مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

منهاجية وسطية تأصيل التصوف السني في الثوابت الدينية المشتركة

الدكتور محمد زين الهادي الحاج علي العرمابي
جامعة أم درمان الإسلامية - جمهورية السودان

مقدمة

الحمد لله واهب العقول، قاسم الأرزاق: ﴿الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم﴾[1]، ﴿الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾[2]، له الشكر على ما وهبنا من علمه لنهتدي به في دياجير الدجى، لنعرفه به ونعبده على بينة: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾[3]، وله الثناء الحسن حتى نلقاه، على ما أودع فينا من جسد من طين لازب ليناسب حياتنا على الأرض، التي منها خلقنا، وفيها يعيدنا، ليتم التجانس والتآلف بيننا وبينها وما تنبت: ﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى﴾[4].

نزجي الثناء عليه أن جعلنا أمة وسطا شاهدة على الأمم بوسطيتنا في شؤوننا كلها..

“وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”.

والصلاة والسلام موصولان إلى أفضل خلقه وصفوة رسله، محمد صلى الله عليه وسلم، أزكى النفوس وأطهر الأعراق وأكمل الناس خَلْقاً وخُلُقاً، الذي اجتمع له كمال البشر وختم النبوة، فأجمل الله له ذلك بقوله: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾[5] الذي بعثه الله بالمنهج الوسط الذي هو العدل كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3 / 32 بقوله: الوسط العدل، جعلناكم أمة وسطا.

أما بعد،

فإن الإسلام جاء ليختم الرسالات الإلهية للبشرية، فجمع الله فيه فضائلها، وميزه بخصائص تجعله يساير كل عصر، ويتلاءم مع كل مصر، ويلبي حاجات كل أمة وفرد، ويبين كل شيء: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾[6]، ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾[7].

هي: الثبات في أصوله وقواعده وأسسه وأركانه: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾[8].

والمرونة والسعة والسهولة في فروعه التي تأتي في شكل عموميات، فهي كثيرة وغزيرة، يانعة الثمار، دانية القطوف لكل مجتنٍ، ميسرة لكل صاحب فكر ثاقب وعقل نير متزن، ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾[9]. فهذه المرونة والوسطية.

لقد خط الله لهذه الأمة منهجاً وسطا تنهجه ورسم لها مسلكاً تسير عليه، وهو الصراط المستقيم، من سلكه نجا، ومن ضل عنه هلك وغوى، واجتالته الشياطين وتفرقت به السبل، واضطربت به الأهواء: ﴿وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون﴾[10]، وهذا الصراط المستقيم هو المنهاج الوسط وهو الشِّرْعة التي شرعها الله لأنبيائه ورسله، فهي وإن كانت في الأصل واحدة، ولكنها قد تختلف في فروع منهجها، وفي وسائله وأساليبه، وهذا يشبه قول الله تعالى ذاكرًاً طرائق الأنبياء: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً﴾[11].

أما أصل المنهج الوسط، وهو الصراط المستقيم، الذي تتفرع عنه الوسائل والأساليب، فهذا لا بد من نهجه تماماً بتمام، ولا يجوز التفرق فيه، والاختلاف عليه، وهو ما ذكره الله تعالى بقوله: ﴿شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه﴾[12].

هذا هو أصل المنهج الوسط الذي لا ينبغي الاختلاف عليه ولا التفرق فيه، وهو ما أمر الله به رسله والدعاة من بعدهم.

وفي هذا البحث سوف نتعرض للنوعين، المنهج الوسط في أصله الثابت الذي لا يعتريه التغيير والتحريف، والفرع المرن الذي فيه القابلية للتطور زماناً ومكاناً، وهو القابل للاجتهاد.

فالأول لا ينبغي للأمة أن تختلف عليه، والثاني ما ينبغي لهم أن يعنِّف أحدهم الآخر على اجتهاده فيه.

وهذا ما حاولت أن أبني عليه في هذا البحث، فقصدت أن أبرز هذين الأصلين في وسطية التصوف في الإسلام واعتداله، بعيداً عن الجنوح للغلو والتطرف، ذلك أن التصوف السني قائم على السهولة واليسر في العبادة والمحبة في الله والتلطف مع الناس، لا الاحتراب والتعنف!!

وهو من الركائز الأساس لهذه المؤسسة المباركة، مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، والمجلس الأعلى للعلماء الأفارقة المنبثق عنها.

وسأتناول هذا الموضوع الشائق في ستة محاور- أولها عموميات- باختصار غير مخل، كما يلي:

المحور الأول: توطئة عن بناء منهاجية الوسطية في خطاب التصوف السني عموما

قبل الولوج في أضابير هذا البحث، وحتى نبني البيت على أساس متين ودعائم ثابتة تتحمل ما يشيّد عليها، ولا ينوء كلكلها به، حتى يحدث ذلك، فلا بد من تحديد مرتكزات وسطية التصوف السني التي يقوم عليها والأسس التي يبتنى عليها:

فـلا يبـتـنـى البـيت إلا لـه عـمد   ولا عـماد إذا لـم ترسـى أوتاد

فما هي تلك الأسس والدعائم التي لا يصلح المنهج الوسطي الصوفي إلا بها؟

نفضل أن نحصر ذلك ونختصره في نقاط مختصرة ومركزة، فالقصد هو إبراز تلك البنيات وإماطة اللثام عن تلك الجذور التي يقوم عليها منهج التصوف الوسطي، حتى تكون نبراساً وقائداً للعلماء الدعاة، والمريدون السالكون، يسيرون عليها، ومحطة ينطلقون منها، وركيزة يؤسسون عليها وجذعاً ضاربة جذورها في أعماق الأرض يرتوي من النبع الإسلامي الصافي الأصيل، فتثمر فروعه وتؤتي أكلها صافية نقية، هذه الأسس التي سنذكرها- إن شاء الله- هي التي بها ومنها وعليها ومن خلالها نطور خطاب المنهج الصوفي الوسطي وليس من خارجها… فإلى مباحثها فيما يلي:

المحور الثاني: منهاجية بناء وسطية التصوف السني على الكتاب والسنة

أي منهج يريد له أصحابه أن يكون وسطا صالحاً وشاملاً ونافعاً للناس في كل شؤونهم، في دينهم ودنياهم، يؤسسون عليه حياتهم ويرتكزون عليه في معاشهم ومعادهم، فلا بد أن يرتشف من معين القرآن ويشرب من زلال السنة.

فالقرآن هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه… كتاب أحكمت آياته ثم فصلت، من لدن حكيم حميد، وهو المنهج الوسطي السوي الذي اختاره الله للبشرية لتسير عليه ولتجد فيه الهداية والكفاية حتى تصل عن طريقه إلى بَر الأمان ومرفأ السلام. ..

وهذا المنهج الوسط الذي يقوم على أساس القرآن يخرج البشرية من ظلمات الجهالة والضلالة إلى نور الهداية: ﴿الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾[13]، وهذا ما وفق الله إليه أصحاب منهج التصوف السني، القائم على المنهج الوسط، وما وفق الله إليه الأمة في اتباعه هذا المنهج، فهو منهج أسس على وسطية القرآن.

فمنهج القرآن سلوك روحي وتربية وعلم وتشريع وحُكْم وحِكْمة واقتصاد وتجارة رابحة، وسياسة حكيمة ودنيا وآخرة وهداية ورعاية، وإصلاح وفلاح وزرع وثمار وبذرة خير وطب وشفاء لما في الصدور والأبدان والعقول… وعقديته وسط في كل تلك الأمور، إلخ.

فعلى العالم المرشد الذي يريد تربية مريديه، أن يحسن منهجه في خطابه الوسطي ويواكب عصره ويفيد مجتمعه، أن ينهج وسطية المنهج القرآني ويترسم خطاه ويحذو حذوه، ويتبحر في علومه، حتى يعرف الأصل فيقف عنده ويميز الفرع في مرونته وسهولته ومطاوعته ومسايرته للزمان والمكان ويعرف طبائع البشر، فلا يشدد على الناس فيه، حتى يأخذهم بوسطية الإسلام واعتداله ممثلة في التصوف السني المبارك. ..

إن منهج التصوف السني الذي يقوم على وسطية القرآن ويستند إليها؛ هو المنهج السوي الذي هُدي إلى الخير وسلك سبيل الرشاد.

والخلاصة هنا أن القرآن الذي استقى منه التصوف السني، هو منهج متكامل يصلح لكل الأعمار وكل الأجيال وكل الأذواق وكل الأجناس وكل الأعصار وكل الأمصار وكل الأوقات وكل الساعات وكل الساحات… إلخ. فلا بد للعالم الرباني المربي أن يبني منهجه على هذه الوسطية القرآنية ويسنده إليها فيفوز في الدارين وينال الخيرين.

أما السنة فهي المبينة للقرآن الشارحة لمختصره والمفصِّلة لمجمله والمخصصة لعامه والمقيدة لمطلقه، والسنة وحي لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، بشهادة القرآن:

﴿لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾[14] بل إن الله ألزمنا بما جاءنا من عنده:

﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾[15] ونحن مطالبون أن نُحكِّم فينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في كل شؤوننا، صغيرها وعظيمها، بل لا يكتمل إيماننا إلا بهذا التحكيم: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً﴾[16].

وبما أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أُعطي جوامع الكلم في وسطية واعتدال، فقد جاءت سنته شاملة ومستوعبة لكل جوانب الحياة وعلى مر الأعصار، ومختلف الأجيال، تفي بحاجات البشرية جمعاء، يأخذون منها مباشرة أو يؤسسون ويفرعون عليها، قياساً واستنباطاً.

ولو ذهبنا نعدد كلامه، صلى الله عليه وسلم، الذي هو من الكلمات الشاملات الجامعات، الدالات على وسطية التصوف في المنهج النبوي لما وسعنا هذا الحيز المحدود، فها هو يعبر عن ذلك الشمول الذي ييسر على الناس ويسهل عليهم ولا يحرجهم في شؤونهم: «… فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»[17].

والمنهج النبوي هو المنهج الوسط الذي يهدي إلى الصراط المستقيم الذي تبنى وتؤسس عليه كل المناهج الوسطية الصالحة ومنها منهج التصوف السني، فالله وصفه بأنه يهدي إلى طريق الحق: ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾[18]. وهذا ما رمينا إليه في بناء التصوف السني على الكتاب والسنة، فما فتئ شيخ الطريقة الجنيد يقول: طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، لا يخرج عنهما.

المحور الثالث: بناء منهاجية الوسطية في التصوف السني من خلال الثبات والمرونة

إن الله، جلَّت حكمته، اختار هذا الإسلام منهجاً وسطا لحياة الناس كلهم، على اختلاف بلدانهم وسحناتهم، وأزمانهم، يسيرون على هداه في شؤونهم كلها صغيرها وكبيرها، حتى يرث الله الأرض ومن عليها…

وهذا المنهج الوسط الذي أخذ به التصوف السني واختاره الله مستمرًاً مع البشرية؛ لابد أن يتميز بخصائص تجعله يتلاءم ويتواءم مع كل الأعصار وكل الأجيال وكل الأمم وكل السائرين إلى الله… كل واحد يجد فيه بغيته ومراده، لأن حاجات الناس وقضاياهم غير متناهية ولا محدودة، فهي تتلون وتتغير من حين لآخر…

ولهذا فقد جاءت في هذا المنهج الإسلامي خصيصتان تجعلانه صالحاً لكل الأزمنة ولكل الأمكنة، وكل الأجيال وكل الأمم والشعوب… وهما خصيصتا: منهاجية الثبات والمرونة، ولكل منهما مميزات وفوائد نذكر منها:

مميزات الثبات في منهاجية أصول التصوف السني

يتميز الثبات بأنه يكون في أصول هذا المنهج الوسطي، حيث نجدها غير قابلة للتغيير والتبديل، أو الزيادة والنقصان.

ومن مميزات هذا الثبات أنه يحفظ أصول هذا المنهج من الاقتلاع والاجتثاث. ..

ومن مميزات هذا الثبات في أصل منهج التصوف، أنه يحميه من الذوبان في المناهج السلوكية المنحرفة والثقافات التي تفد عليه، وهو في مسيرته الطويلة المباركة سائربالناس إلى الله تعالى.

مميزات المرونة في منهج التصوف السني

حتى يتكامل هذا المنهج الوسط ويصلح لكل زمان ومكان فلا بد أن يتسم بالمطاوعة والواقعية، فنلاحظ أن المرونة تكون في أطراف هذا المنهج وفروعه وجوانبه العبادية والسلوكية عامة. ..

ومن فوائدها

أنها تجعل المنهج يساير كل الأعصار والأمصار والأجيال وكل السالكين فيه، فهو بهذه المرونة الظرفية يساير المستجدات العصرية ويستوعبها، ولا يتناقض معها أو يلفظها أو يجمد عليها أو لا يتحملها ما دامت لا تتعارض مع الأصول الثابتة، عبادة وسلوكا وأدبا…

كما أن المرونة في الفروع تتيح للسالكين أن تكون حياتهم كلها عبادة لله، من خلال دائرة الأصول الثابتة العريضة الممتدة، فمهما تباينت عادات الشعوب وأعرافهم في الألبسة والأشربة والمأكل والمركب والمسكن… فإنها لا تخرج عن هذا المنهج ما دامت ضمن فروعه، حيث القاعدة الكبيرة المستوعبة: الأشياء على الإباحة ما لم يرد نص بتحريمها.

فمهما تغيرت الأشياء وتبدلت في هذا الإطار فهي ضمن المنهج، وهذا معنى قولهم في القاعدة الأخرى: تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان، والأحكام التي تتبدل هي الأحكام الفرعية القابلة للاجتهاد، وليست الأصول.

فثبات أصول المنهج الصوفي جعلنا نستمد منها ونبني ونؤسس عليها ونقَعِّد عليها القواعد ونرسي عليها دعائم البناء. والفروع المطاوعة نسير بها مع الأمكنة والأزمنة دون أن تتخطانا أو تتجاوزنا في سيرنا إلى الله…

المحور الرابع: بناء الوسطية في منهاجية التوازن في التصوف السني

التوازن سنة كونية أقام الله عليها كونه، فكل شيء في الكون متوازن لا خلل فيه ولا تفاوت: ﴿الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت﴾[19]، كل شيء من المجرة إلى الذرة في اتزان وتوازن…

فجاذبية الأرض تمشي بتوازن، وجاذبية الأنجم كذلك حتى نصل إلى جاذبية الذرات، سالبها مع موجبها…

والتوازن في التصوف السني، يتناول أشياء كثيرة في حياة السالك، منها:

  • التوازن بينه وبين نفسه

فإن المسلم إذا لم يسر بانضباط وتواؤم مع نفسه فلا يرجى منه أن يفعل مع غيره، فالله بدأ للإنسان بنفسه ثم أهله: ﴿يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة﴾[20].

  • التوازن مع الأقربين

وفي الدعوة، أمر الله نبيه أن يبدأ بأهله وعشيرته: ﴿فلا تدعو مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ [21]، فالأقربون والأهل هم أولى الناس بالدعوة لهذا المنهج.

  • توازن الصوفي مع المحيطين ببيئته

واستكمالاً لهذا التوازن الصوفي يوسع المسلم دائرة الوسطية السلوكية الروحية، فينداح حول محيطه من الجيران والقاطنين حولهم، ثم يمتد إلى القرىوالمدن والبلدات بعد ذلك: ﴿لتنذر أم القرى ومن حولها﴾[22].

  • التوازن عموماً

وخلاصة الحديث عن التوازن فإننا نعممه ـ خوف الإطالةـ فنقول: إنه يكون في شأن المسلم كله ابتداء من وسطية التصوف السني السليمة الصحيحة القائمة على الدليل والبرهان… إلى العبادة بأنواعها كلها عامة وخاصة، لأن الله ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾[23].

فالتوازن أساس متين من أسس وسطية التصوف السني، لا محيد عنها في مثل هذا العصر الذي اضطربت فيه الموازين واختلطت فيه المعايير، وتقاطعت فيه الخطوط وتشابكت فيه الخيوط، فالمسلمون بحاجة ماسة لهذه الوسطية الإسلامية المتزنة، خاصة مع قلة العلم الشرعي وكثرة مصادر المعرفة غير الثابتة والأصيلة… فالسائر على منهج التصوف السني لا بد أن يلتفت لهذا التأصيل ويركز جهده عليه؛ حتى لا تزل قدمه في مستنقع التيارات الضالة الآسن الزلق والجماعات الغالية المتطرفة.

المحور الخامس: مسايرة وسطية التصوف السني لمستجدات العصر

الشمول والاستيعاب لكل ما يهم البشرية في حياتها وبعد مماتها، في دينها ودنياها، في كل صغيرة وكبيرة… هو منهج التصوف السني الروحي الراسخ والأصيل المستمد من المنهج الذي قام عليه الإسلام وجاء به القرآن وعمل به النبي، صلى الله عليه وسلم، ومَنْ بَعده.. فهو استراتيجية إسلامية أصيلة لتغذية الروح والسمو بالنفس والأخلاق واتزان العقل واعتدال المزاج ونضارة الفكر. ..

والله سبحانه، يخاطب نبيه، صلى الله عليه وسلم، بخطاب جامع يعلمه فيه أنه مرسل للناس كافة، بل للثقلين، الإنس والجن، وأنه لا منهج بعد القرآن ينزل للبشرية، كما أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه نماذج من الآيات في ذلك: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًاً ونذيرًاً﴾[24]، ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً﴾[25].

إن وسطية التصوف السني تعين على تنمية وتقوية شخصية المسلم، وغرس الاعتزاز بالدين الإسلامي والأمة الإسلامية، وتعين وتساعد الدولة الإسلامية على النهوض بالأمة الإسلامية في كل جوانب الحياة، مما يجعل الإسلام حياً يمشي على الأرض ويقوم به الناس في شؤونهم كلها، حتى تنهض الأمة الإسلامية من كبوتها وتصحو من غفوتها وتصبح معتزة بتصوفها، دونما وجل ولا تردد… كل ذلك قوامه منهج عقدي صوفي وسطي لا شطط فيه ولا غلو.. ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً﴾[26].

المحور السادس: منهجية وسطية التصوف السني ومراعاة أحوال الناس في الحاضر والفوارق بينهم

إن الداعي للتصوف السني الذي لا يراعي فوارق الناس، في الغنى والفقر، وفي التعليم والجهل، وفي التدين والجفاف الروحي، وصغر السن وكبرها ومكانة الناس الاجتماعية والسياسية وعاداتهم وبيئاتهم وظروفهم وكل أحوالهم… إلخ.

فإن دعوته لمنهجه الروحي تنفِّر أكثر مما تحبِّب وتبعِّد أكثر مما تقرِّب، فهو كما يقولون: كمن يغرد خارج السرب فلا يُسمع تغريده ولا يتبع.

وهذا النوع من الدعاة هو الذي أفرز لنا أجيالاً من الشباب الأغرار المغالين، مع عوامل أخرى متداخلة، الذين أخذوا معلوماتهم- على ضحالتها- ومعارفهم الدينية من أفواه هؤلاء ومن كتاباتهم، ولم يثنوا ركبهم لدى العلماء الربانيين العارفين بأصول وفروع عقيدتهم ومتغيرات وثوابت هذا الدين، ومصالحه المرسلة وعموميات هذا الشرع وخصوصياته؛ الشيء الذي أوقع كثيرًاً من المسلمين في مشكلات فيما بينهم ومع غيرهم من العالم الآخر، وجعل صداماً عنيفاً بين هؤلاء وبين حكام الأمة ورعيتها، مما جر على البلاد الإسلامية كثيرًاً من المتاعب التي لم تخرج منها بعد…

ومن الفوارق التي يلزم لحامل منهج التصوف السني مراعاتها ما يلي:

أولاً: تداخل الثقافات وتعانق الحضارات

لقد جعلت سهولة المواصلات وسرعتها من العالم ما يمكن أن نطلق عليه البلدة الواحدة، فالإنسان يمكنه أن ينتقل من دولة إلى أخرى في زمن وجيز بالطائرات السريعة فتنتقل معه عاداته وأفكاره ومعتقداته الروحية وثقافته التي تحمل معها كثيرا من صور الطقوس العبادية التي تخالف العبادة في الإسلام…

وكذلك نجد من عوامل التأثير المتبادل بين الشعوب والأمم في الوقت الحاضر، المخترعات الحديثة في الاتصالات، ابتداء من البرقيات ومروراً بالهواتف المنزلية ثم المحمولة إلى شبكات المعلومات والبريد الإلكتروني E-Mail، وكل ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، ثم عملت الفضائيات على إكمال تلك الدائرة حتى تداخل طرفاها وانسبكت جوانبها حتى لا يكاد يرى أولها من آخرها! فأصبح كل شيء في العالم متاحا ومنشورا ويمكن الحصول عليه بكل سهولة ويسر بالصورة والصوت، وهو ما لم يكن متاحاً للسابقين الذين احتفظوا بكثير من مقوماتهم ومكوناتهم الشخصية، التي كادت أن تشتبك خيوطها في حال عالمنا اليوم!! مما جعل شخصية شباب اليوم تتغير بسرعة تحتم على الداعي لعقيدة التصوف السني ملاحقتها ومراعاتها بخطاب مرن ومتطور ومتجدد في ظل استراتيجية الإسلام الدعوية.

ولا ينبغي أن يحمل الناس أكثر مما يطيقون، كما علم النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه ذلك، فهذا علي بن أبي طالب يقول: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذب الله ورسوله؟»[27], قال ابن حجر معلقاً على حديث علي وموضحاً له: والمراد بقوله: «بما يعرفون»؛ أي: يفهمون، وزاد آدم بن أبي إياس- في كتاب العلم- «ودعوا ما ينكرون»؛ أي يشتبه عليهم فهمه، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة… ومثله قول ابن مسعود: «ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»[28].

ولا يحكم عليهم بالتفسيق والتكفير والتبديع والبعد عن الدين والخروج عن الملة إن لم يطابق عملهم ما كان عليه السلف الأول في القرون الأولى، عبادة وسلوكا، ولينظر إلى اختلاف الزمان وتباين العصور فيأخذهم بالتدرج، ويسلك معهم مسلك الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، عندما أراده ابنه الشاب الممتلئ حماسة تنفيذ الإسلام دفعة واحدة على الناس وحملهم عليه في زمن وجيز!! ولكن أباه الحاكم الراعي العالم الحكيم كانت نظرته أبعد وصدره أوسع ونفَسه أطول، فلنستمع إلى الابن الشاب الثائر، وإلى الأب الهادئ في هذا الحوار ليكون ذكرى وقدوة ومثالاً يحتذى لدعاة المنهج الوسطي في التصوف اليوم، خاصة الشباب المندفعين منهم: يقول عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه حاثاً له على أخذ الإسلام دفعة على الحق والعدل: يا أبتي ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل؟! فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك، قال: يا بني إنما أنا أروض الناس رياضة الصعب إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه[29].

فإذا عرف حامل هذا المنهج أحوال الناس وأوضاعهم، استطاع العمل معهم بسهولة ويسر، وأعطى كل فئة ما ينفعها ويفيدها حسب وضعها، ولم يحمل الناس على حالة واحدة من السلوك التعبدي، فالجاهل ليس كالعالم، والغني ليس كالفقير، والمدني ليس كالبدوي في حالات عديدة, والمتدين غير العاصي… ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾[30].

كما تمكنه تلك المعرفة بأحوال الناس من إقامة جسور العبور معهم وإنشاء رابطة فكرية تقربه منهم زلفى فيطمئنون ويسكنون إليه حتى تصبح بينه وبينهم ألفة ومحبة…

خاتمة

بعد أن يسر الله إتمام هذا البحث المبارك، ألخص بعض ما توصلت إليه من نتائج في نقاط مختصرة فيما يأتي:

  • – لقد اتضح لي سعة ومرونة منهاجية خطاب التصوف الإسلامي الذي يستوعب كل جديد وتليد على حد سواء.
  • – كما لاحظت وتأكدت أن الله وضع في هذا الدين ميزتين تجعلانه صالحاً لكل جيل وكل عصر هما: الثبات في أصوله والمرونة في فروعه.
  • – لقد تبين لي من خلال البحث أن ثلةً من الدعاة لم يستوعبوا خطاب التصوف السني الوسطي المعتدل، مما أوقع بعضهم في الغلو وذلك لقلة علمهم الشرعي.
  • – الأصول الثابتة لا يسع المسلمين الاختلاف عليها، أما الفروع الاجتهادية فلا ينبغي أن تؤدي إلى التفرق والتنابذ.
  • – هناك قضايا ومشكلات دعوية قائمة بين أصحاب الطرق أنفسهم، لا يستعصي حلها لو اجتمعوا على صعيد واحد، حيث تجمعهم أصول الطريقة.
  • – الحوار القائم على العلم والمعرفة وسعة الصدر واحترام كل طرف للآخر، هو أحد السبل المفضية إلى تجنب الغلو، فهيا بنا إليه… والله حسبنا ونعم الوكيل.

توصيات

  • – نوصي العلماء في مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بالعمل على إحياء ونشر منهج التصوف السني الوسطي القائم على العقيدة الأشعرية.
  • – على العلماء في هذه المؤسسة التعامل الحسن اللين مع كل الفئات الأخرى لإبراز سماحة الوسطية.
  • – كما أوصي القائمين على مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بتسهيل سبل التواصل بين العلماء من خلال تنظيم المؤتمرات ونشر المؤلفات.
  • – أوصي بإنشاء قناة فضائية خاصة بالمؤسسة لبث منهجها المبني على الثوابت الأربعة المشتركة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الهوامش

[1] – سورة العلق، الآية 4 – 5.

[2] – سورة طه، الآية 50.

[3] – سورة الإسراء، الآية 85.

[4] – سورة طه، الآية 55.

[5] القلم، الآية 4.

[6] – سورة النحل، الآية 89.

[7] – سورة الأنعام، الآية 38.

[8] – سورة الحجر، الآية 9.

[9] – سورة محمد، الآية 24.

[10] – سورة الأنعام، الآية 153.

[11] – سورة المائدة، الآية 48.

[12] سورة الشورى، الآية 13

[13] سورة إبراهيم، الآية 1

[14] – سورة النجم، الآية 3 – 4.

[15] – سورة الحشر، الآية 7.

[16] – ـ سورة النساء، الآية 65.

[17] – متفق عليه، وهذا لفظ البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب 2 الاقتداء بسنن رسول الله؛ وكذلك أخرجه النسائي في سننه، كتاب مناسك الحج، باب 1 وجوب الحج، حديث 7288؛ ومسلم في كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم، حديث 130.

[18] سورة الشورى، الآية 52

[19] – سورة الملك، الآية 3.

[20] التحريم، الآية 6.

[21] الشعراء 213 – 214.

[22] الأنعام، الآية 92.

[23] الذاريات، الآية 56.

[24] – سورة سبأ، الآية 28.

[25] الأعراف، الآية 158.

[26] البقرة، الآية 143.

[27] – صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 49 الفتح، 1 / 225.

[28] – المرجع السابق بالأبواب والكتاب والصفحات.

[29] – حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، 5/ 354، دار الكتاب العربي، بيروت, ط 5،

1407ه/1987م.

[30] – سورة الزمر، الآية 9.

تحميل المقال بصيغة PDF