة العلمية كانت وما زالت، من أعظم صور المدنية العلمية في حاضرة الدول الإسلامية، فهي -أي الإجازة- ما زالت شامة بيضاء وتاجاً مكللاً بالماس، ووجهاً من وجوه الحضارة العلمية في دولة الإسلام، في جميع دوله المتعاقبة، وعلى مدى اتساع جغرافية دولة الإسلام، من شرق الأرض إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها [10]. ويتجلى دورها في التواصل العلمي بين العلماء والمراكز العلمية في العالم الإسلامي في عدة أمور منها:
- – تعتبر الإجازات العلمية رباطاً وثيقاً بين علماء الأمّة، يُعبّر عن الوئام التام والوفاق والأخوة والاتفاق والاتحاد بين الرفاق على طريق الإسلام، والوحدة في المسير إلى الهدف بين أولئك الأعلام، وفيه إشعار واضح بأن الحق في ما قيل من أن اختلاف الرأي لا يُفسد للود قضيّة، بل لا يخفى على ذوي الأذواق السويّة أنّ مثل هذا من أسباب التواصل العلمي والتبادل الثقافي، وذلك يؤدي إلى المزيد من التقارب بين علماء المذاهب؛ فيقف كل منهم على ما لدى الآخرين من مواد معرفية، لعلّ فيها ما يُرشد إلى هُدى أو يردُّ عن ضلالٍ وردى.
- – تعتبر الإجازة وسيلة مهمة لتعميق أواصر الوحدة الإسلامية، عبر الكشف عن أعمق قناة للتواصل الثقافي بين المذاهب والفرق الإسلامية، تلك القناة التي ظلّت تغذي الحياة العلمية وترسّخ أسس التفاهم المشترك، عبر تبلور رؤى موحدة في العلوم الإسلامية، فضلاً عن التوفر على معرفة الرأي الآخر بموضوعية ونزاهة بعيداً عن المواقف المنحازة.
- – الإجازات العلمية أداة لتوثيق عُرى الأخوة بين المذاهب الإسلامية؛ لأن طلاب العلم كانوا يحرصون على تحصيل الإجازات من شيوخ الفرق الأخرى، ويفخرون بالإفادة منهم والتلمذة عليهم؛ فكانت الإجازة أداة للتفاهم والتواصل بين أهل العلم، ونافذة يطل من خلالها أتباع كل مذهب على علوم المذهب الآخر، ممّا يعزز الفهم الصحيح لآراء الآخر، وينفي الصورة المزورة التي يرسمها الخصوم، ويعمل على تفاعل الحركة العلمية الإسلامية وتخصيبها، وبلوغ نتائج مشتركة في كافة العلوم الإسلامية. من هنا يمكن الإفادة من تراث الإجازات كرصيد لا غنى عنه في مشروع التقريب بين المذاهب الإسلامية والوحدة القائمة على التفاهم المشترك واحترام الرأي الآخر بين المسلمين.
- – الإجازات العلمية سبب مبارك للتواصل بين الشيخ المجيز والطالب المجاز حال حياتهما، فهي باب المواصلة في العلم والمدارسة والمشاورة سعيا لخدمة الأمة والاهتمام بشؤونها ومتابعة ما يستجد من الحوادث والأمور الشرعية وهذا من مقتضيات حفظ الأمانة وصيانتها وأدائها.
- – الإجازة العلمية نوع من أنواع التواصل العلمي بين علماء المغرب والسودان الغربي، حيث استمر هذا التواصل بين المغرب وغرب إفريقيا إلى يومنا هذا، ولا أدل على ذلك أن العلامة أحمد بابا التنبكتي الذي يعتبر أنموذجا أمثل للتواصل العلمي بين علماء المغرب وأقرانهم في السودان الغربي مكث بضعة سنوات في المغرب وكون علاقات وطيدة مع علماء عصره، بل لا يزال مفخرة المغاربة والسودانيين إلى الآن. وخلال مدة إقامته بمراكش درس ودرّس وأجاز، فلم تنقطع صلاته بعلماء المغرب حتى عندما رجع إلى السودان الغربي فظل يتراسل معهم، إلى أن فارق الحياة. ولسنا نبالغ إذا قلنا إن سمعة أحمد بابا في المغرب ترجع إلى علمه وإلى إجازاته العلمية لبعض العلماء المغاربة؛ ولهذا ظلت العلاقة العلمية والثقافية بين المنطقتين متواصلة إلى يومنا هذا.
وهكذا يظهر أن الإجازة أو الإجازات العلمية سبب مبارك للتواصل العلمي بين علماء المغرب والسودان الغربي، وحبل ممدود يصل العلاقات العلمية، ويربط علماء السودان الغربي بصلات ثقافية وعلمية وثيقة بإخوانهم في المغرب، ويوطد أواصر الود والأخوة بين الشعوب.
