مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

التواصل العلمي بين علماء إفريقيا: الرموز والآليات

ذ. محمد الحنفي دهاه
جامعة نواكشوط- موريتانيا

 

 

إن فريضة نشر الإسلام الموكولة إلى أعيان العلماء تنفيذا للتوجيهات النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»[2]، جعلت من التواصل العلمي في أرجاء قارتنا السمراء أمرا محتما؛ فلا يكاد الإسلام يستقر في مدينة أو قرية حتى يفتح حملة الدين من الدعاة أو التجار فيها مدرسة لتعليم القرآن الكريم والعلوم الشرعية واللغة العربية التي لا يفهم أحد الإسلام فهماً صحيحاً بدونها، وهو ما وثّق الصلات بين الوافدين من حملة الدين وبين سكان القارة وفتح الباب أمام كثير منهم للدخول في الإسلام والاشتغال بتعلم العلوم الشرعية واللغوية والسعي للاستزادة منها عبر الرحلات إلى الحواضر العلمية الإفريقية ذات المدارس العريقة، كما أن رابطة الانتماء إلى الطرق الصوفية وشيوخ العلم ظلت على مر العصور تقوي هذه الصلات وتشد عراها.

وقد نصت فقرات متعددة من الرسالة الملكية التي بعث بها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره إلى المشاركين في الندوة التي نظمتها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة حول موضوع: “ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الإفريقي”، في مدينة مراكش من 08 إلى 10 يوليوز 2023م، نصت على ضرورة تعزيز قيم التواصل العلمي بين العلماء الأفارقة واستغلال كل الوسائل الحديثة المعينة على تحقيق تواصل مثمر بين مختلف المعنيين بتدبير الشأن الديني في بلدان القارة والاستفادة من التجارب الناجحة للدول التي قطعت أشواطا مهمة في سبيل ضبط تسيير الشؤون الدينية وخاصة ما يتعلق منها بالفتوى، كما أكد جلالته في هذه الرسالة أن هذا التعاون والتواصل يمكن أن يحتفظ فيه كل بلد بمميزاته العلمية والثقافية الخاصة به[3].

وسنحاول في هذا المقال الذي عنوانه: التواصل العلمي بين علماء إفريقيا: الرموز والآليات، تسليط الضوء على أهم آليات هذا التواصل العلمي، وتبيان وسائله وأبرز رموزه.

وذلك بحسب الخطة التالية:

المبحث الأول: التواصل العلمي المفهوم والتجليات، ونتناول هذا المبحث في مطلبين؛ نخصص أولهما لمفهوم التواصل العلمي، وثانيهما لما نعنيه بالرموز والآليات.

المبحث الثاني: رموز التواصل العلمي في القارة الإفريقية، ونتناوله من خلال مطلبين؛ نخصص أولهما لبعض مشاهير الأمراء، وثانيهما لبعض مشاهير الرموز العلمية التي كان لها نوع تأثير في القارة الإفريقية.

المبحث الثالث: قنوات التواصل العلمي بين علماء إفريقيا، ونتناوله من خلال مطلبين؛ نخصص أولهما للرحلات العلمية، وثانيهما للإجازات العلمية.

الخاتمة.

المبحث الأول: التواصل العلمي المفهوم والتجليات

نتناول في هذا المبحث مفهوم العنوان بشقيه، ونبيّن فيه ما نعنيه بالتواصل العلمي، وكيف تم هذا التواصل في مطلب أول، ثم نبين في المطلب الثاني ما نعنيه بالرموز والآليات.

المطلب الأول: مفهوم التواصل العلمي

نتعرّض قبل التعريف الاصطلاحي للتواصل لمفهوم الاتصال في اللغة، فوصل الشيء بالشيء وصلا وصلة: ضمه به وجمعه ولأمه، ووصل فلانا وصلا، وصلة، [ضد هجره]، ويقال: وصل حبله بفلان – برَّه، وأعطاه مالا، ووصل رحمه: أحسن إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، وعطف عليهم، ورفق بهم، وراعى أحوالهم[4].

وأما في الاصطلاح فقد تكاثرت التعريفات وتعددت؛ ومجملها وخلاصتها التالي:

التواصل أو الاتصال: هو عبارة عن عملية تفاعل اجتماعي، ومشاركة إنسانية، تهدف إلى تقوية العلاقات بين أفراد الأسرة أو المجتمع أو الدول، عن طريق تبادل المعلومات والأفكار والمشاعر، التي تؤدي إلى التفاهم والتعاطف والتحابِّ[5].

وقد خصص التواصل بكونه علميا، فخرجت أنواع التواصل الأخرى؛ فموضوعنا يتعلق بالتواصل العلمي أخذا وعطاء، سواء تعلق الأمر بالأخذ من المشايخ في البلد أو الرحلة إليهم أو عن طريق الإجازة والمراسلة.

المطلب الثاني: تجليات التواصل العلمي

للتواصل العلمي بين العلماء في إفريقيا تجليات مختلفة، فقد دخل القارة الإفريقية في قرون الإسلام الأولى مجاهدون فاتحون، إلا أن أغلب التواصل العلمي وقع عن طريق التجار المغاربة والمصريين الذين كانوا يترددون على الأسواق الرئيسة في إفريقيا، وذلك في العقود الأخيرة للقرن السابع الميلادي الموافق للقرن الأول الهجري، ومن الطبيعي أن ينقل هؤلاء التجَّار لغتهم إلى غرب القارة الإفريقية، أما شرقها وخاصة الحبشة وما جاورها من البلدان مثل جيبوتي والصومال، فقد عُرفت اللغة العربية هناك منذ قرون قبل ظهور الإسلام، لصلة متكلميها بأرض الحجاز واليمن[6].

هذا بالإضافة إلى ما للحج من دور كبير في نقل اللغة العربية والثقافة الإسلامية إلى القارة، فقد كان بعض الحجاج يبقون في الحجاز بعد الحج للدراسة، وتحصيل العلم والمعرفة، ثم يرجعون إلى بلدانهم لنشر العلم الذي حصّـلوه في الحجاز، ومعهم بعض الكتب الإسلامية والعربية، وكان بعض الأمراء والملوك الأفارقة حين حجهم يستقدمون إلى بلدانهم بعض العلماء لتعليم الإسلام واللغة العربية، ويجلبون معهم كتباً في العلوم الإسلامية والعربية، وبهذه الطرق وصلت كتب كثيرة إلى أرض إفريقيا، وبخاصة غربها؛ مما ساعد على انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية. وأصبحت اللغة العربية هي لغة الدين والثقافة والحياة الإدارية، وأصبح الحرف العربي هو الحرف الذي تُكتب به أشهر اللغات الإفريقية، مثل الهوسا والفلانية والسواحلية والولفية، وأصبحت المنطقة عظيمة الحضارة والتقدم بسبب الإسلام ولغته، “وسرعان ما شكّل الإسلام عادات السكان، وطور أحوالهم، حتى صار مستوى التفكير والثقافة يقارن بنظائره، أو يفوقه في الدول المعاصرة لها، في تلك الفترة في أوروبا “[7].

المبحث الثاني: رموز التواصل العلمي في القارة الإفريقية

المطلب الأول: مشاهير التواصل العلمي في القارة الإفريقية من الأمراء

اشتهر مجموعة من الأمراء في إفريقيا بدورهم البارز في الحياة العلمية بالقارة، ولما كان هذا البحث لا يسمح بالاستقصاء نركز في هذا المطلب على الشخصيات التالية:

1 – المَلِكُ الأشْرَفُ الحَاج مانسا موسى(1280م – 1337م– مالي)

هو المانسا العاشر لمملكة مالي بين 1312 و1337 للميلاد، عند اعتلائه العرش، كانت مملكة مالي تتكون من الأراضي التي كانت تابعة لإمبراطورية غانا ومالي وما جاورهما. استطاع أثناء فترة حكمه إيصال مملكة مالي لذروتها، من فوتاجلون إلى أغاديس، كما وضع أسس العلاقات الدبلوماسية مع مملكة البرتغال والدولة المرينية والمملكة الزيانية بتلمسان والدولة الحفصية والدولة المملوكية. وعادة ما تصنف حقبته كالعصر الذهبي لمملكة مالي.

قال في العبر: “فولي منهم (منسا موسى) بن أبي بكر، وكان رجلا صالحا، وملكا عظيما، له أخبار في العدل تؤثر عنه، وعظمت المملكة في أيامه إلى الغاية، وافتتح الكثير من البلاد “[8].

“وقال في مسالك الأبصار: حكى ابن أمير، حاجب والي مصر عنه، أنه فتح بسيفه وحده أربعا وعشرين مدينة من مدن السّودان ذوات أعمال وقرى وضياع”[9].

وفي أخبار السلطان منسا، أنه صحب معه عند عودته من الحج فيمن اصطحب، العالم الفقيه عبد الرحمن التميمي الحجازي، الذي سكن تنبكتو، فوجدها تغص بالفقهاء السودانيين، الذين لم يستطع مجاراتهم في الفقه المالكي، فلم يكن أمامه إلا أن يـرحل إلى مدينة فاس، ليتفقه هناك ثم يعود ثانية إلى تنبكتو، فتوطن بها حتى توفي وهو جد القاضي حبيب [10].

وبعث منسا موسى عددا من طلبة مالي إلى المراكز الثقافية بالمغرب، حتى قال أحد المتتبعين لهذا الابتعاث في هذا الصدد: «إذا كانت طريق التقوى والورع تنتهي بالسودانيين إلى مكة المكرمة، فإن طريق العلم كانت تنتهي بهم إلى فاس»[11].

  • – الشيخ عثمان بن فودي (نيجيريا 1754م – 1817م)

ولد الشيخ عثمان بن فودي 15 ديسمبر 1754م، وقد كان لشخصيته التي جمعت بين العلم والإمارة أثر كبير في التواصل الثقافي في المنطقة التي عاش فيها، فهو أيضا مؤسس خلافة صكتو، فبالإضافة إلى كونه مالكي المذهب فهو قادري الطريقة، ويعتبر من أعظم أمراء إفريقيا المسلمين.

كان يدرس فقه المدرسة المالكية في مدينة جوبير حتى عام 1802م فدفعته أفكاره الإصلاحية ومعاناته وقمع السلطات المحلية المتزايد إلى قيادة أتباعه إلى المنفى، وبدأ في هذا المنفى ثورة سياسية واجتماعية انطلقت من جوبير وانتشرت في أنحاء نيجيريا الحديثة والكاميرون كما أن تآليفه قد تصل إلى مائة مؤلف، ما بين كتاب ومقالة، ومن أشهرها كتاب (إحياء السنّة وإخماد البدعة)، وله أيضاً: (مفتاح التفسير)، وهي منظومة تزيد على سبعمائة بيت، نظم فيها علوم القرآن من كتابي الإتقان في علوم القرآن والنقاية للسيوطي، وله في مجال النحو (البحر المحيط)، وهو منظومة في أربعة آلاف وأربعمائة بيت، نظم فيها جمع الجوامع وهمع الهوامع للسيوطي، وفي الصرف له (الحصن الرصين)، وهو منظومة في ألف بيت، وله ديوان شعري مشهور وهو (تزيين الورقات لما لي من الأبيات). وكانت أسرته أسرة علم؛ فشقيقه الشيخ عبد الله بن فوديو صاحب ضياء التأويل في معاني التنزيل، وابنه الشيخ محمد بلو بن عثمان بن فوديو، له مؤلفات عدة، ومن أشهرها (إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور)، وهو من المراجع الأساسية لتاريخ الجهاد العثماني[12].

  • – الإمام عبد القادر كن (1728م – 1810م)

يعتبر الإمام عبد القادر كن أحد أبرز مؤسسي الدولة الإمامية في حوض السنغال، وكان له دور كبير في إنعاش الثقافة الإسلامية ونشرها في منطقة فوتا، (وكان أول عمل قام به لإصلاح وإنعاش الحركة الثقافية؛ أن أقدم على بناء أربعين مسجداً جامعاً في طول البلاد وعرضها، وعين في كل مسجد إماماً راتباً، يتولى القضاء في الوقت نفسه، وفي كل مسجد حلقات لدراسة القرآن الكريم والدين واللغويات …وقد شجع العلماء، وأولى العلم بالاهتمام) [13]، وتعهد بنمو الحركة الثقافية في منطقة فوتا وما جاورها، حتى وصلت بلاد فوتا في عهده إلى مستوى انتزع فيه قيادة الحركة الثقافية الإسلامية من حوض النيجر، وقد استمرت الدولة الإمامية في عطائها الثقافي حتى جاء الاستعمار الفرنسي وقضى عليها[14].

  • – الشيخ عمر بن سعيد الفوتي(1797م – 1864م)

هو أحد كبار الفقهاء المتصوفين في السنغال وغرب إفريقيا. ولد في مدينة حلوار في فوتا تورو (السنغال حاليا)، سلك منهج التصوف بعد أن تبحر في العلوم الشرعية من فرائضها وسننها ومنطوقها ومفهومها وتضلع في غيرها من الفنون، فأخذ الطريقة التجانية عن عبد الكريم بن أحمد الناقل الفوتجلي التنبوي عن سيدي مولود فال اليعقوبي، ثم لقي في بلاد الحرمين سيدي محمد الغالي بوطالب وهو ممن أخذ الطريقة عن الشيخ التجاني مباشرة، فأخذ عنه ولازمه مدة ثم رجع إلى فوتا مرورا بمصر حيث لقي العلماء، وباحثهم في علوم شتى، وقصد البلاد النيجيرية ونزل بسكوتو على الإمام العادل محمد بِلُو ابن الشيخ عثمان بن محمد المعروف بابن فودى عام 1246ه، فرحب بالشيخ عمر وأكرمه وبجله وفرح بقدومه وأحسن له الضيافة وتلطف له وسهل له جميع الأمور، وتعاونا على العلوم وإحياء السنة والجهاد في سبيل الله فلم يهيئ جيشا إلا وكان الشيخ عمر من رؤسائه حتى جعله قائدا لعسكره لكونه يغلب وينتصر في كل معركة حضرها حتى فتح الله له الكثير من الأراضي والبلدان التي عجزوا عن فتحها منذ زمن والده لشدة كفرها وعناد أهلها، فانتشر صيته رضي الله عنه في أقطار هوصا وأقبل الناس عليه من كل جانب بالمبايعة والتعلم، فلما توفي محمد بلو، ارتحل إلى ماسنة ثم إلى سغ سيكر ثم إلى أرض فوته حيث انتشرت على يده الطريقة التجانية، وكان استقراره في محل دنقراي عام 1265هـ.

– جهاده واستشهاده

كانت أول مصادمة بين الحاج عمر الفوتي وأعدائه عام 1268 أو 1269 للهجرة على اختلاف بين المصادر، وقد استمر في الجهاد اثنتا عشرة سنة، ولم يزل يجاهد في سبيل الله ويتغلب على ملك بعد ملك ويفتح المدن والأقاليم وينشر الإسلام في تلك الربوع من أرض كرت وكنق وباغنة إلى أن وصل سغُ سيكر، فلما رأى سلطانها أن الغلبة تكون للشيخ استعان ببعض أمراء المسلمين، ولكن الشيخ عمر انتصر عليهم، ولما تمكن الأمر للحاج عمر في ماسنا جمع قواده وأمراءه وجعل على رأسهم ابنه أحمد بعد أن عقد له البيعة وقال له ارجع إلى سيغو لأنهم حديثو عهد بالإسلام فرجع بأكثر الجيوش، فاستغل الأعداء قلة الجيش فحاصروا الشيخ ومن معه واستشهد في نهاية المطاف بعد أن أضرم الأعداء النار على فم الغار الذي دخل فيه، وكان ذلك آخر عهد بالشيخ عمر رضي الله عنه [15].

5 – السلطان محمد باباتو (النيجر وغانا-القرن التاسع عشر الميلادي)

السلطان محمد باباتو الذي ولد في قرية أندونغا (INDONGA) في جمهورية النيجر، هاجر بعد دراسته في قريته إلى شمال غانا للتجارة، وكانت هناك جماعات من قبيلته (زبرما) قد هاجرت قبله إلى تلك المنطقة للغرض نفسه، وقد تمكنت هذه الجماعة من فرض سيطرتها ونفوذها على المنطقة بالدعوة والجهاد، وقد خلف محمد باباتو زعيم زبرما الذي واصل ما بدأه سلفه، وانضمت إليه جماعات من قبائل الفلاني والهوسا الموجودة في المنطقة. وقد شهدت مناطق شمال غانا في عهد محمد باباتو تشييد المساجد والمدارس الإسلامية، واستقدم الفقهاء والعلماء من شمال نيجيريا ومالي، فأسهموا في نشر الثقافة الإسلامية والعربية في شمال غانا [16]، ومنها انتشرت إلى بعض الدول المجاورة مثل شمال توغو وجنوب بوركينا فاسو[17].

المطلب الثاني: بعض مشاهير الرموز العلمية الذين كان لهم تأثير في القارة الإفريقية:

ازدهرت في إفريقيا مراكز علمية كانت ذات شهرة عالمية مثل القرويين والقيروان، وبعض الحواضر التي كان لها تأثير عميق في التاريخ العلمي للقارة كفاس ومكناس وتمبكتو وشنقيط وغيرها من الحواضر التي تزخر بها القارة الإفريقية، وهذه المراكز والحواضر خرجت علماء كبارا كان لهم حضور متميز في العالم الإسلامي ككل، لأنهم أخذوا العلم من معاقله الأصلية وسافروا إلى المشرق والمغرب والتقوا بالعلماء هناك وأفادوا واستفادوا وكان لهم دور يذكر، وسنورد هنا نماذج لبعض الرموز العلمية في القارة الذين كان لهم دور في التواصل العلمي بها تحصيلا وتدريسا وإفتاء، نذكر منهم:

  • – الشيخ أحمد فورتو البرنوي (القرن 16م)

الشيخ أحمد فورتو البرنوي: كان معاصرًاً للسلطان إدريس ألوما سلطان إمبراطور البرنو من عام 1570–1603 م، وكان الشيخ أحمد فورتو حافظ سره وإمامه في الصلاة، وله كتاب في تاريخ البرنو، وكتاب آخر في حروب السلطان إدريس ألوما وسيرته، ويعد الكتابان مصدرين مهمين عن إمبراطورية كانم برنو في القرن السادس عشر الميلادي، وقد ترجم الكتابين إلى الإنجليزية رتشمون بالمر R.M.PALMER، ونُشرا عام 1926م[18].

