الشيخ أحمد بمبا ومنهجه في تهذيب الفكر الصوفي وتنقيته
كلية الدعوة الإسلامية - السنغال
منهج الشيخ أحمد بمبا في تهذيب الفكر الصوفي وتنقيته
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يمثل التصوف رهانا معرفيا وروحيا إنقاذيا، يقدم في مقارباته وأطروحاته متنفسا سعيدا لإنسان المادة والآلة، الذي كبلته إكراهات الشكليات والقشور، وأسرت فكره وتصوره وتفسيره للعالم من حوله؛ ولهذا يتنامى حضور خطابه في مختلف المشروعات الحضارية والمجتمعية الهادفة إلى إسعاد الإنسان وترفيهه، وتحقيق مقتضيات الاستخلاف والإعمار في الكون.
هذا، وقد كان التصوف الإسلامي السني المعني بتزكية النفس وتطهيرها من الغل والحسد وسائر المهلكات المدمرة لها وللروح والجسد، الخالي من التفلسف والإغراق الشديد في التأملات الميتافيزيقية؛ مصدر إلهام ورافدا غزيرا يستمد منه رجال الدعوة والفكر والإصلاح في بلادنا المباركة القوة المعنوية والمادية التي تمكنهم من تعزيز الذات والذب عن الهوية الإسلامية لهذه الشعوب رغم ما تعرضت له من محاولات المسخ والتمييع، ويأتي الشيخ أحمد بمبا الخديم في مقدمة رجال التصوف الذين اختاروا سلوك الطريق والمنهج ذي الشوكة في تحريك وتأطير مشروعه التجديدي المتجاوز لحدود الزمان وقيود المكان، وهو مشروع يقدم رؤية طموحة ومتوازنة لتطبيق التصوف وتجلياته، يرتقي به نحو مصاف الغايات النبيلة للوجود، وينأى به عن الدروشة والكسل والاتكالية، رابطا بينه وبين حاجات الإنسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ليمثل بذلك الأنموذج الصالح والمتوازن الذي كان هدف الأنبياء والصالحين رحمهم الله في دعواتهم المباركة.
هذا وسنعالج في هذه الورقة بإيجاز المباحث الآتية:
المبحث الأول: تأصيل المصطلح وضبطه.
المبحث الثاني: تصنيف المصادر وانتقاؤها.
المبحث الثالث: دحض الشبهات والشطحات.
آملين من الله العلي القدير أن يوفق الجميع إلى ما فيه الخير والسعادة.
المبحث الأول تأصيل المصطلح
من أهم ما عني به الشيخ أحمد بمبا في مؤلفاته وفي رسائله وفي فتاواه عن التصوف والصوفية؛ ضبط المصطلح وتأصيله معجميا ومفاهيميا، خصوصا وأنه يشكل هما بحثيا قديما تنازع حوله المنصفون للتصوف والمعادون له، حيث حاول الأخيرون مرارا رده إلى جذور وثنية أو كنسية سعيا منهم لنفي صلته بالإسلام وتأكيد دخيليته أو تسلله إلى الفكر الإسلامي عبر قنطرة الزنادقة والمتشبثين برواسب دياناتهم القديمة، وهو اتجاه بحثي شديد الحضور في الأبحاث والدراسات الموجهة في هذا العصر؛ منها على سبيل المثال: رسائل عن علاقة التصوف بالبوذية، أو علاقته بالهندوسية، أو علاقته بالاستشراق والصليبية العالمية.
وبما أن هذه الدراسة ليس غرضها الرد الأكاديمي على تلك الأطروحات غير المنصفة؛ فإننا سنعود قليلا إلى مصادر التراث لمعرفة جذور المصطلح ودلالاته التي أشبعت بحثا، يقول ابن خلدون عن أصل التسمية: “هذا العلم، من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف عن العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة[1].
يؤكد ابن خلدون هنا جدة المصطلح وحداثته في المعجم الإسلامي، فهو لم يكن معروفا في مبناه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن عاش بعده من صحابته الكرام رضي الله عنهم، وتم استحداثه في القرن الثاني الهجري على مسمع عدد من التابعين البررة؛ لأسباب يمكن تفسيرها بأنها كانت رد فعل ضد طغيان المادة وغلبة الاتجاه الشكلي على معالم حياة المسلمين بعد توسع الفتوح الإسلامية، وميل الكثيرين إلى مظاهر الترف والبذخ والتنعم بطيبات الحياة الدنيا، كما يؤكد أن المعاني والقيم التي يدعو إليها التصوف والصوفي كالزهد والتوكل والورع والصبر والانقطاع إلى الله تعالى، كانت معهودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتالي، لا يوجد أي مبرر شرعي لرفض المصطلح والحكم على غربته ودخيليته لعدم ورود مبناه في أدبيات سلف الأمة المتقدمين. وهو الاتجاه الذي تبناه جمع من العلماء والزهاد ولا مشاحة في الاصطلاح، يقول الجنيد: [2]والتصوف: تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، ومجانبة الدواعي النفسية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واستعمال ما هو أولى على الأبدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله على الحقيقة، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الشريعة[3] ومثله زروق[4] الذي يرى بأن تعريف التصوف تم تفسيره بشكل متوسع جدا، تجاوز عند البعض الألفين نظرا لتشعب الموضوع ومرونة مفاهيمه، فيقول: “وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ الألفين مرجع كلها: صدق التوجه إلى الله وإنما هي وجوه فيه “[5].
بما أن الشيخ أحمد بمبا ظهر في عصر كان يتسم بالجمود والتخلف والانغلاق وغلبة الخرافة والدجل والشعوذة؛ فقد كانت دعوته إلى تأصيل التصوف وإعادة ضبط مصطلحه تمثل اتجاها تجديديا في الفكر والعمل ينضاف إلى مختلف مشروعات التجديد التي اضطلع بها عدد من العلماء الربانيين في عدة مناطق في العالم الإسلامي، وقد وصف صاحب المنن قلة المعرفة وضياعها في تلك المرحلة وغربة الإسلام في دياره، واندراس رسوم التصوف وأفول نجمه، كما وصف حالة البلاد غداة ظهور الشيخ، في فترة حرجة من تاريخ الأمة لوقوع غالب بلادها تحت قبضة الاستعمار الغربي وتراجع خط المقاومة وحركات التصدي للمشروع التغريبي، فيقول: “ولواء الإسلام يتمايل يمينا وشمالا، لا يستقر ولا يرتكز على قوة ثقله، لكثرة الفساد وظهور البدع والمنازعة في الرئاسة، فبينما هو كذلك إذ قيض الله للإسلام من حرب لأنواره زخيخها، ومد بحوره فتقاذفت أمواجها، واستقل بالراية، فهزها على جماهير الكفر والفسق فزحزح جنودها، وبدد شملها وفرق جمعها وأزاح عن رونقه غبارها، الشيخ الخديم، من لا ينازع في الحضرة لقبه، ولا يشكل في القطبانية والصديقية علمه. فرجع بالتربية إلى محلها، وأقام أركانها على أساسها. فأحيى الله على يديه ميت الدين والمعرفة، وبوأه فيهما أعلى مكان وأعلى منزلة. ”
لهذا، يأتي تعريفه للتصوف وتأصيله لمفاهيمه وأبعاده انعكاسا على هذا الواقع المتردي، والذي قد يرشح في أي وقت ظهور اتجاهات شاطحة وانتهازية ترتزق بالتصوف وتتأكل عليه عبر التلاعب بالمصطلحات والمفاهيم، وصرفها نحو أجندتها الخاصة، وسيأتي تفصيل ذلك في المبحث الثالث عند مناقشة الشطحات. فقد عرف التصوف تعريفا دقيقا لم يتوسع كثيرا في تناول المدلول اللغوي وإبراز الجدل الطويل حوله، بقوله عن الصوفي:
والحَاصلُ الصُّوفيُّ عالِم عمِل *** بعلمه حَقيقة ولمْ يَمِل
فَصارَ صَافيا من الأكدَارِ *** مُمتلئ القلب مِن الأفكَارِ
منقَطعًا لربّه من البشَرْ *** مسَوّيا دينارَ عيْن بالمدَرْ
كالأرضِ يُرمَى فوقَها كلُّ قبِيحْ *** ولا تُري من بَطنها إلا مليحْ
يطأُها الكَريمُ واللئيمُ *** والبَر والعاصِي وتستَديمُ
وكالسَّحابِ وكقطر الماءِ *** في الظلِّ والسَّقي بلا اسْتثناءِ
ومن يَكُن كَذاكَ فَهْو صُوفِي *** أولا فذُو دَعوًى علَى المعروفِ[6]
فالشيخ، لم يتوسع هنا في التجريد والجدل النظري العميق؛ بل تصدى مباشرة للجوانب التطبيقية العملية في التصوف، وهي التي تربط مفهومه بالقيم الإنسانية المشتركة النبيلة التي تدعو إليها الديانات والفلسفات العامة من فضيلة وبر وتسامح وتعاون، فيعتبرها المعيار الفصل للحكم على صدق توجه فلان، أو ادعائه الذي لا تنطلي خفاياه على العارفين، ومع ذلك كله سيوجد في كل عصر الكثير من أدعياء هذا الاتجاه ممن يلبسون المسوح والرقاع تكسبا ومتاجرة، لكن الأصول العامة تبقى المحكم الوحيد، والتي جمعها الشيخ أحمد بمبا في منظومة رائعة:
وفي أبيات مشابهة يقول:
إن أصول القوم سبعة ترى *** أتحفنا بكلها رب الورى
الاعتصام بكتاب الله *** والاقتداء برسول الله
أكل الحلال واجتناب المعصية *** خامسها كف الأذى فلتكفيه
سادسها الأداء للحقوق *** وتوبة من جملة العقوق
نص بها سيدنا الشعراني *** العارف المحقق الرباني[7]
ركز الشيخ في هذه الأبيات المقتبسة من قواعد زروق ولطائف الشعراني أو مواهبه على مسائل مهمة في الفكر والعمل نوجزها في الآتي:
- –الدفاع عن التصوف السني ذي المرجعية الرشيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقابل ما يعرف بالتصوف الفلسفي أو البدعي الذي وجهت إليه عدة مؤاخذات من قبل أهل الحديث قديما وحديثا؛ باعتباره دخيلا ممزوجا بالغنوصية والأفكار الإشراقية الفلسفية، ويحملونه مسؤولية ما وقع عليه عدد كبير من الصوفية من شطحات وانحرافات يرفضها المنطق والعقل السليم، فهو بهذا التأصيل؛ يؤكد سنيّة اتجاهه الصوفي ورفضه للبدع والخرافات والخزعبلات التي انتحلها المنتحلون ورفضها المنصفون.
- – ربط التصوف بالعلم والتفقه في الدين، لنفي أية صلة تعزوه إلى الجهل بالدين، فالصوفي في الأصل عالم وفقيه بالدين وبالشريعة الإسلامية، وهي لفتة مهمة جدا في وسط يعج بادعاءات وأراجيف يروجها أناس يعادون العلوم الشرعية ويعتبرونها علوم أوراق ناقصة وعاجزة عن تربية المرء وتوجيهه وتزكيته بطريقتهم الخاصة، مع ما في تلك الدعاوى من مخاطر نسف جزء مهم جدا من تراثنا الإسلامي المكتوب، عقيدة، وحديثا، وفقها.
فللتصوف أصول تعرف *** تسعة أشياء لدى من يعرف
أولها تلازم الكتاب *** وسنة المختار ذي الصواب
وترك الأهواء وترك البدع *** كذاك تبجيل الشيوخ الخشع
رؤية أعذار لكل خلق *** إدامة الورد لوجه الحق
وعد منها ترك جملة الرخص *** وترك تأويل فذا زروق نص[8]
- – ذكر معالم المنهج الصوفي الصارم في مباحثه ومقارباته، والذي يركز على تفعيل الجانب الإيماني والشعائري في الإنسان ووصله بمكارم الأخلاق، وتنمية قيم المحبة والعفو والتسامح والتواضع عنده، فهو منفتح على الرؤى والاتجاهات المناوئة، يلتمس الأعذار للمخالفين ويدعو الله لهم آناء الليل وأطراف النهار، ولا يرى لنفسه فضلا على أحد رغم تمسكه بطرف من الحقيقة، لكنها تبقى عنده نسبية غير مطلقة، وهو اتجاه يمثل قمة في التسامح والإنصاف في مسائل الخلاف، ما أحوجنا إليه في عصر يعج بخطابات التكفير والتبديع والتفسيق، ومصادرة حق الآخر في التحرير والتقرير.!