ثانيا: نماذج من إجازات أحمد بابا التنبكتي لبعض علماء عصره في المغرب
عاش العلامة أحمد بابا التنبكتي فترة من حياته في مدينة مراكش، وخلال هذه المدة وطد علاقة متينة مع علماء عصره في المغرب من خلال تدريسه وإجازاته.
وفي هذا الإطار سعى كثير من علماء المغرب والطلبة إلى نيل الإجازة والحصول عليها من العلامة أحمد بابا التنبكتي فيما أخذوا عنه، وفي رواية بعض مروياته ومؤلفاته ومسموعاته؛ فأجاز كثيرا منهم، وإليكم نبذة يسيرة عن العلامة أحمد بابا التنبكتي ونماذج من إجازاته.
- 1- نبذة يسيرة عن العلامة أحمد بابا التنبكتي
أحمد بابا التنبكتي (963–1036هـ)
هو الفقيه الإمام سيدي أحمد بن الحاج أحمد بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت التنبكتي، المولود بتنبكت عام 963 هجرية العالم العلامة، البحر الفهامة، عالم الدنيا ومعلمها، حامل لواء الأحاديث ومفهمها، رافع رواية مذهب الإمام مالك ومقدمها، سلطان العلماء في السودان الغربي.
نشأ رحمه الله في بيت علم وصلاح، ورث العلم والرياسة، جدَّ رحمه الله في طلب العلم حتى فاق جميع معاصريه، فشهد له شيوخه بالعلم، فذاع صيته في الغرب وانتشر ذكره وسلم له علماء الأمصار في الفتوى. وكان رحمه الله شجاعا وقافا عند الحق لا يداهن فيه ولو الأمراء بله من دونهم.
قرأ النحو على عمه أبي بكر، وأخذ عن والده الحديث والمنطق، وقرأ الرسالة تفقها، ومقامات الحرير على غيرهما، وحضر بعض دروس الفقيه أحمد بن محمد بن سعيد. ولازم شيخه محمد بغيغ أكثر من عشرين سنة فأخذ عنه التفسير والحديث والفقه والأصول والعربية وغيرها. وختم عليه مختصر خليل بقراءته عليه وقراءة غيره نحو ثماني مرات.
وختم عليه الموطأ قراءة تفهم، وتسهيل ابن مالك قراءة بحث وتدقيق مدة ثلاث سنوات، وأصول السبكي بشرح المحلي ثلاث مرات قراءة تحقيق، وألفية العراقي بشرح مؤلفها، وتلخيص المفتاح بمختصر السعد مرتين، وصغرى السنوسي، وشرح الجزائرية له، وحكم ابن عطاء الله مع شرح زروق عليه…، وتحفة الحكام لابن عاصم وشرحها لابنه كلها بقراءته على شيخه. وقرأ عليه فرعي ابن الحاجب قراءة بحث، والتوضيح لخليل، والمنتقى للباجي، والمدونة بشرح أبي الحسن الزرويلي، والشفا للقاضي عياض. وقرأ عليه الصحيحين والمعيار للونشريسي، وغيرها من الكتب. أجازه شيخه بخطه جميع ما يجوز له وعنه، كما أجازه والده أيضا في جميع ما يجوز له.
امتحن في فتنة الباشاوات في السودان الغربي، فقبض عليه الباشا محمود زرقون، هو وأسرته ومجموعة من فقهاء السودان فأرسلهم إلى مراكش. ولما خرج من المحنة طلب منه السلطان أحمد المنصور الذهبي أن يدرس في جامع الشرفاء فامتنع في البداية ثم جلس للتدريس فيه.
أخذ عنه مجموعة من علماء وتلاميذ المغرب منهم: قاضي الجماعة بفاس العلامة أبو القاسم بن أبي النعيم الغساني، وقاضي الجماعة بمكناس، ومفتي مراكش والرجراجي والفقيه أحمد المقري والسعدي، وغيرهم من العلماء والتلاميذ.
وبعدما أفرج عنه رجع إلى بلده، وكرس حياته في التدريس والتأليف والإفتاء، وقد بلغت مؤلفاته نيفا وستين مؤلفا منها:
المقصد الكفيل بحل مقفل خليل، منن الرب الجليل في بيان مبهمات خليل، تنبيه الواقف على تحقيق معنى وخصصت نية الحالف، إفهام السامع بمعنى قول خليل في النكاح بالمنافع، فتح الرزاق في الشك في الطلاق، أنفس الأعلاق في فتح الاستغلاق من كلام خليل في درك الصداق، الزند الوري في مسألة تخيير المشتري، الكشف والبيان في حكم أصناف مجلوب السودان، اللمع في الإشارة لحكم تبغ، ترتيب جامع المعيار للونشريسى، أسئلة في المشكلات، نيل المرام على التمام ببيان حكم الإقدام على الدعاء بما فيه إيهام، نيل الابتهاج، كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباح، درر السلوك بذكر الخلفاء وأفاضل الملوك، النكت الوفية بشرح الألفية، النكت الزكية، غاية الإجادة في مساواة الفاعل للمبتدإ في شرط الإفادة، التحديث والتأنيس في الاحتجاج بابن إدريس، نزول الرحمة في التحدث بالنعمة، أجوبة على الأسئلة المصرية، جلب النعمة ودفع النقمة بمجانبة الولاة الظلمة، تحفة الفضلاء ببعض فضائل العلماء، شرح صغرى السنوسي، المأرب والمطلب في أعظم أسماء الرب، شرح الصدور وتنوير القلوب ببيان مغفرة ما نسب للجانب النبوي من الذنوب، نشر العبير بمعاني الصلاة على البشير النذير، نيل الأمل في تفضيل النية على العمل، وغيرها من المؤلفات التي لا يمكن ذكرها جميعا في هذا المقام.
ظل رحمه الله طوال حياته في التدريس والتأليف والإفتاء إلى أن توفي صحوة الخميس السادس من شعبان عام ستة وثلاثين وألف (1036) هجرية [11].
- 2– نماذج من إجازات أحمد بابا التنبكتي:
أ- إجازة أحمد بابا التنبكتي لابن يعقوب الإيسي
هو محمد بن يعقوب الإيسي المراكشي، المكنى بأبي عبد الله: أديب ناظم، ناثر، قال عنه صاحبه وشيخه أحمد بابا: “لم ألق بالمغرب أثبت منه ولا أوثق ولا أحذق ولا أعرف بطرق العلم منه”[12].
ويعتبر ابن يعقوب الإيسي المراكشي أحد أبرز علماء مراكش في عصره [13]؛ ولذا أعجب به العلامة أحمد بابا كثيرا وأجازه في مجموعة من المواد التي أخذ عنه إجازة عامة.
وهي كما جاء على لسانه:
“… حدثني بحديث الرحمة المسلسل بالأولية عن والده بسنده وحديث المصافحة عن والده أيضا، وسمعت عليه أكثر صحيح مسلم بلفظه ولم يفتن إلا القليل، وقرأت عليه الشفا وعشرينيات الفزاري، وتخميس ابن مهيب لها، وشيئا من صحيح البخاري وسنن الترمذي والموطأ، وسمعت جميع ألفية الحديث للعراقي عليه تفقها إلا أبياتا، وأوائل، مختصر خليل وأشياء من الأبي على مسلم وغير ذلك، وأجازني، وذاكرته في الأسانيد والرجال والتاريخ… وناولني المسلسل بالمالكية “[14].
ب-إجازة أحمد بابا التنبكتي للحاج أحمد التواتي:
هو الحاج أحمد بن الحاج محمد فهدي بن أبي فهدي التواتي ثم المراكشي، قال عنه البرتلي: “الأستاذ، المتواضع الناظم الثائر ذو الأخلاق، والشيم الفاخرة”[15]، صاحَب أحمد بابا التنبكتي عدة سنوات واستفاد منه كثيرا وتأثر به غاية التأثر، حتى قال عن شيخه أحمد بابا، متعجبا به ومبينا ملازمته له، وما أخذ عنه من كتب: “لما فتح الله علي بملاقاة عالم الدنيا ومعلمها، حامل لواء الأحاديث ومفهمها، رافع رواية مذهب الإمام مالك ومقدمها، العالم العلامة، المقبول الفاضل الفهامة سيدي وبغيتي وهداي ومسرجي ومثواي ومهجتي، أبي العباس سيدي أحمد بابا جعل الله تعالى أيامه للخير أسبابا، وفتح به إلى العلوم أبوابا، تلقيت منه ما فتح الله لي بالقبول وألفيته حلقة للوصول، فلازمت بابه المبارك ليالي وأياما وشهورا وأعواما، وتضلعت من زمزمه بما فيه مقنع، وكنت معه كالذي يأكل ولا يشبع.
وأجازه أحمد بابا إجازة مطلقه في جميع ما أخذ عنه من المواد. وقد جاء على لسانه وهو يبين المواد التي أخذها عن أحمد بابا:
“… قرأت عليه رحمه الله تعالى القرآن العظيم بتفسير ذي الجلالين المحلي والسيوطي في عامين مرتين قراءة تحقيق وتفهم وتدقيق، ثم الموطأ للإمام مالك، ثم البخاري ومسلم، ثم اختصارهما للقرطبي، ثم الجامع الصغير للسيوطي مرارا، ثم الشفاء، ثم الخصائص للسيوطي، ثم العلوم الفاخرة ثم البذور السافرة، ثم ألفية الحديث مرارا، ثم دروسا كثيرة من الفقه في خليل والرسالة وتحفة الحكام وغيرها من الكتب، ثم الكلاعي، وعدة من تواليفه رحمه الّله، إلى غيرها مما حصلته من أجوبته وتقييده ومصنفاته وأبحاثه وفوائده، وأجازني جميع ذلك إجازة مطلقة من غير تقييد رحمه الله تعالى”[16].