  • – الشيخ صالح الفلاني (1166 هـ – 1218هـ)

هو الحافظ صالح بن محمد الفلاني، وهو من العلماء الأفارقة الذين اشتهروا في خارج القارة. ولد الشيخ صالح الفلاني بإقليم فوتاجالو -غينيا– عام 1166هـ، ونشأ بها، وأخد العلم من علمائها، ثم ارتحل لطلب العلم وعمره اثنا عشر عاماً، فدخل مدينة تمبكتو ومكث فيها سنة، ثم ارتحل إلى الصحراء فمكث عند الشيخ محمد بن سنة عالم الصحراء في وقته، ومكث عنده ست سنوات، ثم ارتحل إلى المغرب، ودخل مراكش ومكث بها ستة أشهر، ثم ارتحل إلى تونس وأخذ من علمائها. ثم ارتحل إلى مصر، وبقي فيها مدة يدرس على شيخ من شيوخها يسمى الشيخ علي الصعيدي أبو الحسن، وكذلك درس عند الشيخ الحافظ مرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس، ثم ارتحل إلى المدينة المنورة التي استقر فيها بعد أداء فريضة الحج، وفي المدينة وفد عليه طلاب كثر أخذوا عنه الإجازة في الحديث الشريف، منهم مَن كان مِن أبناء قارته وبعضهم كان من الوافدين عليه من مختلف بلاد العالم الإسلامي؛ ومن مؤلفاته (قطف الثمر في أسانيد المصنفات في الفنون والأثر- ط)، و(إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار- ط)، و(الثمر اليانع) رسالة في تراجم أشياخه. ومكث في المدينة المنورة إلى أن وافته المنية عام 1218هـ[19].

  • – سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي(1152هـ – 1233هـ)

قضى سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم حوالي أربعين سنة من عمره في طلب العلم مكث منها فترة في بلده حيث لازم علامة شنقيط في النحو المختار بن بونا (سيبويه شنقيط) عدة سنوات وأخذ عن غيره من العلماء. ودرس خلال هذه الفترة علوما جمة ومتونا متعددة منها الكافية لابن مالك في النحو مع الشروح، وألفية السيوطي في البيان مع شروحها، وكبرى السنوسي في التوحيد، وغير ذلك من العلوم.

وبعد أن استكمل العلوم الموجودة في البلد تاقت نفسه للمزيد، فشد الرحال بهمة عالية إلى المغرب راكبا المخاطر وقاطعا للفيافي والصحاري الشاسعة، ليروي عطشه ويشبع نهمه من العلم، وقد تسلح بالعزيمة والصبر، وتحمل صعابا كثيرة في الطريق بين شنقيط والمغرب.

قضى الشيخ سيدي عبد الله عدة سنوات في المغرب ينهل من العلم وصحب أكابر العلماء فيها مثل الشيخ أبي عبد الله محمد بن الحسن بن مسعود البناني (تـ 1224هـ) محشي عبد الباقي الزرقاني، والتاودي بن سودة، وتوطدت الصلة بينه وبين سلطان المغرب آنذاك سيدي محمد بن مولاي عبد الله بن مولاي إسماعيل وكان عالما يكرم العلماء. ولما أراد الشيخ الحج وزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم جهز له السلطان باخرة تحمله وأرسل معه ابنه اليزيد. والتقى بأرض الحجاز بكبار العلماء فأفاد واستفاد.

وبعد حجه مر أثناء عودته بمصر واتصل بعلماء الأزهر، وقد أهدى له محمد علي باشا حاكم مصر نجيبة من عتاق الخيل، فباعها واشترى بها كتاب مواهب الجليل للحطاب، وسئل عن تلك الفرس بعد ذلك فقال: “جعلتها حطابا.”

وبعد أن قضى حوالي عشرين سنة في طلب العلم بين المغرب والحجاز ومصر رجع إلى موريتانيا وأنشأ محظرته وبدأ التدريس حيث انكب عليه طلاب العلم من كل حدب وصوب ينهلون من معين علمه الصافي، وكانت محظرته مرجعا في علم الأصول بل يرجع إليها الفضل في تطويره وتجديده ووضع منهجية محكمة لتدريسه في عموم المحاظر الشنقيطية وبقي سيدي عبد الله قائما على هذه المحظرة حتى توفي سنة 1233هـ [20]. ولم يمنعه انشغاله بالتدريس عن التأليف فقد ألف كتبا مفيدة في مواضيع عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • مراقي السعود في الأصول،
  • نشر البنود على مراقي السعود في الأصول،
  • فيض الفتاح على نور الأقاح في البيان،
  • ونيل النجاح بشرح نور الأقاح في البيان،
  • صحيحة النقل في شرف إدوعل وبكرية محمد قل،
  • روض النسرين في الصلاة على سيدي الكونين،
  • طلعة الأنوار في مصطلح الحديث،
  • هدي الأبرار شرح طلعة الأنوار،
  • نظم غرة الصباح فيما يلزم لطالب معرفة صحيح البخاري من الاصطلاح،
  • نيل النجاح نظم شرح غرة الصباح،
  • مطالع التنوير في آفاق التطهير،

وغيرها…

المبحث الثالث: قنوات التواصل العلمي في القارة الإفريقية

نتناول هذا المبحث من خلال مطلبين نخصص أولهما: للرحلات، وثانيهما:للإجازات العلمية.

المطلب الأول: الرحلات العلمية

لقد كان للرحلات العلمية دور كبير في ربط الصلات بين بلدان المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث كانت سببا لتلاقح الأفكار والثقافات وتفاعلها عن طريق الإجازات والأخذ عن الشيوخ، ونسخ الكتب وروايتها، وسنتعرّض في هذا المطلب لنموذجين من الرحالة المغاربة هما:

1 – أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري السبتي (657 هـ – 721هـ)

وهو شخصية علمية شهد لها المتقدمون والمتأخرون بالإحاطة والتمكن من علوم الرواية والدراية، فهو دفين الحضرة الإدريسية المشرفة، وقد كتب رحلة مشهورة سماها: “ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة.”

ترجم له ابن الخطيب في الإحاطة بقوله: «الخطيب المحدّث، المتبحّر في علوم الرّواية والإسناد. كان رحمه الله فريد دهره عدالة وجلالة، وحفظا وأدبا، وسمتا وهديا، واسع الأسمعة، عالي الإسناد، صحيح النّقل، أصيل الضّبط، تام العناية بصناعة الحديث، قيّما عليها، بصيرا بها، محققا فيها، ذاكرا فيها الرجال، جمّاعة للكتب، محافظا على الطّريقة، مضطلعا بغيرها من العربية واللغة والعروض، فقيها أصيل النّظر، ذاكرا للتفسير، ريّانا من الأدب، حافظا للأخبار والتواريخ، مشاركا في الأصلين، عارفا بالقراءات، عظيم الوقار والسّكينة، بارع الخطّ، حسن الخلق، كثير التّواضع» …[21]

وتمثّل رحلته الآنفة الذكر تواصل هذا الرحالة مع العلماء للأخذ عنهم وتدوين مسائل العلم، فقد بدأ رحلته داخل القطر المغربي حيث ارتحل إلى فاس، واشتغل بالمذهب، ورجع إلى سبتة، ثم ارتحل إلى تونس أول محطة في رحلته إلى المشرق وقد أخذ في هذه الرحلة عن جم غفير من الشيوخ، ذكر الشوكاني في البدر الطالع بعضهم فقال: «وتفقه وأقرأ وَأخذ الْأصْلَيْنِ عَن جمَاعَة وَحج وجاور وَدخل مصر وَالشَّام فَسمع من الْفَخر أَبي البُخَارِيّ والقطب القسطلاني وَابْن دَقِيق الْعِيد، وَله مصنفات مِنْهَا الرحلة المشرقية فِي سِتّ مجلدات مُشْتَمِلَة على فَوَائِد كَثِيرَة »[22].ومن خلال رحلة ابن رشيد ندون الملاحظات التالية:

معرفته بعلم الحديث سندا ومتنا، فقد ذكر أنه ضمّن هذا المؤلف “من الأحاديث النبوية، والرغائب الأصلية والفقهية.. وضبط المشكل من أسماء الرجال، والتعريف بكثير من المجاهيل والأغفال “[23].

وقال في موطن آخر: “وفيه أيضا مواضع في الإسناد والمتون والآداب ذوات الفنون، وقع الغلط فيها من غيري في سند أو متن، فما علمت وجه الصواب فيه أوضحته، وأقمت صوابه ونبهت إلى ذلك وأصلحته، وبعض بقي على حاله مقفلا، فكتب مغفلا وضبب عليه، أو جعلت في الحاشية علامة نظر ترشد إليه “[24].

وقال أيضا: “وكذلك من وصفته من شيوخنا وأصحابنا بصفة أو حليته بحلية، فلم أتجاوز في أوصافهم بل جئت بما هو أقرب إلى إنصافهم، وإن سلكت في بعضها على عادة أهل الآداب من الشعراء والكتاب، فما قلت إلا بما علمت بعد، ويشهد لهم بذلك ما لهم من السؤدد والمجد “[25].

والحاصل أن ابن رشيد – وهو يمارس عملية نقل المرويات، والأخذ عن الشيوخ – كان يسعى إلى الإحاطة في رحلته بجميع ما ترجى منه فائدة علمية سواء تم ذلك بالتردد على حلقات شيوخ الحديث أو منازلهم، أو بتدوين المجموعات الحديثية، والمصنفات المسموعة، أو المقروءة على طبقة العلماء الذين اتصل بهم، لكن حرصه على التحمل والنقل الواسعين لم يحولا دون إعماله لأسلوب المفاضلة بين الشيوخ، ومصادر المعرفة الشرعية والترجيح بينها، على أساس الانضباط الخلقي والكفاءة العلمية لدى الشيوخ، والإفادة والإبداع في الكتب والدواوين [26].

2 – رحلة أبي علي اليوسي المغربي (تـ. 1102هـ)

هذه الرحلة كتبها ابنه الحسن اليوسي (المتوفى بعد 1119هـ)، ولم يسلك اليوسي في هذه الرحلة مسلك الرحالة من تدوين مجالس العلم والإجازات؛ لأن اليوسي رحل بعد تقدمه في السن، وشهرته بالعلم سبقته إلى المشرق إلا أنها لم تخل من إشارات إلى التواصل مع بعض العلماء؛ ففي مصر يفد الشيخ محمد الخرشي شارح خليل على جلالته وقدره على اليوسي للقاء به، فيستقبله اليوسي بترحاب، فقرأ على اليوسي في بعض المجالس شيئا من البخاري، وختم الأمر بإجازة اليوسي له على ذلك [27].

وقد بسط كاتب الرحلة ترجمة الخرشي المذكور فعرف به ووصفه خلقا وخلقا.

وفي طرابلس يتصل جماعة من أهل العلم الموجودين بها آنذاك من أهلها وأهل صفاقس بالشيخ اليوسي ويستدعون منه الإجازة بكتابة المحاضرات وبقية مؤلفاته ورواياته.

ولما كان الاستدعاء منظوما فقد كلف الشيخ اليوسي ولده لينوب عنه في كتابة الإجازة للمذكورين أيضا نظما، ثم عقب عليها اليوسي بالتصحيح والتصديق على ذلك [28].

ومن المستفيدين من هذه الإجازة محمد بن أحمد المكني وهو الذي نظم الاستدعاء وقدمه باسمه، واسم رفقائه الطالبين في الإجازة، وهم عبد السلام بن عثمان الأسمر الحفيد، وعلي النوري الصفاقسي.

المطلب الثاني: الإجازات العلمية

الإجازة نوعان: إجازة للرواية، وإجازة بالتدريس والفتيا، أما الإجازة بالرواية فهي أنواع ذكرها الخطيب البغدادي في الكفاية فقال: «فأولها المناولة، وهي أرفع ضروب الإجازة وأعلاها، وصفتها: أن يدفع المحدث إلى الطالب أصلا من أصول كتبه، أو فرعا قد كتبه بيده، ويقول له: هذا الكتاب سماعي من فلان، وأنا عالم بما فيه، فحدث به عني.

النوع الثاني من أنواع الإجازة وهو أن يدفع الطالب إلى الراوي صحيفة قد كتب فيها: إن رأى الشيخ أن يجيز لي جميع ما يصح عندي من حديثه فعل، فيقول له الراوي بلفظه: قد أجزت لك كل ما سألت، أو يكتب له ذلك تحت خطه في الصحيفة، ويقرأه عليه.

النوع الثالث من أنواع الإجازة وهو أن يكتب الراوي بخطه جزءا من سماعه، أو حديثا، ويكتب معه إلى الطالب: إني قد أجزت لك روايته، بعد أن صححته بأصلي، أو بعد أن صححه لي من أثق به.

النوع الرابع من أنواع الإجازة وهو أن يكتب المحدث إلى الطالب: قد أجزت لك جميع ما صح ويصح عندك من حديثي، ولا يعين له شيئا»[29].

أما الإجازة بالفتيا، فقد جرت العادة أنه إذا تأهّل بعض أهل العلم للفتيا والتّدريس-أن يأذن له شيخه في أن يفتي ويدرّس، ويكتب له بذلك[30].

وقد جرت العادة أنه إذا صنّف في فنّ من الفنون أو نظم شاعر قصيدة فأجاد فيها أو نحو ذلك، أن يكتب له أهل تلك الصناعة على كتابه أو قصيدته بالتّقريض والمدح، ويأتي كلّ منهم بما في وسعه من البلاغة في ذلك [31].

نماذج من التواصل عن طريق الإجازة

تمثّل تراجم العلماء نموذجا للتواصل العلمي بين العلماء وطلبتهم فهي تتدرج بين مجرد الحضور والسماع من الشيخ، وقراءة بعض الكتب عليه، وختمه مع البحث والتحقيق والتحرير، ونورد هنا نموذجين لهذا التواصل:

النموذج الأول: الشيخ أحمد بابا التنبكتي

فقد كان أبرز أساتذته وأكثرهم تأثيرًا في حياته شيخه محمد بغيغ الذي قال عنه:

«لازمته أكثر من عشر سنين فقرأت عليه بلفظي مختصر خليل وفرعي ابن الحاجب قراءة بحث وتحقيق وتحرير ختمتها عليه، أما خليل فمرارًا عديدة نحو عشر مرات أو ثمان بقراءتي وقراءة غيري، وحضرت عليه التوضيح كذلك لم يفتني منه إلا اليسير من الوديعة إلى الأقضية عليه وختمت عليه الموطأ قراءة تفهم، وحضرته كثيرًا في المنتقى والمدونة بشرح المحلي ثلاث مرات وألفية العراقي في علم الحديث مع شرحهما، وحضرتهما عليه مرة أخرى وختمت عليه تلخيص المفتاح مرتين وبعض الثالث بمختصر السعد وصغرى السنوسي مع شرح الجزرية وحضرت عليه الكبرى وشرحها وقرأت عليه حكم ابن عطاء الَّله مع شرح زروق عليه ونظم أبي مقرعة والهاشمية في التنجيم مع شرحها ومقدمة التاجوري فيه ورجز الغيلي في المنطق والخزرجية في العروض بشرح الشريف والدماميني وكثيرًا من تحفة الحكام لابن عاصم في الأحكام مع شرح ولده عليها، وسمعت بقراءته هو كثيرًا من البخاري، ومسلمًا كله ودولًا من مدخل ابن الحاج وبقراءة غيري دروسًا من الرسالة والألفية وغيرها.

وسمعت بلفظه جامع معيار الونشريسي كاملًا وهو مجلد كبير ومواضع أخر منه وباحثته كثيرًا في المشكلات وراجعته طويلًا في المهمات.

وبالجملة فهو شيخي وأستاذي، ما انتفعت بأحد انتفاعي به وبكتبه، رحمه الَّله ونفعه، وأجازني جميع ما يجوز له وعنه وكتب لي بخطه في ذلك وأوقفته على بعض تآليفي وتقاييدي فكتب لي بخطه الثناء والموافقة بل كتب عني أشياء من أبحاثي لحسن نيته، وسمعته ينقل في دروسه بعضها لإنصافه وتواضعه وقبوله الحق حيث تعين»[32].

النموذج الثاني: محمد الكشناوي

تلقى عن الشيخ محمد بندو علم الحرف والأوفاق وعلم الحساب والمواقيت على أسلوب طريقة المغاربة، والعلوم السرية بأنواعها الحرفية والوفقية وآلاتها الحسابية والميقاتية.

وقد عزا له الجبرتي في عجائب الآثار: قوله: “وقرأت عليه الأصول والمعاني والبيان والمنطق وألفية العراقي وجميع عقائد السنوسي الستة. وسمعت عليه البخاري وثلاثة أرباع مختصر الشيخ خليل من أول البيوع إلى آخر باب السلم ومن أول الإجارة إلى آخر الكتاب، ونحو الثلث من كتاب ملخص المقاصد وهو كتاب لابن زكري معاصر الشيخ السنوسي في ألف بيت وخمسمائة بيت في علم الكلام وأكثر تصانيفه إلى غير ذلك. قال: وسمعت منه كثيرا من الفوائد العجيبة والحكايات الغريبة والأخبار والنوادر ومعرفة الرجال ومراتبهم وطبقاتهم”[33].

قال الجبرتي: “وكان يقول عن نفسه أن مما مَنّ الله علي به أني لم أقرأ قط من كتاب مستعار وإنما أدنى مرتبتي إذا حاولت قراءة كتاب لم يكن موجودا عندي أن أكتب متنه موسع السطور لأقيد فيه ما أردته من شروحه أو ما سمعته من تقريرات الشيخ عند قراءته وأعلاها أن أكتب شرحه وحاشيته، بدليل أنه لولا علو همتي وصدق رغبتي في تحصيل العلوم لما فارقت أهلي وأنسي وطلقت راحتي وبدلتهما بغربتي ووحشتي وكربتي مع كون حالي مع أهلي في غاية الغبطة والانتظام فبادرت في اقتحام الأخطار لكي أدرك الأوطار[34].

ومن مظاهر التواصل ما ذكره الجبرتي أيضا أنه في رحلة الحج مرّ بعدة ممالك واجتمع بملوكها وعلمائها، فممن اجتمع به في كاغ برن الشيخ محمد كرعك وأخذ عنه أشياء كثيرة من علوم الأسرار والرمل وأقام هناك خمسة أشهر وعنده قرأ كتاب الوالية للكردي وهو كتاب جليل معتبر في علم الرمل وقرأ عليه هو الرجراجي وبعض كتب من الحساب. وله رحلة تتضمن ما حصل له في تنقلاته وحج سنة اثنتين وأربعين ومائة وألف وجاور بمكة [35].

الخاتمة

تعرضنا في هذا المقال للحديث عن الرموز العلمية لبعض مشاهير الأمراء ممن كان لهم دور بارز في التواصل العلمي بالقارة الإفريقية لما عرف عنهم من الحكم بالعدل وتشجيع العلماء واستجلابهم ورعايتهم واستضافتهم في دولهم. وقد مثل هذا الجيل من الأمراء نموذجا فريدا في القارة الإفريقية لما اتصفوا به من العلم والمعرفة وحسن التدبير السياسي، ولما كان لهم من دور كبير في الجهاد والدعوة إلى الله تعالى مع حسن السيرة والرفق بالرعية؛ وقد استطاع بعض هؤلاء الأمراء توسيع علاقات التواصل في القارة من خلال التأسيس لعلاقات دبلوماسية مع ممالك إفريقية كالدولة المرينية بالمغرب وغيرها.

وأما في جانب الحديث عن العلماء فقد تعرضنا للحديث عن بعض المشاهير من العلماء الأفارقة ممن كان لهم دور بارز في التواصل العلمي بالقارة سواء تعلق الأمر بالأخذ من المشايخ في البلد أو الرحلة إليهم أو عن طريق الإجازة والمراسلة.

وقد زخرت القارة الإفريقية بعلماء ربانيين طلبوا العلم ورحلوا إليه وجلبوا الكتب النادرة إلى أوطانهم، وقيدوا شوارد المسائل وأوابدها متسلحين في ذلك بعلو الهمة وصدق الرغبة في تحصيل العلوم، وفارقوا الأهل والأوطان وطلقوا الراحات واستسهلوا الوحشة والكربات واقتحموا الأخطار حتى أدركوا الأوطار.

ومن الملاحظات المهمة التي توصلنا إليها ما كانت تحتله المراكز العلمية المغربية بصفة عامة، ومدينة فاس على وجه الخصوص في نفوس الأفارقة، حتى قال أحد المتتبعيـن في هذا الصدد: “إذا كانت طريق التقوى والورع تنتهي بالسودانييـن إلى مكة المكرمة، فإن طريق العلم كانت تنتهي بهم إلى فاس. ”

وفيما يتعلق بقنوات التواصل العلمي فقد ذكرنا قناتين من أهم هذه القنوات وهما الرحلات والإجازات العلمية، حيث كان للرحلات العلمية دور كبير في ربط الصلات بين ربوع القارة الإفريقية؛ مما نتج عنه تلاقح الأفكار والثقافات وتفاعلها، وقد كانت الرحلات أبرز مظاهر التواصل العلمي، حيث إن الرحالة كان يسعى إلى الإحاطة في رحلته بجميع ما ترجى منه فائدة علمية سواء تم ذلك بالتردد على حلقات شيوخ الحديث أو منازلهم، أو بتدوين المجموعات الحديثية، والمصنفات المسموعة، أو المقروءة على طبقة العلماء الذين اتصل بهم.

كما كان للإجازات العلمية دور كبير في التواصل العلمي، حيث تم الأخذ عن الشيوخ، ونسخ الكتب وروايتها.

الهوامش

[1] -أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، رقم: 3461.

[2] -متفق عليه.

[3] – راجع نص الرسالة الملكية المنشورة في موقع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة: أمير المؤمنين جلالة الملك، حفظه الله، يوجه رسالة إلى المشاركين في الندوة الدولية حول موضوع: “ضوابط الفتوى الشرعية في السياق الإفريقي” مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

[4] -المعجم الوسيط مادة: وصل.

[5] -الحليبي، د. خالد بن سعود، مهارات التواصل مع الأولاد، مركز الملك عبد الله للحوار الوطني الطبعة: الأولى، 1431هـ، ص11.

[6] -علي يعقوب، جهود العلماء الأفارقة في نشر الثقافة العربية والإسلامية، “غرب إفريقيا نموذجا.”

[7] -إبراهيم طرخان، الإسلام واللغة العربية في السودان الغربي والأوسط، مجلة أم الدرمان، العدد الثاني، عام 1968م، ص 19.

[8] -العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، عبد الرحمن بن خلدون (732 – 808هـ)، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: أ. خليل شحادة، مراجعة: د. سهيل زكار، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة: الأولى، 1401هـ – 1981م، 6 /267.

[9] -القلقشندي، أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي ثم القاهري (ت821هـ)، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، دار الكتب العلمية، بيروت، 5 /283.

[10] -تاريخ السودان، شيخ عبد الرحمن السعدي، طبع بعناية هوداس وتلميذه ينوة – باريس:1981م. ص: 51.

[11]المذهب المالكي من المغرب إلى إفريقيا– الأستاذ محمد عز الدين المعيار الإدريسي

[12] -علي يعقوب، مرجع سابق.

[13] -عمر باه، الثقافة العربية والإسلامية في الغرب الإفريقي، ط1، مؤسسة الرسالة – بيروت، ص 139.

[14] -علي يعقوب، مرجع سابق.

[15] -مختصر من كتاب الجواهر والدرر في سيرة الشيخ الحاج عمر، للشيخ محمد المنتقى أحمد تال.

[16] -عثمان بريما باري، جذور الحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي، ط 1، 2001م، ص 36.

[17] -علي يعقوب، مرجع سابق.

[18] -الحضارة الإسلامية في النيجر، منشورات الإيسسكو، 1994م، ص 105.

[19] -خير الدين الزركلي، الأعلام، ج3، ص 195.

[20] -ترجمته في الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ص37. فتح العليم في معرفة سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم، تأليف أحمدو بن ممون، دور العلامة سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم في تأسيس المدرسة الشنقيطية الحديثية، محمد الحافظ بن المجتبى، أعمال الندوة العلمية الأولى حول: “الحركة الفكرية والثقافية في بلاد شنقيط.”

[21] -ابن الخطيب، محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي الأندلسي، أبو عبد الله، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب (تـ 776هـ)، الإحاطة في أخبار غرناطة، دار الكتب العلمية، بيروت.

[22] -الشوكاني، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (تـ 1250هـ)، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة – بيروت، 2 / 234.

[23] -إدريس الخرشافي، منهج ابن رشيد السبتي في الدراسات الحديثية من خلال رحلته، مجلة دعوة الحق، العدد312 ربيع الأول – ربيع الثاني 1416هـ/ غشت-شتنبر 1995م.

[24] -المرجع نفسه.

[25] -المرجع نفسه.

[26] -المرجع نفسه.

[27] -الرحلة الحجازية ص 24.

[28] -المرجع نفسه: ص:15.

[29] -الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، صححه: أبو عبد الله السورقي، وقابله: إبراهيم حمدي المدني، جمعية دائرة المعارف العثمانية – حيدر آباد، الدكن، الطبعة: الأولى، 1357هـ، ص:326 – 345.

[30] -القلقشندي، أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي ثم القاهري (تـ 821هـ)، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، دار الكتب العلمية، بيروت، 14/ 364.

[31] -المرجع نفسه، 14/ 378.

[32] -نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص602.

[33] -الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، 1/ 237.

[34] – المرجع نفسه، 1/ 237.

[35] -الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، 1/ 236.

فهرس المصادر والمراجع

  1. الإحاطة في أخبار غرناطة، محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي الأندلسي، أبو عبد الله، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب (تـ 776هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
  2. الإسلام واللغة العربية في السودان الغربي والأوسط، إبراهيم طرخان، مجلة أم الدرمان، العدد الثاني عام 1968م.
  3. البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (تـ 1250هـ)، دار المعرفة – بيروت.
  4. تاريخ السودان تأليف الشيخ عبد الرحمن السعدي، طبع بعناية هوداس وتلميذه ينوة، باريس: 1981م.
  5. المذهب المالكي من المغرب إلى إفريقيا، الأستاذ محمد عز الدين المعيار الإدريسي.
  6. تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن بن حسن الجبرتي (تـ 1237هـ)، دار الجيل بيروت.
  7. الثقافة العربية والإسلامية في الغرب الإفريقي، عمر باه، ط1، مؤسسة الرسالة – بيروت.
  8. جذور الحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي، عثمان بريما باري، ط 1، 2001م.
  9. جهود العلماء الأفارقة في نشر الثقافة العربية والإسلامية “غرب إفريقيا نموذجا”، علي يعقوب.
  10. جهود العلماء الأفارقة في نشر الثقافة العربية والإسلامية، فرح كندي.
  11. الحضارة الإسلامية في النيجر، منشورات الإيسسكو، 1994م.
  12. خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين بن فضل الله بن محب الدين بن محمد المحبي الحموي الأصل، الدمشقي (تـ 1111هـ)، دار صادر – بيروت.
  13. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد بن محمد بن عمر بن علي ابن سالم مخلوف (تـ 1360هـ).
  14. صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي ثم القاهري (تـ 821هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت.
  15. علق عليه: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة: الأولى،1424هـ – 2003م.
  16. الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، الخطيب البغدادي، صححه: أبو عبد الله السورقي، ومقابله: إبراهيم حمدي المدني، جمعية دائرة المعارف العثمانية – حيدر آباد، الدكن، الطبعة: الأولى، 1357هـ.
  17. مختصر من كتاب الجواهر والدرر في سيرة الشيخ الحاج عمر للشيخ محمد المنتقى أحمد تال.
  18. المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، إبراهيم مصطفى وآخرون، دار الدعوة.
  19. منهج ابن رشيد السبتي في الدراسات الحديثية من خلال رحلته، إدريس الخرشافي، مجلة دعوة الحق، العدد 312، ربيع 1 – ربيع 2، 1416هـ/ غشت – شتنبر 1995م.
  20. مهارات التواصل مع الأولاد، د. خالد بن سعود الحليبي، مركز الملك عبد الله للحوار الوطني، الطبعة: الأولى، 1431هـ.
  21. نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا بن أحمد بن الفقيه الحاج أحمد بن عمر بن محمد التكروري التنبكتي السوداني، أبو العباس (تـ 1036هـ)، عناية وتقديم: الدكتور عبد الحميد عبد الله الهرامة، دار الكاتب، طرابلس – ليبيا، الطبعة: الثانية، 2000م.

تحميل المقال بصيغة PDF