مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

نانا أسماء: المعلمة الداعية ملكة نساء إفريقيا

ذ. الزبير مهداد
باحث - المملكة المغربية

عرفت القارة الإفريقية في العصور المتأخرة عدة حركات إصلاحية، ولعل أهمها حركة الشيخ عثمان بن محمد بن فودي، التي ظهرت في بلاد الهوسا والفولاني، والتي أسفرت عن قيام دولة إسلامية عاشت قرابة قرن من الزمن، يمتد ما بين بدايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكان لها الأثر القوي في توحيد المنطقة ونشر الإسلام فيها والنهوض بأحوالها الاجتماعية والسياسية، وامتد تأثيرها إلى مناطق واسعة من القارة الإفريقية.

 الشيخ عثمان دان (بن) فودي رائد الإصلاح

ولد الشيخ عثمان بن محمد عام 1168 للهجرة (ديسمبر/ كانون الثاني 1754م) في قرية “تغل” بمنطقة “غوبير” في بلاد الهوسا[1]، جنوب دولة النيجر حاليا، في عائلة اشتهرت بمكانتها الدينية، ولقب فودي يعني الفقيه في لغة الفولانيين سكان المنطقة.

نشأ عثمان في حجر والدين كان لهما الفضل الكبير في توجيهه ببداية تتلمذه على يدي والدته وجدته، كما تتلمذ على الشيخ جبريل الذي عمق تكوينه الديني والمعرفي، وارتبط به بعلاقة وثيقة استمرت طيلة حياته [2]، فكان يجد منه النصح والتوجيه والدعم السياسي لحركته الإصلاحية أيضا.

بعد تضلعه العلمي الديني، بدأ الشيخ عثمان بن فودي نشاطه في الدعوة إلى الله، في مجتمع لا يدين بالتوحيد، ويحكمه أمراء يتطاحنون على السلطة وتوسيع نفوذهم المجالي والسياسي، هذا الوضع الانقسامي لم يسمح أبدا بتوحيد المنطقة في مواجهة التحديات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي كانت تواجهها، فظلت على حالة كبيرة من التخلف والتشرذم.

وفي عمله الدعوي كان يبذل جهده في سبيل رفع المستوى التعليمي العام والوعي الاجتماعي، من خلال الرسائل التي كان يوجهها لمختلف الفاعلين والقادة وفئات المجتمع[3]، يوضح فيها دعوته وأهمية الإسلام في تخليص المنطقة من حالها المتخلف، الذي تعود أسبابه إلى تفضي الفكر الخرافي، والعوائد الضارة، والممارسات الناشئة عن فهم خاطئ للإسلام، هذه الممارسات كانت تشمل المجال الخاص للأفراد والمجال العام أيضا في المعاملات والعلاقات العامة؛ ما أدى إلى تحجيم دور الإسلام وتحريف رسالته، وإبطال دوره في تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والصراعات القبلية.

حركة ابن فودي على الرغم من أنها تولي الإصلاح الديني أولوية، إلا أنها كانت تركز على البعد الاجتماعي. وترسيخا للتماسك الاجتماعي كان الشيخ يحذر من اتهام المسلمين بالكفر أو تكفير المجتمع[4].

لقد ارتكز عثمان بن فودي في أسلوبه الدعوي على أمرين مهمَّيْن:

الأول: إبراز مكانة المرأة وقيمتها في المجتمع، ومكانتها في العمل التوعوي والدعوي؛ فاهتم بذلك، وكان يخصص للنساء وقتا لتعليمهن وإرشادهن، وألف رسالة في الحث على تعليم المرأة، الأمر الذي كان يعد تحديا للأفكار التقليدية السائدة التي كانت تبخس مكانة المرأة ودورها في المجتمع [5].

الثاني: الاهتمام بالعمل الثقافي وتشجيعه على الإنتاج الأدبي، مع احترامه للغات والثقافات المحلية، فكان يؤلف المنظومات الشعرية الحاملة لمضامين أخلاقية وإرشادية، بالأسلوب الشعبي البسيط، باللغة العربية واللغات المحلية، القريبة من فهوم الناس وأذواقهم[6].

وكان للحركة الجديدة دور هام في نشر وازدهار تعليم النساء في إقليم الهوسا وجهات واسعة في الجنوب الغربي للنيجر وشرق بنين وغرب الكاميرون.

وعلى الرغم من سلمية دعوته، وتمسكه بالحوار، فقد تعرض الشيخ للنفي سنة 1803م، بسبب شعبيته التي كان يتمتع بها، إلا أن نفي الشيخ لم يمنع دعوته من الانتشار، حيث اجتهد المؤمنون في بناء مجتمعاتهم على القواعد الإسلامية، وفي ظرف خمس سنوات فقط اكتملت معالم الدولة الإسلامية الجديدة في الهوسا، وتوحدت البلاد تحت راية واحدة، وأصبحت اللغة العربية لغة رسمية للدولة الجديدة[7] التي استمر وجودها حوالي قرن من الزمان، حتى انتهت على يد الاستعمار البريطاني عند غزوه للمنطقة.

وقد توفي الشيخ رحمه الله عام 1817م[8]، مخلفا رصيدا دعويا هاما، وخلفه ابنه في مواصلة السير على نهجه، وتحقيق مشروعه في إقامة دولته. كما خلف الشيخ عثمان بنات متعلمات صالحات، منهن نانا أسماء.

 نانا أسماء

نَانَا أسماء (1793 – 1864م)، عالمة وفقيهة وشاعرة ومربية، حفظت القرآن وتعلمت القراءة والكتابة ودرست العلوم الإسلامية من تجويد وأصول الفقه على يد والدها الشيخ عثمان مباشرة، وبمطالعة الكتب التي كان يمتلكها والدها في مكتبته الكبيرة.

وكان لها أثر هام في النشاط الدعوى، والنهوض بالثقافة العربية، وتعليم النساء، وتمكينهن، وإدماجهن في التنمية المحلية، إلى جانب دورها السياسي الداعم للحكومة المحلية بقيادة أخيها الذي خلف والدهما بعد وفاته.

 نشاطها الدعوي

نشأت نانا أسماء في أحضان عائلة توارثت العلم والعمل الدعوي، ولم تشذ نانا أسماء عن هذا المسار، فكانت داعية إسلامية نجيبة، وتعليمها النساء اللغة العربية كان يخدم الدعوة الإسلامية، فاللغة العربية هي وعاء الثقافة الإسلامية بامتياز، وعامل مهم لتيسير نشر الإسلام والتعريف به وفهمه واستيعابه.

وقد ألفت عدة رسائل في الدعوة، أهمها “تنبيه العاملين” و”خصائص سور القرآن الكريم”، أما في كتابها “تنبيه العاملين” فقد شرحت فيه أهمية تعليم المرأة، واستعرضت حججا وبراهين تؤكد على جواز تعليم النساء، وتبرز أهميته في مجتمع متخلف، لم يكن يرحب بذلك. وهذه الأفكار والآراء التي عدت متقدمة في عصرها، لفتت لها انتباه الدارسين والباحثين من مواطنيها الأفارقة ومن غيرهم.

وفي عملها الدعوي كانت متمسكة بالسنة، لا تفتأ تبرز أهميتها الدينية، داعية إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بسنته في أقواله وأفعاله وأخلاقه، وإخلاص النية في ذلك، والصدق في امتثال أوامره واجتناب نواهيه.

 تعليمها النساء

شرعت نانا أسماء في تعليم النساء في حداثة سنها بعد نفي والدها، لمواصلة رسالته التي بدأها، وكانت تمحو أمية النساء الأبجدية بتلقينهن المبادئ الأولية للقراءة والكتابة، والعمليات الحسابية البسيطة، مع اهتمام بارز بالتربية الروحية على منهج الطريقة الصوفية القادرية. بالإضافة إلى تشجيع النساء وتدريبهن على إتقان مهارات حياتية، تكون مصدر دخل مالي يحسن أوضاعهن الاقتصادية، ويساعدهن على إعالة أنفسهن بعد وفاة المعيل، خاصة وأن المنطقة كانت تعاني حروبا أهلية أودت بالعديد من الرجال، وخلفت آلاف الأيتام والأرامل [9]. وقد لقي نشاطها قبولا حسنا وانتشر صيتها في المنطقة فلمع نجمها، وأصبحت حلقاتها مقصدا لمئات النساء يلتمسن لديها ما يفيدهن من معرفة ومهارات وتربية.

ولما كثر عددهن، أنشأت عام 1830م شبكة من المعلمات تتألف من أنجب تلميذاتها، إلى جانب بعض تلميذات والدها الشيخ، حملن لقب “جاجيس” وأشركتهن في خطة تعليم النساء، فتوسعت الشبكة، وأصبح تعليم وتربية النساء متاحا حتى في منازلهن للواتي لا يستطعن مغادرتها، مراعاة لظروفهن، وقد تحقق ذلك بفضل وجود المتطوعات للقيام بالمهمة، يشتغلن بحماس ونكران الذات[10].

هؤلاء المعلمات “جاجيس” كن يحظين بمكانة بارزة وهامة في الدولة الجديدة. تميزن بلباس خاص، وقور محتشم، وكن يغطين رؤوسهن بقلنسوات تقليدية، مثل تلك التي يضعها رجال الدين المحليين، إلا أن قلنسوة المعلمات تكون ملفوفة بعمامة حمراء، فأصبحن من رموز الدولة الجديدة ونظامها التربوي التعليمي، وكان المنهاج التعليمي التربوي أساسه كتابات نانا أسماء وآثار شيوخ الطريقة القادرية، في تعليم وتوجيه وتربية جماعات من المتعلمات يطلق عليهن اسم “يان تارو” يؤلفن نوعا من الإخوانيات الصوفية.

وما أكسب هذه التجربة قيمة كبرى هو أن نانا أسماء وجماعتها أسست تعليمها على منهجية تراعي الظروف الثقافية والاقتصادية والبيئية للمجتمع المحلي، فكانت تعتمد اللغات المحلية في تلقين المعارف الأساسية إلى جانب اللغة العربية، وتعليمهن المبادئ الأولية في الدين[11]. وكان لهذه الخطة دور هام في النهوض بوضعية المرأة في المنطقة، وتحريرها من القيود الاجتماعية التقليدية البالية، فأصبحت الفاعلات الاجتماعيات والمدرسات والطالبات قادرات على السفر في كل أرجاء الدولة، دون الحاجة إلى كفيل أو وضي يفرض عليهن ولايته، كما أن إدماج التربية الروحية في المنهاج التعليمي، كان له أثر فعال جدا في إقبال النساء من مختلف الأعمار على هذه الحلقات التعليمية التربوية، وفي السمو بأخلاق النساء وترسيخ ثقتهن في أنفسهن، وفي قدراتهن ومكانتهن الاجتماعية.

 عنايتها باللغة العربية

ورثت نانا أسماء وأختها مريم عن أبيهما حب العربية، وكانت مكتبتهم المنزلية زاخرة بكتب الثقافة العربية، نهلت منها أسماء عشق الأدب العربي، وامتلكت ناصية اللغة العربية قراءة وكتابة وفهما، إلى جانب تمكنها من اللغات المحلية الهوسا والفلاني.

وألفت نانا أسماء عددا من الكتب بالعربية، في الثقافة الدينية وتدبير شؤون الحكم، كما نظمت القصائد في أغراض شتى كالرثاء والمديح، وفي ذكر فضائل الصحابيات، وعالمات بلاد السودان، وصنفت الأراجيز التعليمية في موضوع قواعد اللغة العربية والتجويد. هذه النصوص كان لها أثر هام في تأسيس الدراسات العربية الإسلامية في إفريقيا، وعرفت باللغة العربية وأسهمت في نشرها[12]. ما هيأ أهم شروط ترسيخ الإسلام في المنطقة، وتيسير فهمه وقراءة نصوصه المرجعية والمتون الدينية والفقهية بلغتها الأصلية.

 مشاركتها السياسية

إن فعالية نانا أسماء الاجتماعية، ونشاطها الدعوي والتعليمي أكسبها مكانة اجتماعية بارزة ولمع اسمها كامرأة مؤثرة في المجتمع المحلي.

وعند وفاة والدها عام 1817م، وتولي أخيها محمد بلو بن الشيخ عثمان تدبير الشأن المحلي لمنطقة نفوذه، أصبحت مستشارة لأخيها في حكمه، وكان عمرها لا يتجاوز 27 سنة، فوفرت له المشورة والدعم والمساندة، وعبأت القوى المحلية لدعم حكمه، فكان لها دور في ترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي[13].

ومكنها إتقانها العربية واللغات المحلية، من وضع خطة تواصلية مهمة، وتوجيه الرسائل الدعوية إلى حكام المناطق المجاورة لها، وإنشاء قنوات التواصل معهم[14].

 نشاطها الأدبي

تعد نانا أسماء في الأدب العربي النيجيري كالخنساء في الأدب العربي القديم، وقد كان لها هي وأختها تأثير ثقافي كبير في أوساط النيجيريين خاصة أنها بنت أكبر شيخ ومجاهد في نيجيريا، وعقيلة وزير من وزراء الدولة الإسلامية في صكتو. كما كتبت الشعر باللهجات المحلية كالهوساوية والفولانية، إلى جانب الفصحى.

أورد لها كتاب: “حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا” عددًا من القصائد والمقطوعات الشعرية، ولها قصائد ومقطوعات شعرية ضمن كتاب: “الثقافة العربية في نيجيريا.”

يطغى على موضوعاتها الشعرية المدح والتسبيح والإجلال، ومناجاة الله سبحانه وتعالى، والنزعة إلى التوحيد والتوكل في حالات الحزن أو السرور والتزهد، حيث يغلب عليه الطابع الصوفي بصفة عامة[15].

من أشهر قصائدها في الرثاء: قصيدة “إلى الله أشكو” التي ترثي فيها صديقتها وزوجة أخيها محمد بللو، عائشة بنت عمر الكموي.

القصيدة لامية القافية، نظمتها في ستة عشر بيتا على البحر الطويل، أعربت فيها عن حزنها العميق على فقدان صديقتها، وعلى غير عادة الشعراء التقليديين، افتتحت نانا أسماء قصيدتها بالشكوى إلى الله من أحزانها التي تنتابها بسبب فقد الشيوخ والإخوة والأخوات في الدين، واستعرضت خصال الفقيدة الحميدة وأخلاقها وفضائلها وأعمالها الاجتماعية، داعية الله لها أن يتولاها برحمته ويسكنها الجنة مع أحبتها، وأن يحفظ ذويها الذين خلفتهم في الدنيا.

إلى الله أشكـو مـن صُنـوف الـبلابـلِ *** غدت فـي سُويْداءٍ لقـلـبـيَ داخلِ

لِفقْدِ شـيـوخٍ قـادةِ الـديـن سـادةٍ *** وأخـواتـنـا أخـدانِ خـيـرٍ ونـائل

وذكَّرنـي موتُ الـحبـيبـةِ من مضى *** مـن الأخـواتِ الصـالـحـاتِ العقائل

من الصالحـات القـانتـات لربـهم *** من الحافظات الغيب ذات النوافل

فزادت همومي وانفرادي ووحشـتـي *** وسَكْبُ دمـوعي فـوق خدِّي هـواطل

لفقدي لعـائشةَ الكريـمةِ يـا لهـا *** مـن امـرأةٍ حـازت جميع الفضائل

من الذكر والصدقات ثم تلاوة *** وذب لمظلـوم وحمـل المثاقل

كفيـلة أيتـام غيـاث أرامـل ** وعمدة حي بالحبـا والتواصل

توحشت من فقدي لها وهي صفوتي *** وموضع سري من عصـور أوائل

فلا عجـب فالحـب فينـا مورث *** من أشياخنا من قبل وليس بزائل

جزاها إله العرش بالعفو والرضى *** وتوسيـع قبر في ضيـاء مواصل

وأمنهـا يوم القيـامة كـل مـا *** يخـاف بذاك اليـوم من كل هائل

وأسكنهـا في جن ـة مع شيخنـا ***   ووالدهـا مع زوجها في المنازل

ويحفظ من تركت من النسل كله *** شرار الأعـادي من عدو وصائل

صلاة وتسليم على خير من سعى *** يبلغ من ربي جميـع الرسـائل

فالقصيدة[16] ترسم ملامح التحول الذي عرفته أدوار النساء في ظل الحركة الإصلاحية الإسلامية الإفريقية الجديدة، والفقيدة عائشة كما وصفتها القصيدة أنموذج للنساء الإفريقيات المسلمات، الفاعلات اجتماعيا، فهي مع تمسكها بعباداتها ومناسكها، لا تكف عن تلاوة القرآن، وترديد الأوراد والأذكار، إلى جانب أدوار اجتماعية ثمينة، منها مناصرة المظلومين، وتحمل المسؤوليات، والتضامن الاجتماعي من كفالة الأيتام ودعم الأرامل، وترؤس الأحياء السكنية والتواصل الاجتماعي.

كما تشير القصيدة إلى أمر هام، وهو التربية على المحبة التي نشأت عليها نانا أسماء وأسرتها، هذه التربية تعد من دعائم ومكونات التربية الروحية الصوفية التي ترسخها في النفس بشكل قوي فلا تزول ولا تنمحي.

أما في المديح، فمن أشهر ما نظمته، قصيدة لطيفة استقبلت بها الشيخ الحاج أحمد بن محمد الشنقيطي الموريتاني، لما حل بمدينة صكتو، في طريقه إلى الحجاز، ضمن ركب الحاج لأداء مناسك الحج[17].

أكرِمْ بجَهبذِنـا الكريمِ الوافـدِ ** عن أرضِه نحو المدينةِ قاصدِ

يعتامُ ذاك البيتَ والقبرَ الذي ** ضاءتْ به أنـوارُ كلِّ معـاهد

تسمـو به نُجُـبٌ يذلِّلُهـا الهـوى ** وتُهينُ سعْيَ الـمُستحـثِّ الراشـد

واعلمْ بأنَّـا قد فرِحْنـا غايـةً ** بمـرورِ ركـبٍ للأحبِّـة قـاصد

لا سيَّمـا لأخٍ نسيـبٍ فـارعٍ ** في العلم ذي قدمٍ رفيـعٍ صـاعد

قد جاءنا بأمارةٍ عن علمه ** وبلاغـةٍ من نثرهِ وقصـائد

فجزاكَ ربُّ العرش خيرَ جزائه ** عنـا بحُسـنِ كلامِـه المتـوارد

وأتمَّ سعيَكَ بالمنـاسـك في منًى ** والسَّعْيِ في عرفاتَ بيتِ الواحد

وأتاح وصْلَك للمدينة بعدها ** وزيـارةً بمزائـرٍ ومَشـاهد

بمكانةِ المختار سيِّدِنـا الذي ** تسمـو لزَوْرتِه بعزمٍ نـاهد

صلّى عليه الله خيرَ صلاتِه ** مقرونةً بسلامـِه المتزايـد

الأعمال الأخرى

لنانا أسماء عدد من المقالات التي نشرتها لها صحف عصرها، منها: “تنبيه العاملين، “و “في خصائص سور القرآن الكريم.”

يدور ما أتيح من شعرها – وهو قليل – حول الرثاء الذي اختصت به قريناتها من

الصديقات، ولها شعر في المدح أوقفته على بعض الوجهاء في زمانها.

وقد تلقى العلم عليها عدد من علماء المنطقة، ثقفتهم ثقافة عربية، ونشاطها في التدريس، وحلقاتها العلمية، وكتاباتها، ورسائلها، جعلها تحوز- إلى جانب والدها وعمها – فضل تأسيس الدراسات العربية الإسلامية في هذه المنطقة من إفريقيا، كما خلدت في بعض آثارها ذكر عدد من المثقفات الإفريقيات، اللواتي ما كن يعرفن لولا آثارها.

وقد قام الباحثان بيفرلي ماك Beverly MACK وجين بويد Jean BOYD بجمع مصنفاتها في كتاب[18]، ضم آثارها الشعرية والنثرية في اللغات العربية والفولانية والهوسا.

 نهاية رحلة

عاشت نانا أسماء حياتها رافعة لواء الدعوة إلى الخير، ونشر الأمل، والنضال في سبيل قضايا المرأة، والنهوض بأحوالها، وتعليمها وتمكينها وإشراكها في التنمية المحلية، فدان لها بالفضل آلاف النساء، فنالت عن جدارة واستحقاق لقب “سَرَوْنِيَرْمَاتَ” أي ملكة النساء[19].

توفيت رحمها الله عام 1864م، عن عمر يناهز 72 سنة، مخلفة آثارا أدبية وثقافية، وأعمالا مجيدة وذكرا حسنا في المجتمع المحلي وسائر غرب إفريقيا، وشهد جنازتها الآلاف من الرجال والنساء، وفدوا من عدة جهات وقبائل، شيعوها إلى مثواها الأخير، فواروها التراب، وما زالوا يتوارثون ويتناقلون الإرث والأفكار التي خلفتها هذه المرأة الإفريقية المسلمة العظيمة، ويتدارسون سيرتها وأعمالها. ويطلقون اسمها على مدارس ومنظمات إسلامية، تخليدا لذكراها، وتعريفا بها لدى الأجيال الجديدة. 

خلاصة

الحقيقة الثابتة والمقرّرة في مصنفات الشيخ عثمان دان فودي وأبنائه وتلاميذه هي أنه نشأ صوفيا على منهج الشيخ عبد القادر الجيلاني، بعدما أخذها من شيخه جبريل بن عمر، والذي لقنه هو وأخوه عبد الله دان فودي (كلمة التوحيد)، وألبسهما الخرقة الصوفية القادرية، وأجازهما فيها بسنده المتصل إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. وعلى ذلك بنى عثمان دان فودي دعوته الإصلاحية في بلاد الهوسا، وكذلك جميع أبنائه وإخوانه.

القادرية إحدى أعرق وأقدم وأوسع الطرق الصوفية انتشارًا في العالم الإسلامي، وهي أيضًا أولى الطرق الصوفية وصولًا إلى الغرب الإفريقي، ومنها انبثقت الطريقة القادرية البكائية، وكان غرب إفريقيا مهدها الأول، وامتدت إلى نيجريا على يد الشيخ عثمان دان فودي الذي كان من أبرز تلاميذ الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي يعد المؤسس الثاني للطريقة البكائية في الغرب الإفريقي. والظاهر أن طريقته كانت من بين الطرق القادرية المعتدلة [20]، كما تتميز بانفتاحها على الطرق الصوفية الأخرى. يقول محمد ابن المختار، بمناسبة حديثه عن سند طريقتهم ومميزاتها: “… إن لطرق إسنادات القوم وسائط عقود تعرف بالانتساب إلى تلك الوسائط تلك الطرق، كطريقة القادرية وطريقة الشاذلية وطريقة النقشبندية وطريقة البدوية، وكانت طريقتنا من بينهم طريقة القادرية التي هي أشد الطرق متنا، وأشدها دون العوائق والبوائق حصنا، وردها أجل الأوراد قدرا، وأوفرها ذخرا، وأكثرها أجرا وأشيعها ذكرا.

وكانت مظاهر التدين عندهم تمتح من الحقل الصوفي أخلاقا وسلوكا والتفافا حول الشيوخ المربين، كما كانت مناسباتهم وثقافاتهم تترجم مدى تأثرهم الروحي بالحقل الصوفي، كما التزموا في طرقهم وتربيتهم الصوفية بالأخذ عن الشيخ المربي المأذون، معتمدين في طرقهم تلك على الأذكار بأعداد وأوراد معلومة وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتحسين الجانب الأخلاقي لدى المريد، بتربيته على الزهد والكرم والتسامح.

فالتصوف في إفريقيا ملأ الفراغ المهول الذي صنعته الخرافة على مدى قرون في عقول الناس، بشكل جعل الكثير منهم يمارس الطقوس الوثنية ويؤمن بتأثير قوى سحرية خارقة على الإنسان، فكانت الحركة الصوفية بمثابة الدواء والعلاج لتعليق هذا الإنسان بالإله الواحد وتعريفه بمصيره وربطه بقصده الأصلي الذي وجد لأجله كما أسهمت في تحقيق وترسيخ وحدة القبائل الإفريقية روحيا، وتمتين روابط التآخي في إطار الطريقة، بعدما كانت شيعا وشعوبا متصارعة، ما مكنها من توحيد صفوفها في مواجهة القوى الاستعمارية ومقاومتها، وتحقيق التضامن السياسي والتكافل الاجتماعي.

الهوامش

[1] -يعقوب علي: الشيخ عثمان بن فودي ومنهجه في التربية الروحية لأتباعه، مجلة العلماء الأفارقة، العدد 1، السنة 1، مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، الرباط، أكتوبر 2019م، ص:183.

[2] -يعقوب علي، المرجع السابق: ص:184.

[3] -الملاح، بشار أكرم جميل: تاريخ الإسلام في إفريقيا، دار الفكر، عمان، 2014م، ص:214.

[4] -الملاح، نفسه، ص:215.

[5] -أحمد، مهدي رزق الله: حركة التجارة والإسلام والتعليم في غربي إفريقيا، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 1997م، ص:452.

[6] -الملاح، المرجع السابق، ص:214.

[7] -الملاح، المرجع السابق، ص:217.

[8] -الملاح، المرجع السابق، ص:218.

[9] https://ar.wikipedia.org/wiki: نانا-أسماء-بنت-عثمان- فودي –

[10] -الجمعاري، هوذا إسحاق، وعثمان الحاج عمر: جهود نَانَا أسماء، بنت الشيخ عثمان بن محمد بن فودي في نشر الثقافة العربية والإسلامية في خلافة صُكُتُو بنيجيريا، المجلة الدولية لدراسات غرب آسيا، المجلد 9، العدد 1، (2017م)، الجامعة الوطنية الماليزية، ص:153.

[11] الجمعاري، نفسه، ص:151.

[12] -الجمعاري، المرجع نفسه، ص:154.

[13] -الجمعاري، المرجع نفسه، ص:153.

[14] -الجمعاري، المرجع نفسه، ص:153.

[15] -عثمان، برايما باري: جذور الحضارة الإسلامية في الغرب الإفريقي، القاهرة، دار الأمين، 2000م، ص:140.

[16] -بلو، سليمان محمد: لامية نانا أسماء بنت الشيخ عثمان بن فوديو في رثاء صديقتها عائشة، “يندوتو” مجلة أكاديمية للغة العربية وآدابها، العدد الأول، رمضان 1438هـ/ 2017م.

[17] بشر مالمي ساعي: فن المديح لدى الشاعرة نانا أسماء بنت عثمان فودي، مجلة مالم، مجلة الدراسات اللغوية، العدد

11، صفر 1436، ديسمبر 2014م، ص:116 – 117.

[18] – Jean Boyd (Editeur), Beverly Mack (Editeur), Collected Works of Nana Asma’u: Daughter of Usman ‘dan

Fodiyo (1793-1864) ; Michigan State University Press ; 1997

[19] الجمعاري، مرجع سابق، ص:155، هامش:8.

[20] -محمد نعايم والسعدية أوتبعزيت: الطريقة المختارية: الأصل والامتداد، مجلة دعوة الحق، العدد 415، ربيع الثاني1437هـ/ فبراير 2016م، نقلا عن الموقع التالي: https://www.fm6oa.org2

تحميل المقال بصيغة PDF