مسجد تنبكت الكبير بجمهورية مالي
باحث في الدراسات الإسلامية- فاس
التعريف بالمعالم الدينية بالمغرب وإفريقيا: مسجد تنبكت الكبير بجمهورية مالي
في إطار التعريف بالمعالم الدينية والروحية بالمغرب وإفريقيا، فقد اقتضى النظر في هذا العدد التعريف بمعلمة دينية تتعلق بمسجد الجامع الكبير بتنبكت.
فنقول وبالله التوفيق:
يعد مسجد الجامع الكبير من أكبر مساجد تنبكت وأقدمها في غرب إفريقيا، ويسمى بلغة صنغاي مسجد دجنغاربير DJINGAREYBER.
وقد بُني معظم هذا المسجد من مادة الطين الممزوج بالقش والخشب، ويحتوي على فناء واسع غير مسقوف، ومساحة مسقوفة تقوم على خمسة وعشرين صفا من السواري الطينية الضخمة، تمتد من شمالي المسجد إلى جنوبيه، وعلى ثمانية بلاطات ممتدة من الشرق إلى الغرب. أما سقف المسجد فقد تخللته عشرات من الفتحات الصغيرة لإنارة المسجد نهارا وتهويته، ويمكن إغلاق هذه الفتحات عند هطول المطر، ويسع المسجد ألفي مصل، ويمكن أن يصلي 12 ألفا في باحته. وشُيدت أهم أجزاء المسجد بالحجر، وشُيد الجانب الغربي والمحراب وبعض أجزاء الكساء الخارجي والسقف من الخشب المتين.
ومما يُجلي جمال المسجد أبوابه ونوافذه الخشبية، التي تحفها زخارف الأرابيسك الملونة، وبعض الأشكال المعدنية الجميلة. وقد اعتبرت عمارة الجامع الكبير -خاصة عمارة صومعته- مصدر إلهام لأهل تنبكت، حيث قال العارف بالله تعالى القطب سيدي محمد البكري الصديقي: «إن عمارة تنبكت في عمارة صومعة الجامع الكبير، لا يفرط أهلها فيها».
ولا يعرف -على وجه التحديد- تاريخ بناء وتشييد هذا المسجد الذي يعتبر معلمة دينية وعلمية وحضارية ضاربة في القدم، غير أن الذي نقل إلينا في مجموعة من المصادر التاريخية التي تهتم بالشأن الإفريقي، أنه كان هناك مسجد أقيم على موقعه في القرن السابع الهجري.
وترجح بعض الروايات التاريخية أن بناء الجامع الكبير، تم لأول مرة في بداية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)؛ وهي الفترة نفسها التي نشأت فيها مدينة تنبكت؛ على اعتبار أن المسلمين جروا على عادة إنشاء المساجد الجامعة متى استقر بهم المقام. وبُني أول مرة على صورة بسيطة متواضعة مناسبة لعدد سكان المدينة في تلك الفترة من الزمن.
وقد عرف الجامع الكبير إصلاحات عدة من قِبل الحكام والسلاطين الذين تعاقبوا على حكم مدينة تنبكت، همت -بالأساس- ترميمه وتوسيعه؛ شأنه في ذلك شأن مجموعة من المساجد التاريخية العريقة في العالم الإسلامي، مثل جامع القرويين بالمغرب ومساجد الأندلس ومصر والعراق والشام. حيث عرفت هذه المساجد العريقة منذ بنائها إلى عصرنا هذا إصلاحات متنوعة، فرضتها مجموعة من الظروف، مثل زيادة عدد السكان ووفرة الثروات وتطور العمران. فلا عجب إذا رأينا الجامع الكبير بتنبكت يمر بإصلاحات كبيرة.
ويحكى أن أول عملية تجديد وترميم لهذا المسجد كانت سنة (724هـ /1324م) على يد السلطان منسا موسى الذي بنى صومعة المسجد أيضا، وذلك بعد عودته من الحج (سنة 724هـ /1324م).
وقد وجد الرحالة الألماني هنريش بارت Heinrich barth اسم السلطان منسا موسى محفورا على الباب الرئيسي للمسجد عندما زار مدينة تنبكت سنة 1853م.
ومن المرجح أن الذي قام بترميم هذا المسجد هو المهندس والشاعر الأندلسي أبو إسحاق إبراهيم الساحلي المعروف باسم الطويجن، والذي قدم مع السلطان منسا موسى من الحجاز عند عودته من الحج.
ومن عمليات الإصلاحات والتجديد التي خضع لها المسجد، أن الفقيه القاضي العاقب بن القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت (913 – 991هـ/1507 – 1583م) قام بهدم هذا المسجد وضمَّ إليه المساحة التي كانت تشغلها القبور المجاورة له وزاد فيه زيادة كبيرة عما كان عليه من قبل. وقد كان ذلك سنة (976هـ/1570م)، في عصر السلطان آسكيا داود (965 – 990هـ/1557 –1582م) عاهل دولة صنغي الإسلامية، وبعد رجوع الشيخ العاقب من الحج.
كما أدخلت عليه بعض الإصلاحات في الأعوام (1089هـ/1678م) و(1121هـ/1709م) و(1149هـ /1736م). وعلى ذلك يمكن القول إن المسجد القائم اليوم لا يشمل أية أجزاء يمكن نسبتها إلى ما قبل عام 1571م، وهو التاريخ نفسه الذي أعاد فيه القاضي العاقب بناء الجامع.
كل هذا الذي ذكر سابقا، جعل مسجد الجامع الكبير من المعالم الأثرية البارزة بمدينة تنبكت الإسلامية التاريخية؛ حيث صنفته منظمة اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي.