الرِّحلات العلميَّة وأثرها في انتعاش التواصل العلمي ببلاد السُّودان الغربي
التواصل العلمي بين علماء إفريقيا: الرحلات العلمية، المؤلفات، المراسلات، الإجازات
تحميل المقال بصيغة PDF
جامعة أفريقيا الإسلامية (UMA)، أبيدجان- كوت ديفوار
إنَّ من أكثر خصائص العالم الإسلاميِّ جلاءً في عصور الإسلام المختلفة، فاعليَّة علاقات التَّواصُل بين شعوبه المختلفة في الشَّرق والغرب؛ ومرونة التَّنقُّل بين أقطاره، فقد كانت أجزاء العالم الإسلامي مرتبطة بعضها ببعض بفضل التِّجارات البعيدة، والطُّرق البريَّة الممتدَّة التي كانت تربط حواضر الإسلام في الجزيرة العربيَّة ووسط آسيا، بالهند والصِّين والشَّرق الأقصى. كذلك، فإنَّ الطُّرق البحريَّة عبر المحيط الهنديِّ، كانت تؤمِّنُ التَّواصُل المباشر والمستمرَّ بين شعوب إفريقيا الشَّرقيَّة، وخاصَّة ممالك الطِّراز، بالسَّلطنات الإسلاميَّة المبثوثة في جنوب شرق آسيا في جاوة، وملاقا، وفطاني، ومالديف، وغيرها. كانت جميع تلك الممالك ترتبط فيما بينها عبر ما كان يُعرف بطريق الحرير البحريِّ تشبيهًا لها بطريق الحرير البريِّ المعروف[1].
وبما أنَّ الإسلام كان هو الرِّئة المنشِّطة لهذا التَّواصل بين أرجاء العالم آنذاك، فإنَّ المشتغلين بالعلم من علماء وطلبة، ما كان بِوُسعهم إلاَّ الانخراط الفعليَّ في غمار حركة السَّفر والتِّرحال في العالم؛ لذلك ارتبطت الأسر والمجموعات العلميَّة، ورجالات التَّصوُّف، بنشاط التِّجارة في كلِّ مكان، كالحضارمة في جنوب شرق آسيا، وفي سواحل شرق أفريقيا، وعشائر صَغَنُغو، وتُوري، وبَغَيُوغو، وجاخانْخي (جاغة)، وآل آقيتْ، وآل كُنْت في غرب أفريقيا.
بتعبيرٍ آخر، كان لزامًا على العالم الدَّاعية والطالب المريد أن يرحل ويتنقَّل في أرجاء العالم الإسلاميِّ؛ للارتباط العضوي المتلازم بين العلم ونشر الإسلام، وبين السَّفر والتِّجارة. وعلى فرض وجود عالمٍ راكنٍ إلى القعود، أو طالب علم قانعٍ بما توفَّر من علماء في محيطه الجغرافيِّ الضَّيق، فإنَّ ذلك كان حُكمًا ذاتيًّا على نفسه بالضُّمور، وقطع الشَّرايين العلميَّة والفكريَّة بينه وبين الجسد العالمي الحيِّ النَّشط.
في هذا السِّياق، فإنَّ السَّفر والرِّحلة ببلاد أفريقيا (رحلات الحجِّ وطلب العلم)، وتحديدًا في الجزء الذي كان يُعرف ببلاد السُّودان (الغربي)، كان هو العنصر الأهمَّ الذي آذَن بنشر الإسلام، ومن ثمَّ بظهور حركة علميَّة جبَّارة ما زالت آثارها ومعالمها واضحةً بأفريقيا.
تظهر هذه العلاقة الوثقى بين الرِّحلة ونشر الإسلام –أوَّل ما تظهر- في قصَّة أوَّل حركةٍ تغييريَّة ببلاد السُّودان، ألا وهي الحركة المرابطيَّة؛ إذْ تعود أصولها لرحلة زعيم بني جُدالة يحيى بن إبراهيم (تـ 427هـ/1035م) للحجِّ، وفي طريقه التقى الفقيه أبا عمران الفاسي (تـ 430هـ) بالقيروان، ومن خلال الحديث بينهما؛ وسؤال الفقيه زعيمَ جُدالة عن مذهب قومه، وعن عاداتهم؛ وجد عنده سطحيَّة في الفقه، فما كان منه إلاَّ أن اقترح على زعيم جدالة أن يمدَّه بعالم يفقِّه قومه، واختير لهذه المهمَّة الفقيه عبد الله بن ياسين (ت451هـ/1059م)، ومن هنا كانت نشأة حركة المرابطين[2].
كذلك، تتجلَّى أهمية الرِّحلات الحجيَّة، وهي صِنْوُ الرِّحلات العلميَّة بأفريقيا، في قصَّة انتشار الإسلام –في فترةٍ متأخِّرة- في المناطق الغابيَّة بغرب أفريقيا، تحديدًا فيما يُعرف الآن بمنطقة غينيا الاستوائيَّة في كوت ديفوار، وغينيا، وجزءٍ من ليبيريا، فإنَّ الرِّوايات الشَّفهيَّة ترجعها إلى الرِّحلات الجماعيَّة لعدد من العلماء مع طلبتهم وأتباعهم، وهم اثنا عشَرَ عالـمًا، أدُّوا فريضة الحجِّ معًا، واتَّفقوا على العودة إلى بلاد السُّودان والتَّفرُّق في مناطقها المختلفة. وهؤلاء الحجَّاج الدُّعاة هم[3]:
- الحاج سالم سُواري والحاج محمد بغَيُغ، سكنا تمبكتو.
- الحاج محمد فوفانا والحاج مالك سُومونو، سكنا مدينة كانْكانْ (غينيا).
- الحاج بامْبا فاديغا، سكن مدينة جيني.
- الحاج بكري تراوري، سكن سيغو (جنوب مالي).
- الحاج محمد ديالي، سكن مدينة فمالا (مالي).
- الحاج يوسف كمَراتي، سكن منطقة بُوانْدغو (كوت ديفوار حاليًّا).
- الحاج موريفنْغ بامبا، سكن تولي (كوت ديفوار).
- الحاج دييا، سكن مدينة سماتيغلا، قريبًا من وجيني (كوت ديفوار).
- الحاج فريمورو كَناتي، سكن ببلدة قريبةٍ من وجيني.
- الحاج موسى بَغَيُغ، أسَّس مدينة كورو، وبها سكن (كوت ديفوار).
فبالإضافة إلى نجاح هؤلاء في نشر الإسلام في المناطق المذكورة، فإنَّهم قد أسَّسوا بها مراكز علميَّة راسخة لا تزال بعضها فاعلةً مؤثِّرة في حركة الإسلام والعلم في غرب أفريقيا.
وعلى الرّغم من شُحِّ المصدريَّات التَّاريخيَّة المتوفرة في إمداد الباحث بمعلوماتٍ وافيةٍ حول الرِّحلات العلميَّة ببلاد السُّودان، فإنَّ المصابرة على استدرارها واستنطاقها، تُفضي إلى جمع ما لا بأس به من المعلومات عبر ترجمات المشايخ والعلماء، والوقائع التَّاريخيَّة المبثوثة في ثنايا تلك المصدريَّات.
هذا، ويمكن تقسيم تلك الرِّحلات من حيث مواضعها إلى: رحلات داخليَّة، وأخرى خارجيَّة، ثم النَّظر في الآثار المترتَّبة على تلك الرِّحلات، وتلك محاور هذا المقال.
المحور الأوَّل: رحلات داخليَّة
هي الرِّحلات التي كان يبادر بها الأفراد أو المجموعات؛ بغية الالتقاء بعالمٍ بعينه، أو الالتحاق بمقرآتٍ علميَّة أكثر شهرةً في بلاد السُّودان الغربي، والتَّتلمذ به، وهذا المستوى من الرِّحلة قلَّما ترد ترجمة عالم من العلماء إلاَّ وترد الإشارةُ إلى رحلاته، وإلى بعض المراكز العلميَّة التي قصدها لطلب العلم.
مثلاً، في ترجمة الفقيه العلاَّمة مورْمَغ كنكي، وهو من علماء تمبكتو، ذكر السعدي أنَّه رحل إلى كابَرَ لأخذ العلم، ثم رحل إلى مدينة جني في أواسط القرن التَّاسع الهجري[4]. ولدينا نموذج رحلة الفقيه الإمام محمد كُرد الفلاني (ت1063هـ/1553م)، الذي وفد في شبابه إلى تمبكتو، “واشتغل هو في أخذ العلم عند علماء البلد، وهو حافلٌ بهم يومئذٍ”، فما لبث أن “مَهَر وبَـهَر في اقتباس العلم”، وقد عدَّد السَّعدي ستَّةً من جلَّة علماء تمبكتو وقضاتها ممَّن أخذ هذا الشَّاب عنهم، بالإضافة إلى حضوره مجلس العلاَّمة الفقيه أحمد بابا التمبكتي إثر عودته من مراكش، وزاد قوله: إنَّه “حصل عدَّة فنونٍ من العلم، كالفقه والحديث والأصول والبيان والنحو والمنطق والعروض والحساب، وغيرها ” [5].
بعد إيراد هذه النَّماذج، يمكن عرض نموذجين جماعيَّين للرِّحلات العلميَّة ببلاد السُّودان الغربي، كان لهما التَّأثير العميق في سيرورة الدَّعوة الإسلاميَّة وفي تألُّق المحاضر العلميَّة وتكوين العلماء الأفذاذ بالمنطقة؛ هما نموذج المدرسة الصُّواريَّة، ورحلة الونغريِّين.
النموذج الأول: الرِّحلة بوصفها استراتيجيَّةً دعويَّة لدى المدرسة الصُّواريَّة
إذا كانت الرِّحلات العلميَّة في تاريخ غرب أفريقيا مبادراتٍ فرديَّةً وجماعيَّة من حينٍ لآخر، فإنَّ ما ميَّز حركة الشَّيخ الحاج سالم صُواري (Salim Suware)، هو اتِّخاذ الرِّحلة ركيزةً أساسيَّة، واستراتيجيَّة مرسومةً بدقَّة للدَّعوة ونشر العلم بغرب إفريقيا.
والحاج سالم صُواري، هو أحد الحجاج الاثني عشر الذين سبقت الإشارة إليهم، وتُعزي المصدريَّات الشَّفهيَّة مشيخيَّة أولئك الحجاج إلى هذا الشَّيخ. وعلى كلٍّ، فهو الذي تولَّى الزِّعامة العلميَّة والرُّوحيَّة لمجموعات جاخانْجي بمنطقة نهر السُّودان في أواسط القرن الثَّاني عشر الميلادي، ببلدة جاغة-ماسينا، وبعدها بجاغة-بامْبوك، وهي المنطقة الواقعة في الجغرافيا الحديثة بدولة سنغال[6].
أمَّا عن استراتيجيَّة السَّفر في دعوته، فإنَّه قد جعل السَّفر أو الهجرة، أولى الرَّكائز الثَّلاثة التي قامت عليها دعوته؛ وهي السَّفر، والقراءة، والفلاحة.
السَّفر والهجرة: هو السَّفر المتواصل إلى المناطق غير المسلمة؛ لدعوة أهلها، والسُّكنى معهم ردحًا من الزَّمن. بعدها يهاجر الدُّعاة إلى أهدافٍ دعويَّة جديدة تاركين وراءهم بعض الأفراد؛ لتعليم المسلمين الجدد ورعايتهم؛ حتى لا يعودوا لعاداتهم وممارساتهم القديمة.
القراءة: تتمثَّل في إعداد الطلبة إعدادًا روحيًّا وعلميًّا قويًّا على الكتاب والسُّنة (الصحيحان، والموطأ، والمدوَّنة، والشفا، وغيرها).
الفلاحة: اختارت المدرسة الصُّواريَّة الفلاحة دون التجارة التي عُرف بها الدُّعاة المسلمون بأفريقيا؛ لأنَّ التِّجارة تَسْتلزم التَّنقُّل وعدم الاستقرار، وهو نشاطٌ غير فعَّال لمن يريد السُّكنى مع المدعوِّين، والتَّأثير فيهم عن كَثَب.
أما عن نتائج هذه الاستراتيجيَّة الدَّعويَّة المتركِّزة على الرِّحلة، فقد شهدت الوقائع التَّاريخيَّة، ومآلات الأحوال الاجتماعيَّة ببلاد أفريقيا الحديثة بنجاحها وتأثيرها العميق، فقد عُرِفت أسَرٌ وعشائر مشْيخيَّة كثيرة، مثل: آل بغيوغو، وآل سغنوغو، وتيمتي، وبـمبا، وكمغتي، وسيسي، وغيرهم. كان لها الفضل في إدخال الإسلام إلى المناطق الغابيَّة أو النَّائية التي كانت بمعزل وشبه منقطعة عن منطقة البؤرة الإسلاميَّة ببلاد السُّودان الغربي. ففي كلٍّ من الدُّول القطريَّة الحديثة: كوت ديفوار، وغانا، وتوغو، وبوركينا، وبنين، وليبريا… مساجد عريقة، ومقرآتٌ ومحاضر علميَّة شهيرة، وأسَرٌ مشيخيَّة إماميَّة تنتمي للحركة الصُّوارية الدَّعويَّة.
باختصار، فإنَّ الرِّحلة العلميَّة لدى المدرسة الصُّواريَّة قد اضطلعت بمهمَّة تاريخيَّة فريدة في السِّياق الإفريقي، وذلك بتوظيف ركيزة السَّفر توظيفًا فريدًا منسجمًا مع الطَّبيعة المحليَّة ببلاد السُّودان الغربي. غير أنَّ هذه الاستراتيجيَّة الفريدة، لم تُدوَّن معالمها وتطبيقاتها في وثائق تاريخيَّة. اللَّهمَّ إلاَّ في واقعة تاريخيَّة، لعلَّها تكشف بعض معالم المدرسة الصُّواريَّة، وهي رحلة الوَنْغرين إلى بلاد السُّودان الأوسط.
النموذج الثاني: رحلة الوَنْغَريِّين إلى بلاد هَوْسا
تُعدُّ رحلة الونْغَريِّين من منطقة سنيغامْبيا إلى السُّودان الأوسط ببلاد هَوْسا شمالي نيجيريا الحديثة، حادثة تاريخيَّة جدّ مهمّة في مسار تتبُّع الرِّحلات العلميَّة التي آذنت بنشر الإسلام وترسيخ دعائمه في مناطق أفريقيا المختلفة، وذلك بكون مجموعات وانْغارا من السَّابقين إلى الإسلام ببلاد السُّودان منذ عهد مملكة مالي، وتشتُّت علمائها “الدُّعاة التُّجار” في أرجاء غرب أفريقيا. وبتعبير مخطوط “أصل الوَنْغريِّين “الذي سجَّل هذه الرِّحلة: “ليس في أرض الغرب أرضٌ لم يسكنها الونغريُّون من غَنْجا، ومن بَرْغو، ومن بوسَ، ومن غيرهم”[7].
كانت رحلة الونْغريِّين تلك في عهد السُّلطان محمد رِمْفا (1463 – 1499م)، بقيادة الشَّيخ الفقيه عبد الرحمن زغَيْتي (نسبة إلى جاغا عشيرة الحاج سالم صواري) مع مجموعة من طلبته وأتباعه، وبحسب المخطوط، كان عددهم (36) وقيل (160)، وهم “من العلماء المتفنِّنين بكلِّ فنٍّ”. أمَّا الشَّيخ نفسه، فإنَّ المخطوط يعطينا صورةً جدّ إيجابيَّة عنه، فهو ذو شخصيَّة كاريزميَّة مؤثِّرة، وداعيةٌ من الطِّراز الأوَّل. يزكِّيه الشَّيخ عبد الكريم للسُّلطان بقوله: “إنَّ هذا الشَّيخ أينما دخل، لم يُدرك عالما أعلم منه إلا مثلَهُ أو دونه”. وحين ذهب بصر الشَّيخ، صار يقرئ النَّاس في كلِّ علمٍ وفنٍّ من حفظه. بل حين استمع إلى كتاب “الخليل” لأوَّل مرَّة، وأخطأ القارئ باستبدال كلمةٍ بأخرى، صوَّبه الشَّيخ، فنظروا في الكتاب فوجدوا أنَّ الصَّواب ما قاله الشَّيخ زَغَيْتي.
أمَّا عن البُعد العلميِّ لهذه الرِّحلة إلى بلاد هَوْسا، فواضحٌ جليٌّ، فالشَّيخ بعد خروجه من مالي، كان كلَّما جاز بمدينةٍ، ترك بها مجموعةً من طلبته، ثم تابع مسيره. وحين وصل حاضرة “كانو” المدينة المملكة (City-State)، كان أوَّل ما بادَرَ به، قطع الشَّجرة الوثن التي كان أهل “كانو” يعبدونها، ولم يكن ذلك بالسَّهل اليسير، إذْ قاوَمَ الوثنيُّون هذا الأمر بالسِّحر، فكلَّما قطعوا الشَّجرة، عادت لحالها، فأمر الشَّيخ طلبته بإدامة قراءة القرآن في موضع القطع، وجاء هو وقرأ على الفأس شيئًا “من أسرار ربِّه الذي علَّمه ربُّه ثلاث مرَّات”، ثم أمر بمتابعة القطع.
بعد قطع الشَّجرة، أمر الشَّيخ ببناء مسجدٍ في موضع الشَّجرة، وأسَّس مَقْرأة بجوار المسجد. وتؤكِّد جميع أخبار المخطوط أنَّ مجيء الشَّيخ إلى بلاد هَوْسا، قد كانت قوَّة دافعةً لعجلة الإسلام ونشر العلم في بلاد هَوْسا، وأنَّ الشَّيخ قد أثَّر تأثيرًا عميقًا في نظام الحكم والسِّياسة، وفي شخص السُّلطان الذي كان -قبل مجيء الشَّيخ- يبدو ضعيفًا في وجه السُّلطة الدِّينيَّة الوثنيَّة، وبلغ تأثير الشَّيخ زَغَيْتي على السُّلطان رُومْفا، أنْ أوصى السُّلطان بأنْ يُدفن إلى جوار الشَّيخ تبرُّكًا به.
المحور الثاني: رحلات خارجيَّة طويلة
كانت الرِّحلات الخارجيَّة أهمَّ مستوى من الرِّحلة العلميَّة التي يقوم بها العلماء والطَّلبة، وتتمثَّل في رحلة الحج –كما تقدَّم- متلازمة بطلب العلم تلازمًا ضروريًّا؛ حيث إنَّ بُعد الشُّقة بين بلاد السُّودان وبين الحجاز، كان يُحتِّم على الحاج العالم المرور بمراكز العلم العريقة في مصر خاصَّة، وبطبيعة رحلة الحج الجماعيَّة، فإنَّ الرِّحلات العلميَّة وخروج العلماء كانت كذلك جماعيَّة. أيضًا، من الرِّحلات الخارجيَّة، وفود علماء أفذاذ من المشرق وبلاد المغرب إلى بلاد السُّودان.
من أوائل من فتحوا باب الرِّحلة العلميَّة ببلاد السُّودان، الشَّيخ العالم أحمد بن عمر بن محمد أقيت التمبكتي المعروف بالحاج عمر (ت942هـ/1535)، جدُّ العلاَّمة أحمد بابا التنبكتي، أخذ عن السيوطي، وخالد الأزهري. ومثله فعل ابنه أحمد الفقيه الحاج أحمد بن أحمد آقيتْ التَّكروري (ت991هـ/1583م)، كانت رحلته للحجِّ عام (956هـ/1549م)، وممَّن اجتمع بهم في مصر: النَّاصر اللقاني، والشريف يوسف تلميذ السُّيوطي، والجمال بن الشيخ زكرياء، والأجهوري، والتاجوري[8]، وفي الحجاز: أمين الدين الميموني، والملائي، وابن حجر، وعبد العزيز اللمطي، وعبد المعطي السخاوي، وعبد القادر الفاكهي. وذكر السعديُّ أنَّه لازم بمصر محمد البكري، وقيَّد عنه فوائد، ثم رجع لبلده.
كذلك، من علماء هذه الطَّبقة الذين زاروا المشرق، شيخ علماء تمبكتو ومفتيها، العلاَّمة الحاج الفقيه محمد بن محمود بَغيُغ الونكري (ت1002هـ/1594م)، وأخوه أحمد، وخالُهما، رحلوا معًا لرحلة الحج، ولقوا بين مَن لقوا من العلماء والفقهاء: الشريف يوسف الأوميوني، والبرهموسي الحنفي، والنَّاصر اللَّقاني، والتاجوري، والزين البجيري، ومحمد البكري… وبعد الإقراء على جملة من المشايخ “صار أخيرًا شيخ وقته في الفنون لا نظير له”[9]. ولدينا من الشُّيوخ القاطنين بمصر نموذج الشَّيخ عثمان، وهو من مخبري ابن خلدون (ت808هـ/1406م)، يصفه بأنَّه “فقيه أهل غانية وكبيرهم علمًا ودينًا وشهرة”، وأنَّه قدم مصر سنة تسعٍ وتسعين وثمانمائة[10].
ولا يخفى أنَّ رحلات أولئك للمشرق كانت حافزًا قويَّا لتلامذتهم وللأجيال من بعدهم لشدِّ الرِّحال إلى المناهل العلميَّة في مصر والحجاز، وفاس والقيروان؛ لملاقاة أجلَّة علمائها والأخذ عنهم. لذلك، نجد قائمة المشايخ في هذا المجال طويلةً ثرَّة، وقد أطلق على كثيرٍ منهم “مجاور” لمكثهم زمنًا طويلاً بمصر والحجاز لأخذ العلم. من أولئك: الفقيه الحاج عثمان المجاور (ت1121هـ/1709م)، والشيخ الطالب الفقيه الحاج صالح المجاور بن الفقيه عبد الله بن الطالب (ت1205هـ/1790م). ومنهم الشَّيخ الحاج محمد ثَنْب بن الشيخ عبد الله خال الشيخ عثمان دان فوديو، يقول عنه ابن أخته عبد الله بن فودي في “إيداع النُّسوخ فيمن أخذتُ عنه من الشيوخ”: “كان حافظًا شرح الخرشي، ثم ذهب إلى بلاد الحرمين فحجَّ وأقام هناك بضع عشرة سنة، ثم رجع”[11]. ومنهم الشيخ العالم الحاج محمد الكشنوي حجَّ عام[12] (1143هـ/1730م)، ومكث بالحجاز والقاهرة أحد عشر عامًا. ومثله الشَّيخ جبريل، أستاذ الشَّيخ العلاَّمة عثمان دان فوديو، قضى زهاء عشر سنوات بمصر والحجاز.
هذا، ومن عوامل الدَّفع القويَّة للعلماء للسَّفر، أنَّ العالم كان بعد عودته من المشرق، يقدَّم على غيره، ويقبل عليه الطلبة للإفادة من خبراته ومعارفه الجديدة. من ذلك أن الشيخ الحاج أحمد أقيت بعد مجاورته بأرض الحرمين سنين، وفي طريق عودته إلى مسقط رأسه في تمبكتو، واجتيازه بلاد هَوْسا في السُّودان الأوسط، أبى عليه سَرْكين (ملك) هَوْسا إلا أن ينزل بكاتسينا ويدرِّس بها، ويتولَّى القضاء. كذلك، استبقى السُّلطان محمد بيلو الشيخ الحاج عمر بن سعيد تال عنده، وأصْهَر إليه ولازمه وأخذ عنه بعض الإجازات حين وفد عليه من المشرق قاصدًا بلاده في فوتا بمنطقة سنيغامْبيا. وفي ترجمة الشيخ محمد بن يحيى بن محمد البرجي (ت780هـ/1378م)، ذكر التمبكتي أنَّه: “اشتهر في زمانه، ورحل حينئذٍ وحجَّ ورجع فحظي عند ملوك الغرب”[13].
في هذا السِّياق من رحلات علماء بلاد السُّودان إلى الخارج لطلب العلم، تَسْتَوقفُنا شهادةٌ تاريخيَّةٌ فريدة تؤكد أنّ السَّلاطين بمملكَتَيْ مالي وصونغايْ، كانوا يُشجِّعون رحلات الطَّلبة والعلماء بالإنفاق عليهم، وربَّما بابتعاث طالبٍ أو مجموعةٍ منهم، إلى بلاد المغرب أو غيرها؛ للتَّفقُّه على أيدي علماء تلك البقاع. تتجلى تلك الشَّهادة التَّاريخيَّة الفريدة فيما أورده السَّعدي عن الفقيه القاضي كاتب موسى، قال:
“وهو من علماء السُّودان الذين رحلوا إلى فاس لتعلُّم العلم في دولة أهل ملِّي بأمر السُّلطان العدل الحاج موسى”[14]. فهذه العبارة تجزم بوجود مجموعةٍ من العلماء السُّودانيِّين ممَّن رحلوا إلى المغرب؛ لكنْ هل كان ذلك بأمرٍ من مانْسا موسى، أم أنَّ ابتعاث الفقيه الإمام كاتب موسى وحده كان بأمرٍ من السُّلطان؟ لعلَّ الأرجح هنا شمول البعثة مجموعةً من الطَّلبة والعلماء، خاصَّة أنَّ السُّلطان موسى قد وُصِف في موضعٍ آخر عند فضل الله لعمري (ت749هـ/1348م)، بأنَّه “جلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك”[15]، فابتعاث العلماء في هذا السِّياق غير مُسْتَبعَد؛ خاصَّة ما عُرف عن مانْسا موسى من ثراءٍ وبذلٍ سخيٍّ في سُبُل العلم والدِّين.
وفوق ذلك، فإنَّ الزُّعماء غير المسلمين كانوا يتنافسون أحيانًا في إغراء العلماء للسُّكنى في ممالكهم، ومن أطرف ما ورد من ذلك، أنَّ الملك مورو نابا دلوغو، زعيم مجموعات موسي، حين سمع أنَّ منافسه ملك مامْبروسي قد اتَّخذ إمامًا ضمن وزرائه، رغب هو في اتِّخاذ إمامٍ، واستجلب لذلك الشَّيخ الإمام مصطفى بغَيُغ، وجعَله “إمام السَّلطنة”، وعلى يديه أسْلَم، وتعلَّم على يديه بعض أبناء الملك منهم: [16] نْغادي وسغيري (Ngadi, Sigiri).
وعلى الرّغم من تشجيع سلاطين بلاد السُّودان العلماء على السَّفر، واحتفائهم بالفقهاء الوافدين، فإنَّهم، وبعض القضاة، كانوا يحاولون أحيانًا ضبط تنقُّلات بعض العلماء، خاصَّة المشايخ الأعلام، وذلك حمايةً لينبوع الحركة العلميَّة المحليَّة من الاضمحلال، أو فيما نصطلح عليه في العصر الرَّاهن بالحدِّ من هجرة الأدمغة؛ فكانوا يمنعون بعض العلماء من السَّفر؛ للحاجة المحليَّة الماسَّة إليهم.
على سبيل المثال، يُذكر أنَّ الفقيه الحاج أبكر بير بن الحاج أحمد أقيت لما عزم على حجَّته الثَّانية، أخذ معه جميع عياله رغبةً في المجاورة، وقبل أن ينفصل بهم عن تمبكتو، انتزعهم منه القاضي العدل العاقب؛ لعِلْمه أنَّه لا يرجع، غير أنَّ هذا الشَّيخ أعاد الكَرَّة بعد وفاة القاضي؛ فغادر بلاد السُّودان “مع جميع عياله وأولاده.. وسكن المدينة المشرَّفة إلى أن مات مع كافَّة عياله في جوار المصطفى صلى الله عليه وسلم”[17]. أيضًا، يزعم صاحب مخطوط “تاريخ الوَنْغَريِّين” أن الشَّيخ عبد الرَّحمن زَغَيْتي حين أراد الخروج للحج، كان معه من العلماء (36)، وقيل (160) كلُّهم متفنِّنون في كلِّ فن؛ فخاف سلطان مالي مغبَّة خلوِّ مملكته من أولئك العلماء؛ فسعى إلى إقناع الشَّيخ بترك السَّفر، وفي وجه إصرار الشَّيخ على الرَّحيل؛ احتال عليه السُّلطان بأنْ أمر الملاحين (على نهر النيجر) بالتَّغيُّب عن عملهم أيَّاما، حتى إذا جاء الشَّيخ ليعبر النَّهر لم يجد من يحمله. (ورقة 4 – 10(.
ويبدو أنَّ حركة الرِّحلات العلميَّة، وابتعاث الطَّلبة إلى المراكز العلميَّة العريقة في المغرب والمشرق (مصر والحجاز)، قد انتعشت في فترةٍ لاحقة، ممَّا شجَّع ملوك كانم وعلماءها على تأسيس رواقٍ خاصٍّ بهم بالقاهرة، يعنون فيه بشؤون طلبة تكرور وعلمائها القادمين. كما يعنون بشؤون الحجَّاج المارِّين بالقاهرة، وكان يُعرف برواق أهل تكرور، ويرسلون إليه بالمال كلَّ عام، وليست مبالغةً أن يُعدَّ هذا الرِّواق أوَّل “مدرسة عالميَّة ومكتب سفارة” في تاريخ بلاد أفريقيا الغربيَّة[18].
ويظهر الحرص الشَّديد من لَدُن الطَّلبة والعلماء في الاستفادة من رحلات الحجِّ والمزج بينها وبين الرِّحلات العلميَّة، في ولوجهم الطُّرق الموصلة إلى المراكز العلميَّة في أفريقيا الشَّماليَّة، مثل القيروان، وفاس، على الرُّغم من كون تلك الطُّرق بعيدة، ولكنَّ العزم على لقاء العلماء ومشايخ التَّصوُّف في تلك المواضع كان حافزًا قويًّا للعلماء والطَّلبة على ولوج الطُّرق الطَّويلة.
نجد إشارةً إلى ذلك في مقدَّمة رسالة “تذكرة الغافلين” للشَّيخ الحاج عمر تالْ (ت1864م) حين ذكر خروجه للحجِّ، ذكر أنَّه عزم على “سلوك طريق فاس؛ لأنَّه طريقنا وأقرب لنا إلى بلوغ مرادنا من غيره، وما يسَّر الله لنا ذلك الطَّريق لموانع حصَلَتْ لنا فيه”[19]. فعلى الرُّغم من أنَّ طريق فاس كان –في الواقع- أبعد من الطُّرق التي كانت تخترق بلاد السُّودان الأوسط بشكلٍ طولي، وتنتهي بمناطق النِّيل الأزرق، أو بمصر (مثل درب الأربعين التي كانت تنتهي بالسَّالمة)، فإنَّ الشَّيخ وأمثاله كانوا يفضِّلون طريق فاس؛ من أجل ملاقاة العلماء وأرباب التَّصوُّف بالمغرب.
أمَّا الوجه الآخر من الرِّحلات الخارجيَّة، أي وفود العلماء إلى حواضر بلاد السُّودان، فقد كان نشاطًا متواصلاً، ولعلَّ من أشْهَر نماذج المشايخ الفقهاء الوافدين إلى بلاد السُّودان، الفقيه سيدي عبد الرحمن التميمي، جاء من الحجاز صحبة السُّلطان (مَانْسا) موسى، في حجَّته الشَّهيرة (724هـ/1324م)، وكان ذلك في فترةٍ مبكِّرةٍ نسبيًّا من النَّشاط العلميِّ، أي في عهد مملكة مالي قبل الفترة الذَّهبيَّة للعلوم الإسلاميَّة ببلاد السُّودان؛ لكنَّ الرَّاوي ذكر أنَّ التَّميمي حين سكن بلد تمبكتو.. “أدركه حافلاً بالفقهاء السُّودانيِّين، ولما رأى أنَّهم فاقوا عليه في الفقه؛ رحل إلى فاس وتفقَّه هنالك، ثم رجع إليه فتوطَّن فيه”[20]. ولا شكَّ أنَّ توجُّه التميمي إلى فاس دليلٌ على أنَّ الرِّحلة إلى هناك كان تقليدًا متَّبعًا عُرف قبل تلك الفترة، ويغلب الظنُّ أنَّ مانْسا موسى قد شجَّعه على ذلك، وأمدَّه بما يحتاج من الزَّاد والمؤونة.
أيضًا، من العلماء الوافدين: الفقيه محمد بن أحمد التازختي المعروف بأَيْدَ أحمد (توفي حوالي936هـ/1529م)، قرأ ببلاد تازخت، ثم رحل إلى تكدة ولقي الإمام المغيلي وحضر دروسه، ثم رحل للشَّرق؛ فلقي علماء أجلاء كشيخ الإسلام زكريا، والبُرهانين: القلقشندي وابن أبي شريف، وعبد الحق السنباطي وجماعة من العلماء، فأخذ عنهم علم الحديث، واجتهد حتى تميَّز في الفنون وصار من المحدِّثين. وقد ورد في وصف هذا العالم أنَّه كان “فقيهًا عالما فهَّاما محدِّثًا، متفنِّنًا، جيِّد الخط، حسن الفهم. له تقييد على مختصر خليل”[21].
من الوافدين إلى تكرور أيضًا، الفقيه مخلوف بن علي البلبالي (ت. بعد 940هـ/1533م)، بدأ دراسته بإيولاتَن، ثم سافر إلى المغرب، فأخذ عن ابن غازي وغيره، ورجع إلى بلاد السُّودان، وزار حواضرها مثل كانو، وكاشِنَ، “وأقرأ هناك، وجرى له أبحاثٌ ونزال مع الفقيه العاقب الأنْصَمَني، ثم دخل تنبكتُ وأقرأ بها، ثم رجع للمغرب فدرس بمراكش”[22].
والظَّاهر، أنَّ منطقة السُّودان الأوسط، أو ما يُعرف ببلاد هَوْسا، كان أكثر تعريضًا لوفود العلماء إليها من المشرق، ومن مناطق بلاد السُّودان نفسها على السَّواء، وذلك لعوامل جغرافيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة مجتمعة. وبحسب المؤرّخِ هيسْكتْ، فإنَّ بلاد هَوْسا قد شهدت تزايُدًا في عدد العلماء الوافدين في غضون القرن السَّادس عشر الميلادي، وأنَّ من مشاهيرهم الشَّيخ أيْدَ أحمد التازختي الذي سكن كاشِنَ وبها توفي حوالي (936هـ/1529م)، ومن الكتب التي انتشرت ببلاد هَوْسا على أيدي أولئك، كتاب: المدوَّنة الكبرى، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل[23].
هذا، وتمثِّل رحلة الإمام عبد الكريم المغيلي (ت909هـ/1503م) من تُوات إلى بلاد هَوْسا محطَّةً مفصليَّة في تأثير الرِّحلات العلميَّة ببلاد السُّودان. وتميَّز المغيلي بالتَّأثير المباشر في السِّياسة ونظام الحكم، وبكتابة الرَّسائل التَّوجيهيَّة للسَّلاطين، منها: “تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين”. أمَّا نسبة كتاب “أجوبة الفقير لأسئلة الأمير” إليه، ففي ذلك نظر ليس المقام تتبُّعه.
وأمَّا عن نتائج تلك الرِّحلات العلميَّة واستقرار أولئك العلماء ببلاد هَوْسا، فتمثَّلت في ظهور علماء محليِّين كبار أمثال الشَّيخ محمد الصَّباغ المشهور بـ”دانْ مارينا”، والشَّيخ الفقيه دانْ مثاني الكَشْنَوي، وغيرهم من العلماء في مختلف مناطق بلاد هَوْسا. كما ظهرت مؤلَّفاتٌ كثيرة على أيدي أولئك العلماء في شتَّى أفرُع العلوم والمعارف الإسلاميَّة، والفنون المختلفة، مثل: كتاب “تاريخ الأرباب في بلاد كانو “المشهور بتاريخ كانو، وكتاب “الدر المنظوم” في علم الفلك، للعلامة محمد بن محمد الفولاني الكَشْنَوي (ت1165هـ/1741م)[24].
هذا، ولعلَّ ما يميِّز الرِّحلة العلميَّة بأفريقيا ويعظم أهميتها ويعمِّق آثارها، طابعها الجماعي في الغالب، سواء في ذلك الرِّحلة الوافدة إلى بلاد السُّودان، أم الرِّحلات البعيدة للعلماء السُّودانيِّين إلى المغرب أو المشرق، فقلَّما تُذكَر رحلة عالم إلاَّ ويشار إلى بضع مشايخ معه. على سبيل المثال، وفد الفقيه سيدي عبد الله البلبالي إلى تمبكتو مع عددٍ من العلماء منهم: عبد الرحمن المعروف بألْفَعْ تُنكَ، والفقيه والد موسى كُرَي، والفقيه والد نانا بيرَ تورِ، بالإضافة إلى القاضي كاتب موسى الذي كان قد رحل إلى المغرب بأمرٍ من السُّلطان موسى. بالمثل، كانت رحلة الفقيه العلاَّمة محمد بَغَيُغ الونكري إلى المشرق بمعيَّة أخيه وخاله. وسبقت الإشارة إلى زعم مؤلف “أصل الونغريين” أنَّ الشَّيخ زَغَيتي حين وصل بلاد هَوْسا، كان معه علماء كثيرون بارعون في فنون كثيرة.
المحور الثَّالث: الرِّحلات: آثارٌ ونتائج مهمَّة
لقد امتدَّت آثار الرِّحلة العلميَّة ببلاد السُّودان الغربيِّ إلى آثارٍ ونتائج خارج إطار “العلم” البحت، أو بالتَّعبير الحديث: الدَّائرة الأكاديميَّة. إنَّ لها نتائج وآثارًا سياسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة شاملة. أليست جميع الحركات التَّصحيحيَّة، والحركات الجهاديَّة، ومبادرات مقاومة المستعمر مَدينةً للمشايخ المسافرين؟ منهم على سبيل المثال: الشَّيخ جبريل بن عمر، والشَّيخ عمر بن سعيد تال، والشيخ محمد الأمين سُونِنْكي وغيرهم… كلُّ أولئك رحلوا للحجِّ ومكثوا سنين عددًا بالشَّرق لطلب العلم، ثم عادوا إلى بلاد السُّودان.
ولكنْ، من باب الضَّبط، والالتزام بدائرة تأثيرات الرِّحلات العلميَّة ونتائجها المباشرة؛ بحسب ما أفصحتْ عنه بعض المصدريَّات التَّاريخيَّة المتوفرة، يمكن إيراد النَّتائج الآتية:
- (1) تداوُل الكتُب النَّادرة ببلاد السُّودان
كانت الرِّحلات العلميَّة وسيلةً مباشرةً لنشر الكُتُب النَّفيسة والنَّادرة ببلاد السُّودان الغربي، ولعلَّ النَّتيجة المباشرة الماثلة، وجود مكتباتٍ كثيرة بتمبكتو تحوي آلاف المخطوطات. ومن الإشارات إلى أثر الرِّحلة العلميَّة في تداوُل الكتب النَّفيسة بغرب أفريقيا، ما ورد في ترجمة الشَّيخ الفقيه عبد الله بن فودي لشيخه جبريل؛ إذْ ذكر أنَّ الشَّيخ قد أجازه جميع مرويَّاته، وأنَّه أعطاه “ألفيَّة السَّند” الذي ألَّفه شيخه المصريُّ مرتضى الزبيدي[25]، وأجازه جميع مرويَّاته”[26]. فرحلة الشَّيخ الحاج جبريل قد أفادت هنا في إمداد بلاد السُّودان بهذا الكتاب وبغيره من الكتب النَّفيسة، وبالإجازات العالية. هذا بالإضافة إلى أنَّ الشَّيخ عبد الله بن فودي المترجِم قد أخذ علومًا كثيرة عن هذا الشَّيخ، وقرأ عليه كُتبا كثيرة منها: كتب أصول الفقه، وجمع الجوامع مع شروحها، وبعض تآليف الشَّيخ نفسه.
وفي وصفٍ لورود كتاب “مختصر خليل” بحاضرة كانو، يقول مؤلِّف “أصل الوَنْغَريِّين”: “وجاء رجل من مصر مع تلاميذه يُقرئ الناس “الخليل” قبل أن يراه الناس بعينه إلاَّ سماع ذكره، وشاع في النَّاس أنَّ رجلاً مشرقيًّا جاء بكتابٍ يقال له “الخليل” قد أعجب النَّاس فرعيَّته، ومشهور كلامه”[27]. فهذا الكتاب المنتظر، لم يكن لأهل كانو اطِّلاعٌ عليه إلاَّ بفضل وفود هذا العالم من مصر؛ لذلك سرعان ما توافد النَّاسُ على هذا العالم وطلبَته لقراءة هذا الكتاب.