ج- إجازته للشيخ أحمد المقري
هو أبو العباس أحمد بن محمد المقري، مفتي فاس الشهير، التلمساني الأصل، الحافظ المتفنن، الأديب المؤرخ. أقام مفتيا بفاس ثلاث عشرة سنة ثم رحل إلى المشرق فحج مرارا ونشر العلم بمصر والشام والحجاز وبيت المقدس. كان رحمه الله إماما عالما، متفننا، حافظا للفقه والنوازل غاية في الحفظ والفهم وفصاحة اللسان له ولوع بالأدب. ولي الخطابة والفتوى والإمامة بجامع القرويين.
أخذ العلم عن عدة شيوخ منهم: عمه ابن عثمان سعيد المقري وعن القصار وابن أبي النعيم وأحمد بن عمران، وأحمد بابا التنبكتي الذي قال عنه: “لقيته بمراكش… وانتفعت به، واستفدت منه وكنت كثيرا ما أذهب معه إلى زيارة الصالحين بحضرة الإمامة مصحوبين بجملة أعلام، فنتذاكر في طريقنا فنونا جمة، وأعارني جملة كتب من خزانته الفريدة، المبدئة في اقتناء الغرائب، وأجازني جميع تآليفه المفيدة وكتب لي بخطه بذلك مرارا عديدة”[17].
ترك أحمد المقري عدة مؤلفات منها: “نفح الطيب” و”إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة”، و”أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض”، و”قطف المهتصر في أخبار المختصر”، و”الغث والسمين والرث والثمين”و”روضة الآس”، و”حاشية شرح أم البراهين” وغيرها. ولد بتلمسان سنة 986 هـ، وتوفي بمصر سنة 1041هـ.[18]
يعتبر العلامة أحمد المقري من أهم الطلبة والعلماء الذين اعتنى بهم أحمد بابا في مدينة مراكش، نظرا لعلمه ولانتمائه إلى أسرة كان أحمد بابا يكن لأفرادها احتراما كبيرا؛ ولذا أجازه بابا إجازة عامة في عدة علوم.
فدونكم نصها كما أورده المقري في روضة الآس مختصرا:
“الحمد لله كما هو أهله وأفضل صلاته على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم، يقول كاتبه الفقير أحمد بابا بن أحمد بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت لطفه الله بهم ووفقهم لمرضاته، أجزت الفقيه الحافظ المتفنن النبيه سيدي أبا العباس أحمد بن محمد المقري من قرابة الإمام العلامة أبي عبد الله المقري قاضي الجماعة رحمه الله ونفعنا به آمين، أن يروي عني هذا التعليق في التاريخ[19] وجميع ما جمعته في الفنون…[20] وأجزته غير ذلك مما جمعته في العربية والفقه والحديث… وأجزته أيضا أن يروي عني جميع مختصر الشيخ خليل بحق قراءتي له قراءة بحث وتحقيق وحضوري أيضا كذلك على شيخنا الإمام الولي الصالح القدوة الفهامة سيدي محمد بَغْبُع الونكري نحو عشر مرات في أزيد من عشر سنين بحق قراءته له على سيدى أحمد ابن سعيد الفقيه الحافظ المحقق الصالح القدوة حفيد سيدى البركة محمود بن عمر وهو حضر فيه قراءة بحث على جده لأمه البركة أبي الثناء سيدي محمود بن عمر الفقيه الإمام الولي الصالح، وأجازنيه أيضا في عموم إجازته سيدي الفقيه المتفنن العلامة والدي أحمد بن محمد بحق قراءته له على عمه سيدي محمود بن عمر المذكور بحق قراءته له على الشيخ عثمان المغربي على العلامة نور الدين السنهوري، على العلامة البساطي وغيره، عن أصحاب خليل بهرام والأفقهسي وغيرهما عن مؤلفه خليل رحمه الله، ولنا فيه طرق غير هذا. وصلى الله على سيدنا محمد وآله. كتبه الفقير أحمد بابا بتاريخ أواسط المحرم من عام عشرة وألف.”
وقد ذكر المقري أن أحمد بابا أجازه أيضا إجازة أخرى يوم خروجه من مراكش إلى تلمسان في مروياته من كتب الحديث فدونك نصها مختصرا:
“الحمد لله وكفى، وسلام على سيدنا محمد المصطفى وآله وصحبه أولي الخير والوفاء. وبعد فيقول العبد الفقير، ذو القصور والتقصير، أحمد بابا…حفظه من غير الدهر وشروره آمين. لما يسر الله تعالى لي ملاقاة السيد الفقيه المتفنن اللبيب المحصل الحافظ أبي العباس أحمد بن محمد المقري من ذرية الإمام الأكبر العالم الأشهر أبي عبد الله المقري التلمساني نفعنا الله تعالى ببركته، جالسته وحادثته واستفدت منه فوائد، طلب مني، أعلى الله شأنه أن أجيزه في الحديث وفيما لي به رواية من كتبه فأسعفته بذلك؛ لأنه أهل لذلك وزيادة، فأقول: وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، أجزت الفقيه المشار إليه أسعده الله تعالى أن يروي عني جميع ما يجوز لي وعني روايته مما أخذته من شيوخنا وسادتنا الفضلاء معقولها ومنقولها متى شاء وبأي لفظ شاء على شرطه المعتبر عند أهل الأثر وهو البراءة من التصحيف والتحريف، فمن ذلك موطأ إمامنا الأعظم إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، والصحيحان: البخاري ومسلم، والشفا لأبي الفضل عياض وغيرها من الكتب الستة وغيرها من الأجزاء الحديثية وكتب الفقه، وسندها كلها يطول الآن كتبه، ولنكتب ما لابد منه…[21] وقد أذنت في رواية جميع ذلك للفقيه المقري حفظه الله تعالى وأصلحه ونفعنا به آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وهذا ما تيسر الآن كتبه، مع ضعفي غاية، فليعذرني السيد وبقية المرويات إن أحب سيدي أن يأخذها فهي عند قاضي الجماعة سيدي أبي القاسم ابن أبي النعيم الغساني بفاس، فليحصلها بأسانيدها من ثمة فإنه كتب الجميع عني والله تعالى ييسر لنا وله ما فيه الخير والسلام.
وكتب الفقير أحمد بابا بن أحمد بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت بن عمر بن على بن يحيى الصنهاجي التنبكتي المالكي، وفقه الله وغفر له بتاريخ يوم السبت خامس عشر ربيع الثاني عام عشرة وألف سنة، أرانا الله ختامه في عافية بمدينة مراكش المصونة حاطها الله”[22].
د- إجازته ليحي بن عبد الله الحاحي
يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد المنعم الحاحي هو أحد الطلبة الذين أخذوا عن أحمد بابا لما كان في مراكش ولذا أجازه. فدونك نصها كما وجدناه في الفوائد الجمة:
“الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. يقول العبد الفقير لرحمة ربه القدير أحمد بابا بن أحمد بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت خار الله له في أموره ونجح قصده ولطف به وبأسلافه؛ أجزت لسيدي وعدتي، السيد النبيه الزكي القدوة، العارف بالله سيدي وبركتي أبي الفضل يحيى بن سيدنا وقدوتنا من نتوسل إلى الله أن يسعدنا أبي محمد عبد الله بن السيد الأجل الولي المرابط الخير سعيد بن عبد المنعم نفعنا الله بهم آمين، أجزت له ولإخوته وأولاد إخوته كلهم أن يرووا عني ما اشتمل عليه هذا الجزء من الكتب والأحاديث المذكورة فيه بأسانيدها وأعني بالجزء جزء إجازة الخرقاني المتقدم أول هذه الإجازة[23] لهم عن الشيخ المجيز لهم، وهو قطب الدين المكي الخرقاني، وبحق روايتي لما فيه عن قطب الدين المذكور بإذنه لعامة أهل بلدنا كما هو مذكور فيه. وكتب الفقير أحمد بابا يوم ثالث عشر ذي القعدة سنة ثمان وألف [24].
هـ- إجازته للخطيب أبي زيد التلمساني
هو أبو زيد عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد التلمساني، خطيب الجامع الأعظم بتارودانت.
حضر مجلس أحمد بابا في مراكش، وأخذ عنه صحيح البخاري ومسلم والترمذي
وأبا داود والشفا وغيرها من الكتب الحديثية والفقه، وأجازه أحمد بابا فيها إجازة عامة مطلقة، فدونكم نصها:
” الحمد لله وكفى وصلاته وسلامه على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله وصحبه أهل الخير والوفاء وبعد:
فيقول الفقير، الحقير ذو القصور والتقصير أحمد عرف ببابا بن الفقير الحاج أحمد بن الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت، هداه الله ووفقه لما يرضاه، لما منَّ الله تبارك وتعالى على من منته الوافرة بالاجتماع بسيدنا الفقيه العالم الصالح، المحصل، المبارك، المحدث أبي زيد سيدي عبد الرحمن بن سيدي الفقيه المفتي، الجامع المحصل الكامل أبي عبد الله محمد التلمساني نزيل تارودانت من سوس الأقصى وبالانتفاع به دينا ودنيا، فرأيت مخايل الخير عليه لائحة، وآثار الهدى معه واضحة، مع ما جبل عليه من التُّؤَدَة والسكينة والطهارة، وحضر معنا الدروس الحديثية وغيرها، ثم قرأ علي من لفظه أكثر من النصف الأول من صحيح الإمام البخاري، بل لم يبق له منه إلا القليل، وأكثر كتاب الشفاء لأبي الفضل عياض فرأيته مليح السرد أنيق الفهم، سديد النظر محصلا لاصطلاحات أهل الحديث مع التأني والتؤدد، وقرأ علي أيضا أوائل كتاب مسلم والترمذي وأبي داود بلفظه وطلب مني مع ذلك أن أجيزه فيها وفي غيرها مما لي به إجازة، فأنعمت له بذلك لكونه أهلا له وزيادة رجاء بركة دعائه في خلواته وصلواته نفعنا الله وإياهم بالعلم النافع وحشرنا جميعا تحت لواء سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم. فأقول وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
أما صحيح البخاري فأخبرني به سماعا من لفظه غير ما مرة سيدي والدي الفقيه المحدث….[25] أما صحيح مسلم فأخبرني به أيضا سيدي والدي الفقيه الحاج المحدث…[26] وأجزت لسيدي عبد الرحمن بن سيدي محمد التلمساني أن يروي عني أيضا السنن الأربعة بحق روايتي لها عن شيخنا الفقيه العالم محمد بَغْبُع… وأجزت له أيضا أن يروي عني كتاب الشفاء بتعريف حقوق المصطفى… وأجزت له حفظه الله أن يروي عني موطأ الإمام الأعظم أبي عبد الله مالك بن أنس رضي الله عنه، بحق روايتي له إجازة مكاتبة من مكة شرفها الله من سيدنا العلامة يحيى الحطاب المكي… وأجزت له أيضا أن يروي عني جميع الكتب المذكورة في أول الشرح بأسانيدها هناك بحق روايتي لجميعها عن العلامة يحيى المذكور… وأجزت له أن يروي عني مختصر خليل بحق قراءتي له قراءة بحث وتحرير على شيخنا العلامة الصالح المحقق محمد بَغْبُع بما يزيد على أربع ختمات أو خمسة بقراءتي وملازمتي له بضع عشرة سنة… فهذا ما تيسر قطفه في الساعة والعجلة من الأسانيد فليرو عني سيدي جميعها كيف شاء ومتى شاء، وعلى شرطه المعتبر عند أهل الأثر.
كتبه بابا بن أحمد يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الثاني عام سبعة وألف[27].
و- إجازته للعلامة أبي زيد عبد الرحمن التمنارتي:
هو العالم أبو زيد عبد الرحمن بن محمد التمنارتي المعافري الروداني، المحدث المسند، المؤرخ الضابط الأديب، قاضي الجماعة بتارودانت ومفتيها.
أخذ العلم عن أبيه وعن يحيى الوقاد التلمساني وولي القضاء والإفتاء بتارودانت.
ولد بتارودانت وتوفي بها سنة 1070 هجرية[28].
ويعتبر الفقيه عبد الرحمان التمنارتي أحد العلماء الذين لم يحالفهم الحظ أن يأخذوا عن العلامة أحمد بابا التنبكتي مباشرة أثناء وجوده في مراكش؛ ولذا طلب منه أن يجيزه فأجازه أحمد بابا ليروي عنه كل مروياته ومؤلفاته، إجازة عامة. وقد جاء على لسانه: “… ولما فاتني لقاؤه والأخذ عنه كتبت إليه بما نصه، بعد الصدر: العبد الفقير عبد الرحمان بن محمد الجزولي التمنارتي يطلب منكم لله أن تجيز له أن يروي عنك أسانيدك في الحديث من كل ما ثبت لك به رواية عن الخرقاني المكي، والحطاب وغيرهما في جميع أسانيدك المقيدة عندنا وغيرها، فكتب إلي بخط ولده محمد لعجزه عن الكتابة بفرط هرمه ما نصه:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فقد أجزت لك أن تروي عني جميع ما يجوز لي متلفظا بها بشرطه المعتبر عند أهلها. وكتبه محمد بن أحمد بابا بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت بإذن والده رضي الله عنه”[29].
هذه بعض إجازات أحمد بابا العلمية لبعض تلاميذه وأصحابه، وهي في الحقيقة قليلة بالمقارنة مع من أخذ عنه، لكننا نكتفي بما ذكرنا؛ لأن طبيعة هذا البحث لا تسمح لنا بأكثر من هذا. وهذه الإجازات تدل على مكانة أحمد بابا في الحديث خاصة وفي الفقه عامة. كما تبين أشهر المؤلفات الحديثية والفقهية المتداولة في الحلقات العلمية بالمغرب والسودان الغربي.
والحمد لله رب العالمين.
الخاتمة
بعد هذه الجولة السريعة في رحاب الإجازات العلمية ودورها في التواصل العلمي بين العلماء والمراكز العلمية في العالم الإسلامي عامة وفي المغرب والسودان الغربي خاصة نخلص إلى ما يلي:
- أن الاجازة العلمية هي إذن الشيخ لتلميذه ومن يستجيزه أن يروي عنه حديثا أو كتابا من تأليفه أو سائر مؤلفاته أو مروياته.
