مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

جامع الأندلس بفاس

ذ. عبد العلي بلامين
جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء

معلوم أن المملكة المغربية تزخر بمساجد عريقة متميزة ببنيانها الحضاري الفاخر، وإشعاعها العلمي الباهر، وقد تبوأت عند أهل المغرب على مر العصور مكانة فائقة، فهي من مظاهر حضارة المغرب السامقة، إذ لم تقتصر وظيفتها على أداء الصلوات الخمس وما يتصل بها، فقد اتُّخِذت من لدن المغاربة مركزًاً ثقافيا حضاريا لتثبيت دعائم إمارة المؤمنين، وتدريس مختلف العلوم، ومؤسسةً علمية لاجتماع الراسخين في العلم للنظر في النوازل والقضايا المستجدة وتبيان أحكامها وتقريبها من مختلف الفهوم، ولتأطير عامة الناس وإرشادهم إلى الخير من قبل من أُنيطوا بذلك من أهل العلم والدين، وقد امتد هذا الإشعاع الحضاري التواصلي للمساجد بالمغرب إلى مختلف الأقطار الإفريقية الشقيقة.

وما كان لذلك أن يتأتى ويستتب لولا دأب سلاطين المغرب الأماجد منذ قرون عديدة على العناية بالمساجد.

وامتداداً لهذا الدأب المبارك من قِبَل ملوك المغرب خلفاً عن سلف، أولى أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس -أعزه الله- عناية كبرى للمساجد بناء وتجهيزًاً وترميما، تفعيلا لمهام إمارة المؤمنين التي يضطلع بها جلالته بمقتضى عقد البيعة وما ينص عليه من الحفاظ على الدين ورعاية مصالح المسلمين.

وتتجلى عناية جلالته السامية بالمساجد من خلال مقتطف من خطابه السامي، ونصه: “…كما أمرنا باتخاذ الترتيبات اللازمة قصد إعادة المكانة لرسالة المسجد باعتباره مقرا للعبادة والتربية والتكوين والوعظ والإرشاد وباعتباره أيضا مركزا ينهض فيه العلماء والعالمات بتأطير المواطنين والمواطنات وصهرهم في مجتمع طاهر سليم واع ومتماسك”[1].

وقد استحضر جلالته البعد الحضاري والتواصلي الرفيع للمساجد محافظا بذلك على الخصوصية المغربية الأصيلة في مراعاة الرسالة السامية للمساجد بالمملكة المغربية الشريفة.

ومن المساجد العريقة بالمغرب التي يصدق عليها ما تقدم بيانه؛ جامع الأندلس بمدينة فاس الذي تزدان به المملكة المغربية والقارة الإفريقية جمعاء.

ويُجلي جامع الأندلس –إضافة إلى ما سلف ذكره- أنموذجاً من العمارة المغربية الفاخرة والأصيلة، ينبئ عن براعة المغاربة على مر العصور في الهندسة والبناء والتشييد وما يتصل بذلك من فنون الزخرفة والخط…

وفيما يأتي التعريف بهذا الجامع المبارك بإيجاز بقصد التقريب، وذلك من خلال ست نقاط رئيسة:

أولا: موقع جامع الأندلس ومؤسسته

يقع جامع الأندلس بباب الفتوح، حي الأندلس، التابع لعدوة الأندلس بفاس.

وقد أسس على يد السيدة مريم أخت فاطمة الفهرية عام (246هـ /860م).

انطلقت أشغال تشييد مسجد الأندلس من طرف مريم الفهرية بعد مرور سنة على تاريخ الشروع في أعمال بناء جامع القرويين من طرف أختها فاطمة الفهرية[2].

ثانيا: الوصف المعماري للمسجد

تبلغ المساحة الإجمالية لجامع الأندلس 3380م²، ومساحة فنائه 370م².

يحتوي الجامع على قاعة للصلاة، تتكون من سبعة بلاطات صغرى، وسبعة أخرى كبرى موازية لجدار القبلة، يعلوها سقف خشبي من شجر الأرز القديم محمول على 124 سارية مختلفة الأشكال والأحجام كُسي بعضها بالرخام، تتخللها قباب خشبية عليها زخارف منقوشة بأشكال متنوعة. ومعظم حيطان الجامع وأرضه مكسوة بالزليج والخشب.

ومحراب جامع الأندلس مزين بأشكال من الخشب والزليج والجبص، عليه آيات قرآنية، ومنبره عتيق. وبه مقصورة للخطيب تتوافر على ما يتطلب من وسائل الراحة، وخزانة خشبية صغيرة، وجناح خاص بالنساء.

تتدلى من سقف جامع الأندلس مصابيح وثريات للإنارة مصنوعة من النحاس مختلفة الأحجام، أكبرها الثريا التي سميت باسم المسجد أبدعتها أيدي الحرفيين المغاربة، زُيِّنت بزخارف وخطوط مجوهرة وكوفية مغربية.

أما صحن الجامع فيتخذ شكل مربع منحرف، يتوسطه حوض ماء للوضوء، وساعات شمسية، وبه صومعة تشبه صومعة القرويين، طولها حوالي 30 مترًاً، بها غرفة للمؤذن والمؤقت تحتوي على ما يلزم من ساعات وآلات للتوقيت، كما يوجد بها مرحاضان للحاجة.

أما ميضاءات المسجد فمنها مرحاضان داخليان خاصان بالنساء، وتوجد مراحيض الرجال خارج المسجد لقضاء الحاجة.

لمسجد الأندلس عشرة أبواب تطل على مجموعة من الأسواق والأحياء، منها باب خاص بالجنائز. ويسع المسجد ما يقارب 4000 من المصلين.

ثالثا: خططه الدينية

تؤدى بجامع الأندلس الصلوات الخمس، وتقام به الجُمع، كما تزاول به بعض الأنشطة الدينية كقراءة الحزب الراتب وتلاوة الأذكار وغيرها، كما كانت به بعض الكراسي العلمية تدرس بها مختلف العلوم الشرعية والتجريبية.

رابعا: من أوقافه

من أوقاف جامع الأندلس ما يأتي:

دار سيدي لحسن الدراري، تجاور دار الشاوي.

أربعة حوانيت بعدوة الصفاح.

ثلث دار في شركة ابن ميمون قديما تجاور “بوحسون” فوق سماط عدول العدوة.

خامسا: الترميم والإصلاح

خضع جامع الأندلس لمجموعة من الترميمات والإصلاحات خلال المراحل التاريخية للمغرب إلى عهد الدولة العلوية الشريفة، إذ قام السلطان المولى إسماعيل بتجديده ورصف صحنه بالزليج عام (1093هـ)، يشهد لذلك ما هو منقوش في الخشب خارج قبة السقاية ولفظه:

مولاي إسماعيل ألبسني البها *** فسحبت ذيلي فوق كل نفيس

زهوي ببيت الله حسبي مفخرا *** إذ صرت أجلي فيه جلو عروس

فرفعت فوق السلسبيل سرادقا *** في عام “يجمل شاهد”[3] تأسيسي[4]

 

كما خضع جامع الأندلس لأشغال الترميم على عهد السلطان المغفور له مولانا محمد الخامس طيب الله ثراه. وقد تُوِّجت جهود سلاطين وملوك الدولة العلوية الشريفة –أدام الله عزها وسؤددها- في العناية بجامع الأندلس ترميما وإصلاحا بما تم على عهد أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.

سادسا: ذكر طائفة من العلماء ممن تولوا الخطابة بجامع الأندلس

يتبوأ جامع الأندلس مكانة عظمى عند أهل المغرب منذ قرون، ولذلك كان الدأب على ألا يتولى الخطابة به إلا عالم محقق وفهامة مدقق، وفيما يأتي نورد قائمة بأشهر العلماء المغاربة الذي تولوا الخطابة بجامع الأندلس:

  • أبو الحسن علي بن عبد الرحمن الأنفاسي (ت 860هـ).
  • أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد الأوربي النيجي، المعروف بالصغير (ت 887هـ).
  • أبو الحسن علي بن القاسم التجيبي، الشهير بالزقاق (ت 912هـ).
  • أبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد العاصمي، المعروف بسقين (ت 956هـ).
  • يحيى بن محمد السراج الأندلسي (ت 1007هـ).

هذا تعريف موجز بجامع الأندلس بالمغرب نسأل الله تعالى التوفيق والسداد والحمد لله رب العالمين.

الهوامش

[1] – مقتطف من خطاب أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة عيد العرش المجيد، بتاريخ: 27 ربيع الثاني 1421هـ، الموافق لـ 30 يوليوز 2000م.

[2] – مساجد مغربية عبر التاريخ، إعداد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1433هـ- 2012م، ص. 32.

[3] -تشير هذه العبارة بحساب الجمل إلى سنة تمام الإصلاح والترميم، وهي: 1093 هـ.

[4] -انظر الدرر الفاخرة بمآثر الملوك العلويين بفاس الزاهرة، لعبد الرحمن ابن زيدان، المطبعة الاقتصادية بالرباط، ط: 1356 هـ،1937م، ص: 41 – 42.

تحميل المقال بصيغة PDF