أيضًا، من النَّتائج لهذا النَّشاط العلمي المرتبط بوفود العلماء إلى بلاد السُّودان، كما يذكر الباحث لامين ساني، ظهور كتابة اللُّغات المحليَّة بالحرف العربيِّ؛ لأغراض المراسلات، وتدوين المعلومات غير الإسلاميَّة، وغيرها من الحاجات الوظيفيَّة في المجتمع، وتُعرف تلك الكتابة بـ”عَجَمي”، ومن أهمِّ المؤلَّفات في هذا السِّياق، كتاب “تاريخ الأرباب في بلاد كانو”، المعروف بتاريخ كانو، وهو مكتوبٌ بالحرف العربيِّ بلغة هَوْسا، وكتاب “تاريخ مانْدينْكا”. كما وُضِعَت مؤلَّفاتٌ كثيرة بالعجميِّ في شتَّى أفرُع العلوم، وفي الشِّعر التَّعليميِّ الدِّيني خاصَّة[28].
هذا، ومن طريف ما يُروى في هذا المقام، ما ذكره الرَّحالة الإنجليزي كلابيرتونْ (Hugh Clapperton,1788-1827) أنَّه حين أهدى نسخةً معرَّبة من كتاب إقليدس إلى السُّلطان محمَّد بللو عام (1826م)، وجد أنَّ السُّلطان كان يملك نسخةً معرَّبةً من هذا الكتاب، أتى بها أحد أقاربه من مكَّة[29].
- (2) حيازة الإجازات القويَّة والأسانيد الرَّفيعة
إنَّ السَّفر إلى المشرق أو بلاد المغرب، كان يعني سلوك أقصر الطُّرق إلى الإجازات والأسانيد الرَّفيعة. إنَّه قصْرٌ للزَّمن ولعدد الرِّجال في سلسلة السَّند. كما أنَّه فرصة ثمينة لمشافهة العلماء الكبار، والأخذ المباشر منهم، وقد يكون هذا الأخذ للعلوم البحتة، ولمعارف أخرى وأحوال خاصَّة لا يتأتَّى أخذها بالواسطة. وهنا لا يكاد يُذكر عالم راحلٌ إلاَّ وترد الإشارة إلى بعض من أجازه من العلماء الكبار.
على سبيل المثال، يقول صاحب التَّرجمة عن الشيخ الحاج البشير بن الحاج أبي بكر البرتلي (ت1204هـ/1789م): “حجَّ عام أربعة ومائتين وألف، وزار، له رحلة يذكر فيها مراحل طريق الحج من بلاد توات إلى الحرمين، ولقي العلماء والصَّالحين، ولقي الشريف المرتضى بمصر وأجازه”[30]. وممن حازوا الإجازات القويَّة بمصر والحجاز: الفقيه محمد بن أحمد التازختي، أجازه أبو البركات النويري بمكة، وابنُ عمَّته عبد القادر، وعلي بن ناصر الحجازي، وأبو الطيب البستي وغيرهم. أيضًا، من أصحاب الإجازات الكثيرة بمصر والحجاز، الشيخ العاقب بن عبد الله الأنْصَمَني المسوفي (ت. حوالي 957هـ/1550م)، رحل إلى الحجِّ وسكن مصر[31]، ودرس على يد السيوطي[32]، وممَّن أجازه السيوطي: الفقيه أحمد آقيت التكروري (الحاج أحمد)، حصل على إجازة لصحيح البخاري من السيوطي[33].
أما قاضي تمبكتو الفقيه العاقب بن محمود آقيت (ت991هـ/1583م)، فقد لقي الناصر اللَّقاني، وأبا الحسن البكري، والشيخ اليشكري وطبقتهم، و”أجازه اللَّقاني كلَّ ما يجوز له وعنه”[34]. وفي ترجمة البرتلي للشيخ القاضي محمد بن أندغ محمد (ت1020هـ/1611م)، ذكر أنَّه: “أخذ عن الشيخ الأجلّ بركات بن محمد بن عبد الرحمن الخطاب المكي، وأخبره بصحيح مسلم إجازةً بمنزله بمكَّة المشرَّفة في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وتسعمائة”. وعن الشيخ عبد الله بن محمد البوحسني قال: “حجَّ بيت الله الحرام وزار، وأخذ “إضاءة الدجنة” إجازةً عن أبي مهدي مفتي الحرمين”[35].
فهذه إجازاتٌ من لدُن علماء ذوي مكانةٍ معتبرة في الوسط العلمي في العالم الإسلاميِّ، ولا شكَّ أنَّها كانت صادقة، وكان لها مفعولها القويُّ في بلاد السُّودان في الارتقاء بالحركة العلميَّة وتنشيطها.
- (3) توسيع مدارك العلماء والفقهاء
إنَّ لقاء العالم بعلماء أفذاذ في أرجاء العالم الإسلاميِّ، كان من نتائجه المباشرة توسيع مدارك العالم، خاصَّةً أنَّ بلاد السُّودان كان يغلب عليها الطَّابع الأحاديُّ المتمثَّل في الفقه المالكي، والعقيدة الأشعريَّة؛ لذلك فإنَّ احتكاك علماء بلاد السُّودان بعلماء من خلفيَّات فقهيَّة وفكريَّة متعدِّدة، قد ساهم في توسيع مداركهم وأفقهم العلمي. هذا، وإنْ كان هذا الأثر من الانفتاح الفكريِّ يصعب رصده في كتب التَّاريخ والتَّراجم، فإنَّ بعض التَّلميحات تنمُّ عن هذا الجانب.
مثلا، العلاَّمة العاقب الأنصمني الذي رحل إلى الحجِّ وسكن مصر، ودرس على يد السيوطي وغيره من العلماء في مصر والحجاز، يشار إليه بصفاتٍ تدلُّ على رحابة أفقه المعرفيِّ، وتميُّزه عمَّن لم يرحل كثيرًا، من ذلك مخالفته مجموعةً من الفقهاء في وجوب الجمعة بقريته أَنْصَمَن، وفيها علَّق السعدي بقوله: “والصَّواب معه. “وكذلك أجوبته لمسائل عدَّة وجَّهها إليه أسكيا الحاج محمد سمَّاها “أجوبة الفقير عن أسئلة الأمير”، ورسالة أخرى “الجواب المجدود عن أسئلة القاضي محمد بن محمود”[36].
كما يمكن استشفاف آثار الرِّحلة في كثيرٍ من العلماء الذين التقوا بمشاهير العلماء في الشَّرق. فالفقيه الحاج أحمد بن أحمد آقيتْ (ت991هـ/1583م)، الذي سبقت الإشارة إلى لقائه كثيرًا من علماء مصر والحجاز، نجد أنَّه قد ساهم مساهمةً نوعيَّة وكميَّة في الحراك العلميِّ ببلاد السُّودان، في التَّدريس، والتَّأليف على سواء؛ إذْ درَّس نيفًا وعشرين سنة بعد عودته من الحج، وألَّف كثيرًا من الكتب، منها: شرح مخمَّسات العشرينيَّات للفازازي، وشرح لمنظومة المغيلي في المنطق، وتعليق على مختصر خليل، وحاشية بيَّن فيها مواضع السَّهو على شرح المختصر للتتائي، وله شرح على صغرى السنوسي، والقرطبيَّة، وجمل الخونجي.[37]
خاتمة
يتأكَّد مما سبق أنَّ الرِّحلة العلمية، الوجه المكمِّل لرحلة الحج، قد اضطلعت بمهمَّة تاريخيَّة عظمى ببلاد السُّودان الغربي؛ حيث كانت قادحة لحركةٍ علميَّة فذَّة بالمنطقة، وقد ظهرت الرِّحلة العلميَّة ضمن سياقٍ تاريخيٍّ أحدَثَهُ الإسلام؛ للحاجة الضَّروريَّة إليها في الحركة العلميَّة التي جاء بها الإسلام، وجعلَها لازمةً من لوازم استمرار الإسلام في كلِّ أرضٍ جديدةٍ وطئتها قدَمُ الإسلام. بتعبيرٍ آخر، إنَّ الرِّحلة العلميَّة بمثابة حبل السُّرة في ربط أفريقيا –بل الشُّعوب المسلمة الأخرى- بالمجتمع الإسلاميِّ العالمي الموسَّع على مرِّ العصور.
باختصار، فإنَّ الرِّحلة العلميَّة قد غدَتْ استراتيجيَّةً دعويَّة متَّبعة ببلاد السُّودان، وتمثَّلت بجلاء في ممارسات الدُّعاة الصُّواريِّين، وفي رحلة الشَّيخ عبد الرحمن زَغَيْتي إلى بلاد هَوْسا. وقد وقف المقال الحالي عند ثلاثةٍ من النَّتائج الكبرى المترتَّبة على الرِّحلة العلميَّة ببلاد السُّودان الغربيِّ، هي: تداوُل الكتب الكثيرة والنَّفيسة، وحيازة العلماء الإجازات الرَّفيعة، وتوسيع آفاقهم المعرفيَّة والفكريَّة، وتلك غاياتٌ إسلاميَّةٌ ثقافيَّة يصعُب تحقيقها في معزلٍ عن الرِّحلة العلميَّة.
الهوامش
[1] -James, Belich et al. 2016. The Prospect of Global History, Oxford University Press, p129.
[2] -Al-Bakri, al-masalik, 164, also: John Ralph, Willis. 1979. Studies in West African History, vol1, Psycho-
logy Press, p84.
[3] -Marty, Paul. 1922. Etudes sur l’Islam en Cote d’Ivoire, Ernest Leroux, p132.
[4] -السعدي، تاريخ السودان، مصدر سابق، ص 16.
[5] -لسعدي، المصدر السابق، ص321 – 322.
[6] – Nehamia, Levtzion. 2000. The History of Islam in Africa, Randall L. Pouwels, p109.
[7] – مخطوط: أصل الونغريين، ورقة 4.
[8] -البرتلي، فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، تحقيق: محمد الكتاني، ومحمد حجي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1401هـ /1980م)، ص 30.
[9] -السعدي، تاريخ السودان، مصدر سابق، 43.
[10] – كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. عبد الرحمن بن خلدون. مطبعة بولاق – القاهرة. الطبعة 1284هـ – 1867م، 6 /200.
[11] -In Bulletin of the School of Oriental and African Studies, (1957), (London: SOAS), Vol. XIX, pp550-577.
[12] – M. Nur Alkali “Some contributions to the Study of the Pilgrimage Tradition in Nigeria“, in Annals of Borno, Vol. II (1985), University of Maidugri, pp127-137.
[13] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص 450.
[14] – تاريخ السعدي، مصدر سابق، ص57.
[15] – العمري، مسالك الأبصار، مصدر سابق، 4 /97.
[16] – Levtzion, Nehemia. 1968, Muslims and chiefs in West Africa: a study of lslam in the middle Volta basin
in the Pre-colonial period, Clarendon, p91.
[17] – السعدي، مصدر سابق، ص32.
[18] – العمري، شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله. 2002م. مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق: حمزة أحمد عباس، أبو ظبي: المجمع الثقافي، 4 /97، وصبح الأعشى، 5 /271.
[19] – الفوتي، عمر بن سعيد، تذكرة الغافلين عن قبح اختلاف المؤمنين، تحقيق: آدم بمبا، مجلة آفاق الثقافة والتراث، دبي:
مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، عدد88، صفر 1436هـ/ديسمبر 2014م، ص161 – 203.
[20] – السعدي، المصدر السابق، ص51.
[21] – السعدي، المصدر السابق، ص39.
[22] – المصدر نفسه.
[23] -Lamin, Sanneh. 2009. The Origins of Clericalism in West African Islam, The Jour. Of African History, Vol. (1), 1976, p 49-72
[24] – M. Hiskett. 1967. » The Arab Star Calendar and Planetary System in Hausa Verse «, Bulletin of the SOAS., Vol (30),1, 158-176 (176).
[25] – هو الشَّيخ محمد مرتضى الزبيدي الحسيني (ت1205هـ/1790م)، والألفية المشار إليها، عبارةٌ عن منظومة في (1420) بيتاً، جمع فيها السيد المرتضى أسانيده، وشيوخه.
[26] M. Hiskett, The Materials, p557، تزيين الورقات –
[27] – أصل الونغريين، مخطوط مجهول المؤلف، ورقة 18.
[28] – Lamin, Sanneh. 2009. The Origins of Clericalism in West African Islam, African History, Vol.17(1), 1976,
p 49-72.
[29] – Hugh, Clapperton, Journal of a Second Expedition, J. Murray, 1829.
[30] – المصدر السابق، ص83.
[31] – التمبكتي، أحمد بابا. نيل الابتهاج بتطريز الديباج، إشراف وتقديم: عبد الحميد عبد الله الهرامة، (طرابلس ليبيا: كلية الدعوة الإسلامية، 1989)، ص535.
[32] – John O. Hunwich, “al Aqib al Ansammani’s replies to the Questions of Askia al-Hajj Muhammad”, Sudanic Africa, Vol. (2), 1991, (Norway: Bergen Trykk, 1992), pp 139-149.
[33] – المرجع السابق، ص189.
[34] – السعدي، تاريخ السودان، مصدر سابق، ص40.
[35] – فتح الشكور، مصدر سابق، ص160.
[36] – السعدي، المصدر السابق، ص41.
[37] – المصدر السابق، ص42.