- أن الإجازات العلمية قاعدة أساسية لوصل الروايات والإبقاء على الإسناد في الأمة، فالإسناد هو الذي حفظ للأمة السنة النبوية، ووصل سلف الأمة بخلفها.
- أن الإجازات العلمية من أهم تقاليد الحياة العلمية الإسلامية التي ظهرت منذ العصر الإسلامي الأول وترسخت مع مرور الأيام، وأضحت علامة ترمز للعلوم الإسلامية.
- تعتبر الإجازات العلمية من أهم الوسائل الصحيحة السليمة التي يتم عن طريقها نقل مختلف العلوم وخاصة الإسلامية من جيل إلى جيل.
- أن الإجازات العلمية تمثّل رمزا علميا للهوية الحضارية للأمة الإسلامية تعمل على تصنيف مراتب طلاب العلم وتفصح عن عروجهم في مدارجه.
- أن الإجازات العلمية رمز من رموز الحياة العلمية الإسلامية التي أنتجها النظام التربوي الإسلامي، وظهرت في فضاء الحلقات العلمية وأسهمت في تنظيم تلقي العلم وتداوله بين الأجيال.
- أن الإجازات العلمية أداة للتفاهم والتواصل بين أهل العلم ونافذة يطل من خلالها أتباع كل مذهب على علوم الآخر، الأمر الذي يعزز الفهم الصحيح لآراء الآخر، كما أنها قناة للتواصل مع السلف تساعد على الاطمئنان إلى نسبة مؤلفات وأثار الماضين إلى أصحابها.
- أن الإجازات العلمية لون من ألوان التواصل الثقافي والعلمي بين الحواضر العلمية في المغرب والسودان الغربي.
- أن الإجازات العلمية جسدت صورة صادقة عن الروابط الثقافية والفكرية بين المراكز العلمية والمؤسسات التعليمية بالعالم الإسلامي شمالا وجنوبا، كما أسهمت في توطيد الاتصال العلمي بين علماء العالم الإسلامي.
- أن الإجازات العلمية أسهمت في تجسيد أواصر الأخوة العلمية وتمتين الروابط الثقافية والصلات الفكرية بين الحواضر العلمية بالعالم الإسلامي.
- أن الإجازات العلمية مصدر مهم لمعرفة المؤلفات والمصنفات المنتشرة والمتداولة في البرامج التعليمية والمقررات الدراسية في الحلقات العلمية بالمغرب والسودان الغربي.
- أن الإجازات العلمية أسهمت في تطوير العلوم والمعارف، وأرست دعائم الحركة العلمية والثقافية في المغرب والسودان الغربي.
- أن الإجازات العلمية توضح الصلات القائمة بين المغرب والسودان الغربي، وتؤكد على أن الحركة العلمية والمقررات الدراسية في الحلقات العلمية بالمغرب والسودان الغربي وجهان لعملة واحدة، فهي وسيلة مباركة للتواصل بين أهل العلم، وسبيل لمدارسته سعيا لخدمة الأمة والاهتمام بشؤونها.
هذا ما تيسر جمعه في هذا الموضوع فما كان صوابا فمن الله وما كان من خطإ فمني، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الهوامش
[1] – سورة طه، الآية: 114.
[2] -سورة فاطر، الآية: 28.
[3] – متفق عليه.
[4] -يراجع: معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج1، ص:494. مادة جوز/ لسان العرب، لابن منظور، ج5، ص:326 /لسان المحدثين، ج2، ص:35.
[5] -مدرسة الإمام البخاري: يوسف الكتاني ج 1، ص: 129/ مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ص: 111، الطبعة:1، 1416هـ /1995م، دار الكتب العلمية، لبنان بيروت/ ألفية الحديث مع شرحها فتح المغيث ص: 213 –
[6] -مدرسة الإمام البخاري، ص: 135/ ابن الصلاح، ص:111.
[7] -مدرسة الإمام البخاري، ص: 131 نقلا عن فهرس السراج، ص:33.
[8] -مدرسة الإمام البخاري، ص: 131.
[9] – يراجع: الإجازات العلمية عند المسلمين: د عبد الله فياض، الطبعة الأولى: 1967م، مطبعة الإرشاد، بغداد، ص: 36 – 37.
[10] – يراجع: الإجازة من الأهلية العلمية إلى الوجاهة الاجتماعية، لعبد الكريم السمك.
[11] – يراجع: كفاية المحتاج، ج 2، ص: 281 – 285. فتح الشكور، ص: 31–37. السعدي، ص:35. السعادة الأبدية، ص:30 – 33. انظر أيضا بحثنا في ددع: أحمد بابا التنبكتى وجهوده في الفقه المالكي.
[12] – يراجع: كفاية المحتاج، ص:462.
[13] -نشر المثاني، ج 1، ص: 273/ الإعلام، للمراكشي، ج2، ص:304.
[14] -فتح الشكور، ص: 33/ نشر المثاني، ج1، ص: 272 – 273.
[15] -يراجع فتح الشكور، ص:33.
[16] – يراجع: فتح الشكور، ص:33 – 34. مصدر جديد لترجمة أحمد بابا: جون هنويك، ص: 576 – 577.
[17] – روضة الآس، ص:303.
[18] – يراجع مقدمة روضة الآس، خلاصة الأثر، ج 1، ص:302 – 311، الإعلام للمراكشي، ج 2، ص:308 – 314.
[19] – يعني كتابه نيل الابتهاج بتطريز الديباج، وقد ناول أحمد بابا مسودته للمقري ثم كتب على ظهر أول ورقة منها هذه الإجازة.
[20] – يعني مؤلفاته، وهي مذكورة في روضة الآس وقد حذفناها للاختصار. يراجع روضة الآس، ص:303 – 305.
[21] -حذفنا سنده في هذه الكتب للاختصار، ومن أراد الوقوف على سنده، فلينظر روضة الآس، ص:306 – 312.
[22] -روضة الآس، ص: 305 – 312.
[23] -إجازة الخرقاني، موجودة في الفوائد الجمة، ص: 199 – 206. أو (ورقة: 100و301-ظ). ومن أراد الوقوف عليها فليراجعها هناك.
[24] -يراجع: الفوائد الجمة، ص:210. مخطوط بالخزانة العامة تحت رقم 3693 د (ورقة 105 ظ).
[25] -حذفنا سنده للاختصار، ومن يريد الاطلاع عليه فليراجع الفوائد الجمة للتمنارتى، مخطوط ب خ ع تحت رقم 3693د، ص:210 – 214.
[26] -جميع علامات الحذف تدل على حذف الأسانيد، وقد عمدنا إلى حذفها للاختصار.
[27] -يراجع الفوائد الجمة، ص:210 – 213.
[28] – فتح الشكور، ص:176، شجرة النور الزكية، ص:309.
[29] -الفوائد الجمة للتمنارتي، مخطوط بالخزانة العامة تحت رقم: 3693 د، ص: 49.
المصادر والمراجع
- الإجازات العلمية في الحضارة العربية الإسلامية أهميتها وفوائدها: مقالة منشورة في مدونة الدكتور قيس فتحي.
- الإجازات العلمية عند المسلمين: د. عبد الله فياض، الطبعة الأولى: 1967م، مطبعة الإرشاد–بغداد.
- لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمد بن منظور. الطبعة الأولى، دار صادر، بيروت.
- الإجازة العلمية لعلماء المغرب الأوسط من خلال كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا التنبكتي، مقالة منشورة في مجلة العبر للدراسات التاريخية والأثرية في شمال إفريقيا، المجلد الرابع، العدد الثاني، سبتمبر 2021م.
- الإجازة من الأهلية العلمية إلى الوجاهة الاجتماعية: عبد الكريم السمك.
- الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام: العباس بن إبراهيم المراكشي. طبعة 1974م المطبعة الملكية الرباط.
- ألفية الحديث مع شرحها فتح المغيث: الحافظ العراقي. الطبعة الثانية: 1412هـ/1988م، عالم الكتب بيروت.
- خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: محمد أمين بن فضل الله المحبي، مكتبة خياط، بيروت لبنان.
- روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس: أحمد بن محمد المقري. الطبعة الثانية: 1403هـ/1983م، المطبعة الملكية – الرباط.
- فتح الشكور، لأبي عبد الله الطالب البرتلي، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي، الطبعة الأولى: 1401هـ/1981م، دار الغرب الإسلامي، بيروت، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر.
- الفوائد الجمة: عبد الرحمن التمنارتي، مخطوط بـ خ ع تحت رقم: 3693 د.
- كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج، لأحمد بابا التمبكتي السوداني، دراسة وتحقيق: محمد مطيع، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1421هـ/2000م.
- مدرسة الإمام البخاري في المغرب: د يوسف الكتاني. دار لسان العرب، بيروت.
- معجم لسان المحدثين: محمد خلف السلامة. (نسخة رقمية).
- معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا، تحقيق: عبد السَّلام محمد هَارُون، منشورات اتحاد الكتاب العرب، الطبعة: 1423هـ/2002م.
- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، الطبعة الأولى: 1416هـ/1995م. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
- نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني عشر: محمد بن الطيب القادري، تحقيق: محمد حجي وأحمد توفيق. طبعة 1398هـ/1978م، دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر.
- نيل الابتهاج بتطريز الديباج: أحمد بابا التمبكتي. الطبعة الأولى 1398هـ/1989م. منشورات كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس.