مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

التصوف السني في كينيا: معالم وأعلام

الأستاذ شيء عمر شيء
إمام مسجد النور ومدير مدرسة النور الإسلامية. مُكتانو- مشاكس، وعضو فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية كينيا

الصوفية في كينيا

تقديم

الحمد لله الذي نشر للعلماء أعلاما، وثبت لهم على الصراط المستقيم أقداما، وجعل مقام العلم أعلى مقام، وفضَّل العلماء بإقامة الحجج الدينية ومعرفة الأحكام، وأودع العارفين لطائف سره، فهم أهل المحاضرة والإلهام، ووفَّق العاملين لخدمته، وأذاق المحبين لذة قربه وأنسه فشغلهم عن جميع الأنام، أحمده سبحانه وتعالى على جزيل الإنعام، ووافر العطايا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

المبحث الأول: نشأة الصوفية في كينيا

كان المسلمون على علاقة بالمنطقة الساحلية في القرن الأول الهجري حيث بدأت بعلاقات تجارية وذلك عندما أقام المغامرون من التجار العرب مراكز لهم على الجزر المقابلة لساحل إفريقيا الشرقية، ثم بعد ذلك بدأت الهجرات الإسلامية بعد وقوع الخلافات السياسية في نهاية العصر الأموي، كما ذكره شيبو فرج الباقر مؤلف كتاب (أخبار لَامُوْ)، ويذكر الشيخ محيي الدين الزنجباري أنه ثبت- عن طريق بعض الوثائق التاريخية- أن الإسلام وصل إلى كينيا في النصف الثاني من القرن الأول الهجري عام 65هـ- 674م بواسطة العرب المهاجرين إليها الذين كانت قوافلهم التجارية تسير بين جنوب شبه الجزيرة العربية وشمالها في أمن وسلام. ثم توالت الهجرات وقويت المواصلات بين شرق إفريقيا وشبه الجزيرة العربية. فكان في الهجرة الأولى سليمان وسعيد ابنا عبَّاد الجُلندي من عمان إلى ساحل الشرق الإفريقي حيث هاجرا إليه فرارا من بطش الحجاج بن يوسف الثقفي، واستقرت هذه الهجرة في مدينة لَامُوْ على الساحل الكيني إلى الشمال من ممباسا، وأسسوا في لَامُوْ إمارة إسلامية بزعامة الحاج سعيدي حفيد هؤلاء المهاجرين في مستهل القرن الثامن الميلادي[1].

وبعدها وصلت الهجرة الثانية من الشام، أو من الهند فكانت لَامُوْ أقدم الإمارات الإسلامية والعربية على ساحل الشرق الإفريقي. ثم جاءت بعد ذلك هجرة لبعض الشيعة عام 122هـ- 750م، كما هاجر إليها بعض المسلمين من فارس، وكثرت هذه الهجرات إلى جزيرة باتي القريبة من لَامُوْ فأسس بنو نبهان في باتي الدولة النبهانية المسلمة. وتكونت من هؤلاء المهاجرين ومن الذين اعتنقوا الإسلام من الأفارقة السكان الأصليين مدنا إسلامية كمُمْبَاسَا، ولَامُوْ، ومَالِيندي، وبَاتي، وكلوى وغيرها، وانتشر التصوف فيها كباقي العالم الإسلامي[2].

ولقد ازدانت هذه المدن بحضارتها ذات الآثار الإسلامية والطابع العربي الذي لا زال قائما وإن حاول أعداء الإسلام محوها، وإزالتها عن الوجود. فكان التاجر العربي المسلم يحمل الدعوة الإسلامية أينما حل يدعو بسلوكه وأخلاقه قبل دعوته بقوله، فدخل الناس في دين الله أفواجا طوعا لا كرها واستمر الإسلام يبسط فيها رواقه إلى أن داهم المنطقة الغزاة من الصلبيين باسم الكشوفات الجغرافية فأخافوا البلاد وأبادوا العباد ولكنهم مع كل تلك الأهوال لم يستطيعوا انتزاع العقيدة الإسلامية من قلوب من اختاروا لأنفسهم الإسلام دينا لا يرضون له بديلا، وكيف لا وهم يقرؤون دائما قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الخرة من الخاسرين[3]}[4].

أسباب هجرة المسلمين إلى شرق إفريقيا

السبب الأول: السبب الداخلي وذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واختلاف المسلمين في عهد الخلافة الأموية وما بعدها من الدويلات الإسلامية جدَّ من العوامل ما دفع بالهجرات دفعا قويا، قال الدكتور محمد النقير: (وباستيلاء الدولة الأموية على منصب الخلافة جد من العوامل ما دفع الهجرة العربية الإسلامية دفعا قويا فبعد أن كانت هجرات محدودة في أعداد قليلة حتى تحل بقبيلة صاعقة. ولما كانت الدولة الإسلامية تسيطر على شبه جزيرة العرب والشام والعراق، وفارس، وشمال إفريقيا لم يكن أمام هؤلاء الفارين إلا شرق إفريقية، فكانوا يولون وجوههم شطره)[5].

السبب الثاني: السبب الخارجي وذلك بسقوط الخلافة الإسلامية في بغداد سنة 656 هـ على يد التتار والحروب الصليبية التي ابتلعت العالم الإسلامي وأذاقت المسلمين أسوء العذاب، فكان المسلمون في جزيرة العرب يهاجرون إلى شرق إفريقيا طلبا للأمان والسلام لأنفسهم.

السبب الثالث: المجاعة: كان البحث عن الطعام والحياة الأفضل سببا من أسباب الهجرات، والكوارث الاقتصادية كعام الرماد في عهد عمر بن الخطاب دفع بعض المسلمين إلى الهجرة إلى شرق إفريقية.

المبحث الثاني: الطرق الصوفية في كينيا

يعتبر التصوف في كينيا جزءا أساسيا من البنية الإسلامية كما يعتبر محور الحركات الإصلاحية وعاملا هاما لنشر الإسلام فيها، وسندا للمسلمين في مقاومة الموجة الاستعمارية التي وصلت إلى المنطقة في صورة حملات مكشوفة هدفها الأساسي هو ضرب الإسلام والقضاء على الدين الحنيف ونشر المسيحية بين المواطنين.

والطرق الصوفية شيء محبوب لدى المتصوفين، لأن الصوفية تفكير ديني وفلسفة خاصة تدعو إلى التقوى، والخشوع، وليست عبارة عن مذاهب فقهية، بل إن الطرق الصوفية تجمع عددا كبيرا من الناس في سلك واحد، ولهذا السلك رئيس واحد وهو شيخ الطريقة.

وقد انتشرت الطرق الصوفية في كينيا في مستهل القرون الأوائل للهجرة النبوية، واختلف المؤرخون في أول من أدخل الصوفية إلى كينيا. والراجح أنها وصلت مع الحضارمة والعمانيين الذين استقروا في المدن الساحلية ثم توغلوا تدريجيا نحو المناطق الداخلية، ومن أشهر الطرق الصوفية في كينيا:

  • 1/ القادرية: تعتبر طريقة القادرية أهم طرق الصوفية التي نشطت في شرق إفريقيا، وهي أكثرها انتشارا وأعظمها شأنا وأكثرها أتباعا وأقواها نفوذا. ويوجد مريدوها في كافة المدن والقرى في جميع أنحاء المنطقة ابتداء من ساحل كينيا حتى منطقة البحيرات العظمى في وسط شرق إفريقيا، وتسمى هذه الطريقة أحيانا بالجيلانية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله.
  • 2/ الأحمدية: الطريقة الصالحية هي الثالثة من حيث الانتشار في شرق إفريقيا وأنشأها لأول الأمر الشيخ محمد صالح السوداني الذي كان أحد تلاميذ الشيخ أحمد ابن إدريس وقد توفي عام 1919م. وقد دخلت الصالحية في المنطقة السواحلية على يد علماء محليين اتصلوا بالشيخ محمد في مكة وأخذوا الإجازة عنه.
  • 3/ العلوية: وأصل هذه الطريقة من حضرموت، وتنسب إلى الحبيب عبد الله بن علوي الحداد. وفي عام 1300هـ انتشرت في سواحل شرق إفريقيا على يد الحبيب صالح بن علوي المشهور بجمل الليل الذي جاء إلى لامو قادما من جزر القمر فأسس مسجد الرياضة بلامو وزاوية لتدريس الدين على مذهب الإمام الشافعي إضافة إلى نشر الطريقة العلوية التي كثر أتباعها فيما بعد في كثير من المدن الساحلية.

وقد لاقت هذه الحركات قدرا كبيرا من النجاح في كينيا، وكما تحدثنا آنفا فإن الطرق الصوفية تنقسم إلى فرق مختلفة لكل منها رأي خاص بها، وأعلام ملونة مكتوب عليها بعض الآيات، كما أن لكل طريقة آدابها وعاداتها المميزة التي منها احترام مشايخ الطرق حسب مراتبهم ومراعاة مجالس الاحتفالات والأعياد الدينية. ومن عادتهم تقديس الأولياء وتشييد المساجد والقباب الجميلة، وقد ساهمت الطرق الصوفية في النهوض بالمجتمع الإسلامي، والوقوف أمام الحملات الصليبية، ويبدو أن الدور الذي لعبته الطرق الصوفية في المقاومة ضد الاستعمار غير واضح المعالم، ولكن من الجدير بالذكر أن أكثر قادة الطرق الصوفية لم يكونوا يرغبون في التورط في الصراعات السياسية، إذ كانوا يؤمنون بإحلال السلام في المجتمع، وتفادوا المواجهة في الحروب إلى حد ما.

ولكنه كان هناك شيء أخطر من ذلك وهو وجود عدة طرق صوفية متنافسة حيث كانت تتنافس وتتعارك لكسب أتباع لها أكثر مما في حوزة الآخرين. ومع أن الطرق الصوفية كانت جميعها تستظل تحت راية الإسلام إلا أنها كانت تضيع وقتا كبيرا في الجدل والمنازعات الفرعية، بينما كان الواجب عليها التشاور للمصلحة العامة لإيجاد الوسائل والسبل الكفيلة للوقوف في وجه التيار الاستعماري التنصيري. ولكن بالرغم من ذلك فإن الطرق الصوفية لها الأيادي البيضاء في كثير من شؤون المنطقة السَّواحلية عامة وفي كينيا خاصة كمناهضة الرذائل ومحاربة التنصير المسيحي، وإلباس الأمة ثوب التقوى، وتعليم الناس كتاب الله وسنة رسوله والتمسك بالأذكار والقصائد والأغاني الصوفية.[6]

المبحث الثالث: معالم الصوفية في كينيا

أولاً: مسجد الرياض بلامو

إن مسجد الرياض ليس من المساجد القديمة في ساحل كينيا فقد مضى عليه من بداية تأسيسه عام 1310هـ قرن من الزمن إلا أن دوره الكبير في نشر العلوم والدعوة الصوفية في كينيا احتل مركزا عظيما. ويعتبر هذا المسجد هو المدرسة الأم وأقدم المراكز الصوفية في كينيا بل في شرق إفريقيا كلها، هذا هو الواقع الذي لا يمتري اثنان فيه، يقول الأستاذ المرحوم مبارك بن سالم بن حريز: (فإذا اعترف العالم بفضل جامعة المدينة التي ابتدعها معلم الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإننا أبناء كينيا نعتز ونفتخر بهذا المسجد).

  • بداية بناء المسجد

كان للحبيب صالح بن علوي تعلق كبير بالحبيب منصب بن بكر الحسيني حيث أثمر هذا التعلق صحبة أكيدة وإخلاصا ليس له مثيل حتى منحه قطعة أرض كبيرة مليئة بالزروع فقام الحبيب ومن معه فبنى في هذه الأرض كوخا للصلاة ومذاكرة العلوم والدعوة الصوفية، ولم يقصد بذلك مسجدا في بداية الأمر حتى إنه قام رجل يوما «أحمد بطويح» من حضرموت ونوى الاعتكاف فيه فمنعه من ذلك. وبعد مدة بنى الحبيب صالح في نفس المكان مسجدا وكان مبنيا بالأعشاب والطين والسلق. وكان الحبيب قبل ذلك إماما يصلي بالناس في مسجد شيخ البلاد عندما كان يسكن في ناحية (لانغون) ببلدة لامُو.

  • تسمية مسجد الرياض

سُمّي بهذا الاسم تيمنا واقتداء بالمسجد المبارك المعروف بهذا الاسم في بلدة سيئون بحضرموت والذي أسسه العارف بالله الحبيب علي بن محمد الحبشي الصديق الروحي الوحيد للحبيب صالح بن علوي جمل الليل.

ويعنون بالرياض رياض العلم واقتباسا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)، وفي رواية: حلق العلم. رواه الترمذي والإمام أحمد. قال عطاء: (الذكر هو مجالس الحلال والحرام) يعني العلم.

إن مسجد الرياض هو مركز العلوم وأول معهد متكامل لنشر العلوم والثقافة الإسلامية الصوفية في سواحل كينيا وفي شرق إفريقيا. وتفرعت عنه المعاهد والمدارس وزوايا العلم التي تخرج منها العلماء، والقضاة، والشعراء الذين كرسوا جل أعمالهم في نشر الدعوة الصوفية الإسلامية تبليغا لأهداف هذا المسجد فتولوا مناصب القضاء والإفتاء والوعظ والإرشاد كما ألفوا بالعربية والسواحلية مؤلفات إسلامية.

ثانيا: معهد الثقافة الإسلامي بمسجد الرياض لامو

في عام 1400هـ تأسس بجانب المسجد معهد ووضع حجر أساسه فضيلة العلامة السيد علي حمد البدوي، صباح اليوم الجمعة 24 من ربيع الأول، ليتلقى فيه طلاب النظام والتعليم المعهدي، فالمعهد تابع لمسجد الرياض وهما توأمان يشد بعضهما بعضا.

بُني المعهد في بداية الأمر بمساهمات المحسنين من أهل لامو المواطنين وغيرهم، ثم تبرع في إتمام بنائه صاحب السعادة الشيخ ناصر بن صالح من دبي الإمارات العربية المتحدة فجاء بنصيب وافر، ولما تم بناؤه قام بافتتاحه معالي الوزير الكيني حسين معلم محمد في عصر يوم الخميس 12 من ربيع الأول سنة 1404هـ يوم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وقد حضره الجم الغفير من نواحي شرق إفريقيا كلها.

  • أبيات شعرية بمناسبة افتتاح المعهد

وبمناسبة افتتاح المعهد الشريف الصوفي، اشترك في إنشاد أبيات شعرية كل من العلامة السيد أحمد المشهور بن طه الحداد والعلامة السيد علي أحمد البدوي، والقاضي الفاضل محمد بن شيخ الوائلي والأستاذ الأديب الأريب محمد بن شريف سعيد بن السيد عبد الله البيض، والحبر المؤلف، والشيخ الفاضل عثمان بن أبي بكر اللامي، وكانوا كلهم من المتمسكين بالمنهج السني الصحيح، وهذه الأبيات هي:

 تهنأ فهذا البحر بالجود طافح *** وهذا هو الساقي المروق صالح

وبشر فهذا معهد النور زان في *** رياض الندى أسدى لنا الحبر صالح

بناء رفيع شيد للعلم والهدى *** تبا هي به لامو ويعتز صالح

يسر بهذا السعي آباؤنا الأولى *** لهم أثر في الدين والعلم صالح

فكم أرشدوا بالعلم من أم سوحهم *** وعادوا هداة القوم والكل صالح

رياض أتى بالجهد بيت ثقافة *** لتحيا به الأرواح والأس صالح

وبالخير عام الفتح أرخ معهد *** الثقافة مجلى النور يجنيه صالح

  • أهداف معهد الر ياض الصوفي

المعهد معهد أهلي مقام بالجهود الذاتية، وقد استطاع المضي قدما من عهد المؤسس إلى وقتنا الحالي، رغم ما يعترض سبيله أحيانا من العقبات، واستطاع بفضل الله سبحانه وتعالى وتوفيقه ثم بجهود القائمين عليه الذين يبذلون جل مجهوداتهم لرفع رايته ومستواه العلمي حبا لدين الله والتماسا لمرضاته.

وأهداف معهد الرياض الصوفية كما يلي:

  • 1/ تعليم دين الإسلام ونشر دعوته.
  • 2/ إماتة الأمية والجهل.
  • 3/ تعميم عقيدة السلف الصالح.
  • 4/ المحافظة على مآثر المسلمين الأولين.
  • 5/ إحياء التراث الإسلامي العربي والمحافظة عليه.
  • 6/ تخريج الدعاة والمدرسين.[7]

المبحث الرابع: أعلام الصوفية في كينيا

انتشرت عقيدة الصوفية عند جماهير العلماء في كينيا وفي شرق إفريقيا بالجملة.

ومن أشهرهم ما يلي:

1 – العلامة السيد محمد بن سعيد البيض (تـ 2013م.)

فهذه نبذة يسيره عن تاريخ هذا العلامة المتفنن، والفهامة النقي، على الترتيب الآتي:

  • أولا: ميلاده ونشأته ومشايخه

ولد الداعية الإسلامي والصوفي الكبير العلامة المربي الشهير بمدينة لَامُوْ على ساحل كينيا ليلة الجمعة التاسع عشر من جمادى الأولى سنة 1361هـ. ونشأ بها نشأة صالحة في بيئة علم وصلاح في أحضان والديه الكريمين حيث سلَّمه والده إلى خاله السيد حسين بدوي ليعلمه القرآن الكريم، كما تعلم أيضا القرآن الكريم في بلدة (مَمْبُروْيِ) على يد المعلم محمد علي شائب وذلك عندما كان يزورها مرة بعد مرة في حال صباه، ثم انخرط في مجال العلم والتربية يطلب العلوم على علماء عصره في مدينة (لامو)، فأخذ عن والده الداعية الكبير العلامة شريف سعيد البيض، والعلامة السيد محمد بن عدنان الأهدل وهو شيخه الفتح كما كان يقول بنفسه ذلك، وأخذ عن خاله الأكبر والمعلم الأشهر العلامة السيد علي بدوي جمل الليل ويعد من أكبر مشايخه. وأخذ عن بقية أخواله الأفاضل السيد عبد الرحمن ختام جمل الليل، والأستاذ السيد حسن بدوي جمل الليل، والأستاذ علوي (مُزى مُوِيني) في رباط مسجد الرياض ومدرسة النجاح الإسلامية بلامو. وكذلك أخذ عن الشيخ الفقيه القاضي محمد بن شيخ الوائلي بلامو. كما أخذ عن أخيه الأكبر ابن خاله الأكبر السيد محمد باحسن بن العلامة السيد علي بدوي. وكما أخذ عن العلامة سالم بن جمعان القصيري. وأخذ في بلدة مَمْبُروْيِ من العالم المتواضع الشيخ عبد اللطيف بن عثمان القمري رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار.

  • وظيفته في مجال التدريس

لقد انخرط في مجال التدريس في وقت مبكر قبل سن البلوغ في مدرسة النجاح الإسلامية بلامو. وذلك من سنة 1375هـ إلى سنة 1382هـ حينما طلبه أهل مَمْبُروْيِ أن يكون مدرسا في مدرسة النور الإسلامية بعد تأسيسها في سنة 1381هـ أشار والده عليه أن يستجيب لرغبة أهل مَمْبُروْيِ فأجاب رحمه الله هذه الرغبة وظل فيها مدرسا ومديرا لها لمدة ربع قرن تقريبا حيث تخرج على يديه أثناء هذه الفترة كثير من الدعاة والأساتذة الأماثل وفي طليعة هؤلاء من الدفعة الأولى المرحوم الأستاذ الأديب الشاعر أحمد عمر مبارك، والأستاذ محمد سعيد الخطاط، والأستاذ المتواضع سعيد علي حسن مدير مركز الإخلاص في (غنغوني) بماليندي، وغيرهم من الأساتذة الكرام المنتشرين في أرجاء الوطن وخارجه.

وفي سنة 1407هـ أسس رحمه الله مدرسة الغناء الإسلامية في مَمْبُروْيِ على نهج مدرسة النور، وبقي فيها مدرسا ومجاهدا إلى آخر حياته لمدة ربع قرن تقريبا مثل بقائه في مدرسة النور الإسلامية.

وحصيلة ذلك كله أنه دام في وظيفة التدريس ما يقارب ستين سنة أي من سنة 1375 إلى آخر سنة 1433هـ ولم تلحظ عليه دلالات السآمة والملل بل درس بنشاط قوي وهمة عالية خصوصا عندما كان يدرس في مدرسة الغناء الإسلامية، حيث كان يُدرِّس من بعد صلاة الفجر ويستمر طول النهار مع أخذ الراحة قليلا في أثنائه ثم يواصل إلى السَّاعة الحادية عشرة ليلا. هكذا كان برنامجه اليومي الذي مضت عليه السنوات الكثيرة وهو في هذا الحال.

  • حرصه على العلم والعبادة.

أما في هذا الجانب فهو نادرة الزمان، وحاز السبق على جميع الأقران، فالكتاب صديقه وجليسه، والعلم متعته وأنيسه، إذ لم يكن في أوقات فراغه إلا وهو مصطحب للكتاب في إقامته وترحاله، يطلع على كنوزه من الفوائد والمعارف ثم يقطف النكت من هذه المعارف ويلخصها مثل مقتطفاته من كتاب (لب الأصول) للشيخ زكريا الأنصاري الشافعي، وهي عبارة عن مقتطفات وتلخيصات من موضوعات هذا الكتاب، وهو مقرر على طلبة مدرسة الغناء حاليا، و(النور) سابقا.

وقد اختصر الشيخ كتاب (هذا الحبيب يا محب) للعلامة الشيخ أبي بكر الجزائري، وهناك الكثير من المختصرات التي قام بكتابتها ولا يمكن استحضارها في هذه العجالة، إذ هو أعتق الناس علما، وأوسعهم وعيا وفهما، وأعزهم معرفة ودراية، وكذلك برع في معظم الفنون مع القدرة الفائقة على إتقانها مثل علم التفسير. وخير شاهد على ذلك أشرطته المرئية والمسموعة بحيث ندرك تعمقه الطويل في هذا الفن إذا استمعنا أو رأينا تلك الأشرطة.

كما برع الشيخ في فن الميراث، فهو حاضر البديهة بالأجوبة الشافية والكافية في جميع المسائل العويصة في هذا الفن، ويمكن أن يقال له فرضي عصره وزيدي زمانه. فلا تسأل عن بقية الفنون كعلم القراءات وعلم الحديث، والميقات، والتواريخ، واللغة العربية، والسواحلية، وغيرها من الفنون الإسلامية والعربية.

أما اهتمامه بجانب العبادة فنجده أعجوبة الدهر، وأحد الفرسان في هذا الزمان بالتقوى العالي في أداء الفرائض والواجبات، كما لوحظ أداؤه صلاة الفجر جماعة منذ السنين الطويلة، فكان يأتي إلى المسجد قبل الأذان الأول ويبقى قارئا للقرآن أو ذاكرا لله تعالى، وهكذا باقي الفرائض.

  • شهادة علماء عصره بتفوقه

رحل رحمه الله إلى كثير من البلاد في كينيا وخارجها والتقى فيها الكثير من الفضلاء، والعلماء الأجلاء الذين لهم دراية تامة بالعلوم الإسلامية والعربية، فكانوا يقرون له بالتفوق في مجال العلم ومعرفة الفنون، وكان خاله الأكبر السيد علي بدوي جمل الليل يأمره بإصدار الفتاوى أمامه في مختلف المناسبات الدينية. ومن الذين أقروا له بالفضل العلامة الداعية إلى الله السيد أحمد بن طه المشهور بالحداد. حيث قال يوما في مجلسه الخاص بممباسا: «محمد البيض عالم معتمد في السواحل»، كما اعترف بفضله العلامة الشيخ عبد الله صالح الفارسي حيث قال يوما: «ذاك الولد عالم كبير، وغيره من العلماء سواء في كينيا خاصة أو شرق إفريقيا عامة بالإضافة إلى أرض الحجاز وحضرموت وكل من لقيه من العلماء من هذه البلاد اعترف به وأقرَّ له بأنه عالم معتمد، وجميع الشيوخ الذين أخذ عنهم اعترفوا بأنه عالم متبحر.»

  • رحلته في سبيل الدعوة إلى الله

لقد كان رحمه الله تعالى يقوم بالرحلات المتكررة في كل سنة مرتين في سبيل الدعوة إلى الله تعالى. فكان يصل إلى أدغال شرق إفريقيا، والأماكن النائية التي يصعب على الكثير من الدعاة الوصول إليها. كل ذلك لإعلاء كلمة الله، ونشر العلم وعقيدة الصوفية لدى أوساط المجتمع المسلم خصوصا في أيام رمضان. وقام بهذه المهمة لمدة تزيد على ثلاثين سنة وهو صبور على كل عراقيل السفر وعذابه يلقي المحاضرات والمواعظ في مجالس العلم والإرشاد في مدن شرق إفريقيا.

وقد كان للشيخ رحمه الله درسه الأسبوعي في كل ليلة سبت في المسجد الجامع القديم بمالندي حيث كان يدرس فيه تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية من كتاب صحيح البخاري، وداوم على هذا العمل ما يزيد على أربعين سنة دون تقاعس وتوان، فهو يستحق أن يقال له «القمر الباهر» في مجتمعه. وقد غلب الكثير من أقرانه، وباقي الدعاة والوعاظ في تحمل أعباء المشقة في الدعوة إلى الله من أجل نشر الرسالة المحمدية، وكل ذلك يدل على إخلاصه الصادق في خدمة الإسلام والمسلمين، وبدون هذا الإخلاص لما استطاع أن يبقى على هذه الحالة على مدى السنوات الطويلة.

ومن خلال هذه الرحلات حصل على الإجازة من علماء كثيرين مثل الإمام العلامة عبد القادر بن أحمد السقاف (بجدة)، والعلامة عمر بن علوي الكاف (سيبويه حضرموت)، ومفتي الحرمين الشريفين العلامة علوي بن عباس المالكي والد السيد محمد علوي، ومفتي حضرموت العلامة محمد بن سالم بن حفيظ رحمه الله تعالى.

  • تراثه العلمي

لقد ترك لنا رحمه الله تراثا علميا هائلا متكونا من عدة مؤلفات مخطوطة ومطبوعة في مختلف الفنون، ومن بينها:

1/ رشفات النهلا ن في علوم القرآن. مطبوع.

2/ النفائس الغرر في شرح سمط الدرر. مطبوع.

3/ طي المراحل في تاريخ السَّواحل. مطبوع.

4/ خير الهدية في الأسانيد العلمية. مطبوع.

5/ توضيح الإشكال عما في هداية الأطفال. (للعلامة الشيخ الأمين بن علي المزروعي). مخطوط.

6/ شرح منظومة (نزهة النظر) للعلامة السيد علي بدوي في توضيح (نخبة الفكر) للإمام ابن حجر العسقلاني؛ مطبوع.

7/ قصائد شعرية باللغة العربية والسواحلية.

8/ تاريخ الحبيب صالح بن علوي؛ مطبوع.

9/ خير الهدية في طريقة السادة العلوية؛ مطبوع.

10/ وقد شرع في تفسير القرآن الكريم من الفاتحة إلى آخر سورة البقرة، ولكن قدر الله ما شاء، فقد تخطفته يد المنون.

  • انتقاله إلى رحمة الله تعالى

قام رحمه الله بجهود جبارة في خدمة الإسلام والمسلمين، ونشر العلم والعقيدة الصوفية الصحيحة في مراكز العلم، وتقديم يد العون لها أو تطويرها، وارتياء الآراء الصائبة في كل ما يستحق ذلك، ودام على هذه الحالة إلى أن أصيب بحادث سيارة في جمادى الآخرة سنة 1433هـ عانى بعدها آثار الحادثة لمدة سنة ونصف تقريبا كان يواصل فيها مسيرة الدعوة والإرشاد برا وجوا إلى أن وافته المنية بمستشفى ممباسا في ظهر الأحد 23 صفر 1434هـ الموافق 6 يناير 2013م. وووري جثمانه الطاهر في عصر الاثنين 24 صفر 1434هـ، ببلدة ممبروي بجوار والديه، وحضر تشييع جنازته جم غفير من كل أرجاء شرق إفريقيا بحيث لم يشهد له مثيل. وقد أقيم له العزاء في العديد من بلاد الإسلام ورثاه كثير من العلماء والدعاة، والأدباء وعلى رأسهم المفكر الإسلامي أبوبكر بن علي المشهور بـ (عدن) بقصيدة طويلة مطلعها:[8]

رحل المجاهد بالمحيط الأطلسي ***   مـن بعد عمر حافل بالأنفس

رحل الـشـريف الحـر عنا قـائلا ***  من لـي بحامل غايتي وتجانسي

2 – الشيخ عبد الكريم بن عمر تـ 1858م

الشيخ عبد الكريم بن عمر الذي توفي في عام 1274هـ الموافق 1858م، تلقى علمه عن أبيه الشيخ عمر بن محمود الذي كان يعرف باسم فقيه عمر، ومن كبار تلاميذه الشيخ مونى عبود «السيد عبد الرحمن السَّقَّاف»، والشيخ عبد المجيد زهران الذي عين قاضيا في مدينة آمو «لامو» بعد أن كرَّس جهوده في التدريس سنوات عديدة. وترك عدة تلاميذ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن كينيا كانت بحرا زاخرا في علم التصوف وعلمائه.

3 – الشيخ حارث صالح بن عبدالرحمن

  •  مولده ومشايخه

مولده: ولد الشيخ حارث صالح بن عبد الرحمن في جزيرة لامو عام 1948هـ، وهي جزيرة مشهورة بعلمائها الذين بلغوا مكانة عالية في العلم الشرعي والثقافة الإسلامية.

  • مشايخه

تلقى الشيخ حارث صالح بن عبد الرحمن تعليمه من كبار مشايخ جزيرة لامو المشهورين حيث تلقى:

1/ الفقه وأصوله، والنحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق، والتفسير من العلامة محمد بن شيخ محمد المعاوي.

2/ النحو والصرف تلقاهما على يد الشيخ محمد بن عبدالله بن مسعود.

3/ النحو والصرف وتفسير القرآن، والتاريخ الإسلامي، والثقافة الإسلامية من الشيخ محمد بن السيد السقاف.

4/ الفقه المقارن من السيد محمد بن عبد الله الرديني.

5/ تفسير القرآن العظيم من الشيخ السيد علي بن السيد أحمد بدوي.

6/ مبادئ العلوم: من شيخ محمد عمر.

فهؤلاء الذين أخذ عنهم الشيخ حارث بن صالح بن عبد الرحمن هم كبار علماء جزيرة لامو وكينيا بالجملة المرموقين والمتصوَّف بهم فقها وتفسيرا ولغة، فكل منهم جمع فأوعى. وقد تلقى العلم أيضا عن بعض المشايخ من خارج الجزيرة، مثل الشيخ محمد قاسم المزروعي الذي كان رئيسا للقضاة في كينيا[9].

الهوامش

[1] محمد الحريري. ساحل شرق إفريقيا. ص 22.

[2] السيد عبد المجيد بكر. كتاب: الأقليات المسلمة في إفريقيا. ص 94.

[3] سورة آل عمران الآية 85.

[4] شيخ محمد شريف فماؤ. كتاب: التنصير في دولة كينيا. ص 4.

[5] – انتشار الإسلام في إفريقيا. ص 64.

[6] -الصراع بين الإسلام والنصرانية في شرق إفريقيا، ص 85.

[7] – صالح محمد علي بدوي. كتاب: الرياض بين الحاضر والماضي. ص 48.

[8] – المعارف، مجلة إسلامية ثقافية. ص 14-16. الناشر: مجلس المعارف الإسلامية بككمبالا، قرب ممباسا، كينيا سنة 1435هـ الموافق 2014 م.

[9] – الشيخ محمد شريف فماؤ. كتاب: جزيرة باتي المسلمة بكينيا. ص 21.

المصادر والمراجع

  • القرآن الكريم
  • صحيح البخاري.
  • الأقليات المسلمة في إفريقيا، تأليف: سيد عبد المجيد، سلسلة دعوة الحق، مكة المكرمة.
  • التنصير في دولة كينيا، تأليف: الشيخ محمد شريف فماؤ، لجنة الدعوة في إفريقيا 1430هـ.
  • الرياض بين الحاضر والماضي، تأليف: صالح محمد علي بدوي، الطبعة الأولى 1410هـ- 1989م بلا ذكر لدار النشر.
  • الصراع بين الإسلام والنصرانية في شرق إفريقيا، تأليف الشيخ جامع عمر عيسى، تاريخ النشر 1420هـ- 1999م، بلا ذكر لاسم الناشر.
  • المعارف، مجلة إسلامية ثقافية. الناشر: مجلس المعارف الإسلامية بككمبالا، قرب ممباسا، كينيا سنة 1435هـ الموافق 2014 م.
  • جزيرة باتي المسلمة بكينيا، تأليف: الشيخ محمد شريف فماؤ، بدون ذكر اسم الناشر 1425هـ- 2004م.
  • ساحل شرق إفريقيا، تأليف: محمود محمد الحويري، دار المعارف، القاهرة 1986م.

تحميل المقال بصيغة PDF