ويرى الشيخ (أحمد بمبا) أن التصوف بهذا المنظور القويم أس من أسس الدين الإسلامي، لتمثيله منظومة الإحسان المكملة للإيمان والعبادات، وهو بهذا المفهوم من فروض الأعيان التي يكلف بها المسلم ويحاسب على أي تقصير يقع في أدائها على الوجه المطلوب، ومستنده في هذا التصور هو الإمام الحجة أبو حامد الغزالي:
أما التصوف ففرض عين *** لدى الغزالي بغير مين
أركانه نعرف منها سبعة *** صمتا وجوعا واجتناب البدعة
وتوبة وسهرا وعزلة *** ثم استقامة فنعمت خصلة[9]
وفي معرض هذا التأصيل؛ يشير إلى أهمية التحقيق العلمي عند من يسلك طريق التصوف حتى لا يضل السبيل، فيسيء إلى نفسه وهو يحسب أنه يحسن صنعا، كما يؤكد عبثية أية محاولة للفصل بينهما، بدعوى قصور الفقه ومحدوديته وتركيزه على ظواهر الأعمال دون البواطن التي تناط بها صوابية العمل وخطؤه، وقد تأثر كثيرا بأبي حامد الغزالي الذي خصص جزءا كبيرا من كتاب الإحياء لدراسة فلسفة العبادة وأسرارها، وهكذا يرى شيخنا أن تلك المحاولة قد تفضي إلى الفسق والنفاق والزندقة والتخلي عن العبادة لحجج واهية وذرائع خاوية، فيقول:
ومن تفقه بلا تصوف *** فذو تفسق صريح فاعرف
ومن يكن بعكس ذا فإنه *** إلى تزندق أمالوا شأنه[10]
أما الذي جمع بينهما في مزاوجة حقيقية تتأسس على المعرفة والعلم، والتأسي بسنة المصطفى عليه الصلاة السلام؛ فهو الإمام في الدين المؤهل المقتدى به في هذا الفن، والخلاصة أن “التصوف عند الشيخ أحمد بمبا تزكية للنفس وتطهير للقلب وتصفية للروح عن طريق الخاصية المبنية على العلم الصحيح والأدب المرضي، وبه يتحقق العبد في مقام الإحسان ويحظى بالقرب من المولى عزوجل قربا يجعله من أوليائه الصالحين الذين يحبهم ويكرمهم ويتولاهم.
وعلى هذا المنظور الصوفي السني عاش الشيخ وبنى دعوته الإصلاحية في شمولية جامعة لأبعاد الدين الإسلامي الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان كما تبلور ذلك في كتاباته ومنهجه التربوي [11].
المبحث الثاني تصنيف مصادر التّصوف وتهذيبها
من أول ما عني به الشيخ أحمد بمبا منذ سني الدراسة الأولى هو قراءة عدد من مصادر التصوف قراءة تحقيق وتدقيق، وفي هذا الصدد يحكي صاحب المنن مدى ما كان يضطلع به من همة عالية في جمع الكتب وهضمها دراسة وحفظا فيقول:
“وسمعت من أخي الشيخ محمد المصطفى ومن عمي الشيخ مصعب قالا: إنه أخبرهما بأنه كان يحفظ النصوص الكثيرة من مختلف الفنون، من توحيد وتصوف وأدعية وفقه، كالحكم لابن عطاء الله و( دلائل الخيرات) و( نفح الطيب ) و( الرسالة )، وتواليف السنوسي، وكذلك نص ( المختصر ) كثيرا ما يتحدث فيه ويقرأ جملا كثيرة نسقا في مواضيع مختلفة عن ظهر قلب لا يتأتى إلا لمن حفظ الشيء، تشهد لذلك تواليفه الممتعة[12].
ويتجلى اهتمامه الشديد بتأصيل مباحث التصوف في العودة المباشرة إلى الكتاب والسنة قبل التقرير كما هو مسطر في عدد من فتاواه ومراسلاته ورسائله الموجهة إلى الأعيان وعامة الناس، علاوة على الدقة في اختيار المراجع المعتمدة في التصوف السني، بدل الجمع بين كل غث وسمين، أو إيراد الشطحات والآراء الغريبة التي تنسب إلى عدد من أعيان التصوف وأدعيائه، وتجدر هنا الإشارة إلى أهم المصادر الصوفية التي اعتمد عليها الشيخ في التأليف والفتيا، والمنهجية التي سار عليها لدى الاستدلال والاستشهاد، وهي كالآتي:
- – رسائل ومأثورات الإمام الجنيد، الذي يعتبر المرجع الروحي للتصوف السني في معظم أقطار العالم الإسلامي؛ حيث يصنف إلى جانب أئمة العقيدة والفقه الذين قدر لاجتهاداتهم واختياراتهم البقاء والاستمرار، وانتسب إليهم الناس في أصول الدين وفروعه، كما يقول الناظم:
في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد الـسالك[13].
فالجنيد محل إجماع عند المنصفين من علماء الحديث وكل محسوب على الجبهة المعادية للتصوف، فقد زكاه ابن تيمية، وابن القيم والذهبي وغيرهم من أهل الحديث وشهدوا له بالعلم والعدالة والزهد وتحري الحق، والذب عن السنة قولا وعملا.
- – مؤلفات الغزالي الملقب بحجة الإسلام المتوفى سنة 505 هـ، والمعدود من مجددي مجدد أو أحد مجددي القرن الخامس الهجري، والذي يعد في اختياراته الصوفية وسطا بين الاتجاه السني والفلسفي، رغم تعمقه في الأخير وهضمه مباحثه ومسائله، ورفضه الآراء الباطنية والغنوصية التي تسربت إلى فكر بعض الصوفية بحكم التأثر بالفلسفة أو بالديانات الشرقية القديمة؛ ومن أشهر تلك الكتب كتاب الإحياء الذي يعد أحد أبرز مراجع منظومة مسالك الجنان في التصوف، حيث يقول:
لكن إذا ذكرت قال بالضمير *** فراجع إلى الغزالي الشهير
وغيره من هؤلاء الغر *** أصرح الاسم له بالذكر[14]
ومثله كتاب بداية الهداية الصحيح النسبة إلى الإمام، وهو أصل منظومته المعروفة بمنور الصدور في التربية والتزكية.
- – الحكم لابن عطاء الله السكندري المتوفى709 هـ، والذي يعد مرجعا رئيسا في هذا الفن لعنايته بوضع أصول التصوف ومباحثه العامة.
كشيخنـا المجدد الغزالي *** وابن عطاء الله ذي المعالي [15]
- – مؤلفات الشيخ/ سيدي المختار الكنتي المتوفى 1226هـ المرجع الأعلى للطريقة القادرية في بلاد السودان الغربي ومؤلفات ابنه الشيخ محمد الخليفة المتوفي 1241ه، وخصوصا كتابا: جنة المريد دون المريد، والكوكب الوقاد، وكلاهما مرجع رئيس في التربية وفي أصول الطريقة، حيث ذكر:
وشيخنا الكنتي ذي الأنوار *** غوث الورى قطب الرحى المختار
وشيخنا الخليفة المؤيد *** بالحق من رب الورى محمد[16]
- – كتاب خاتمة التصوف للعالم الصوفي الموريتاني اليدالي المتوفى 1166 هـ، وهو الأصل الرئيس لمنظومة مسالك الجنان، وقد ذكر الشيخ في بداية الكتاب أسباب اختياره هذا المتن المختصر المهم، والذي تضمن خلاصة ما في كتب التصوف السابقة، حيث طبق فيه صاحبه غرضا مهما من أغراض البحث العلمي، وهو جمع المتفرق وتقديمه سهلا ميسرا للقارئين اقتصارا للجهد والوقت، كما يقول:
فاخترت ذا استعانة بالوالي *** نظم الذي نثره اليدالي
لجمعه جميع ما للسلف *** بكونه خاتمة التصوف [17]
وتنضاف إليها مصادر أخرى ترد في بعض كتبه وفتاواه، ولو لم يخصص لها فيما نعلم منظومات أو تقريرات خاصة، كالرسالة للقشيري، ومؤلفات عبد الوهاب الشعراني، وقواعد سيدي أحمد زروق، ورسائل الجيلاني، والرفاعي، وغيرهما من أئمة الطرق ومشايخها؛ ولهذا لم نخصص لها مباحث خاصة.
هذا، وقد اتبع الشّيخ أحمد بمبا في تعامله مع هذه المصادر والمراجع منهجية خاصة، يمكن ذكر معالمها على النحو الآتي:
1 – تمثيل أهم أغراض البحث العلمي الجاد الملتزم، مثل:
-جمع المتفرق في ثنايا كتب الرقاق وحصرها على تصنيف واحد على غرار ديوان سلك الجواهر.
– اختصار المطولات التي زهد فيها جل طلاب العلم لصعوبة مباحثها ووعرة مسالكها، فأهملوا بذلك أمهات الكتب في كل فن، واستصعبوا مسائلها ومظانها، حيث يقول في هذا الصدد تذييلا على أهم المراجع المعتمدة في تأليف مسالك الجنان:
لكنما كتبهم للطول زهد فيها جل هذا الجيل. [18]
-شرح المستغلق في مسائل التصوف وإعادة نظمه بطريقة مبدعة فيها تيسير وتقريب للمفاهيم، وهو غرض في البحث العلمي نبيل وعريق وأصيل في تراثنا الإسلامي الذي يزخر بالشروح والحواشي.
-إضافة إلى أغراض أخرى تثبت شخصية الشيخ وأصالة فكره، كاكتشاف الجديد، وإصلاح أخطاء وقع فيها بعض الأدعياء بسبب قصور في فهم اللغة وسياق الكلام، أو للخضوع للهوى ومجانبة الصواب، حيث يرد على البعض بقوله:
وفسروا لـفظ اليقين باليقين في آخر الحجر جهلا بالحين[19]
ويرى المحققون لكتاب مسالك الجنان أنه لم يعول كليا في منظومته على مختصرات من قبله، بل أضاف الكثير من عندياته، وبرزت شخصيته العلمية ومنهجيته التجديدية في جل مباحثه، فيقولون: “ولم يكتف صاحب المسالك بنظم الخاتمة فحسب، وإنما جعله في قالب تصوره الصوفي الشخصي العام، وضمنه المنهج التربوي الخاص الذي تبناه في إصلاحه الاجتماعي وتجديده للدين. فجاء الكتاب خلاصة للفكر الصوفي الخديمي الخاص “[20].
إن الالتزام بهذه الأغراض؛ يؤكد أصالة فكره الصوفي وذاتيته، بخلاف ما يذهب إليه بعض الباحثين إلى أن الفكر الصوفي السنغالي ليس إلا ترديدا لما نثر في مراجع التصوف الكبرى، وبالتالي لا يتعدى دور الشرح والاختصار والترتيب، متناسين أن المذكورة جميعا هي من أغراض البحث الرئيسة، والتي يتفاوت الباحثون في مدى التزامهم بها كلها، أو التزامهم ببعضها حسب الحاجة كما هو المعروف في ضوابط البحث العلمي وأدواته.
- – انتقاء وتصنيف مصادر التصوف واعتماد أصحها وأضبطها، وأقربها إلى السنة، وبالتالي فلا توجد في هذه القائمة مؤلفات بعض المحسوبين على التصوف الفلسفي، والتي أثير عليها الكثير من الشكوك، وتعرض لها عدد من علماء الحديث بالنقد والتصحيح والتصويب، مثل: كتب محي الدين بن عربي الذي تعسف بعض السلف في نقده وتكفيره بسبب الشطحات والأفكار المغالية المبثوثة في فصوله وفصوصه، رغم أن التكفير محاججة عقدية معقدة وصعبة لا تترك لآحاد الناس يتصرفون فيها كما يشاؤون، ويتخذونها قميص عثمان لتبرئة المناصرين والتبرؤ من الخصوم السياسيين والأيديولوجيين، ولذا تشدد عموم أهل السنة فيه والتمسوا الأعذار لابن عربي ومن سار على نهجه بحكم أن القول بكفرية رأي وإلحاده لا يعني البتة كفر قائله الذي قد ينطلق من منطلق الجهل أو الخطأ أو التأويل الفاسد، فيعذر له في ذلك كله تحصينا للصف وصونا للدماء والأعراض. وما يقال عن ابن عربي ينطبق على الحلاج والسهروردي، والعفيف التلمساني وغيرهم من المكثرين في الشطحات والتأويلات الغارقة [21].
وبالرغم من تضارب مواقف علماء الأمة المحسوبين على أهل التصوف من هؤلاء الأعلام ما بين ملتمس للعذر، ومكفر متبرئ منهم؛ فإن الشيخ أحمد بمبا تبنى في مواقفه الصوفية ومؤلفاته المتعددة منهج التجاهل، وأعرض الذكر صفحا عنهم، فلم يعتمد عليهم في كتبه لتقرير فكر أو تحريره، كما لم يتخذ منهم أي موقف ينم عن موافقة أو محاكمة.
وقد وجد في بعض فتاوى الشيخ إشارة إلى مسائل في التصوف والتربية وردت في عوارف المعارف للسهروردي، لكن ذلك لا يعني البتة التعويل على المؤلفات التي تثير جدلا وتجاذبا عند هؤلاء والله أعلم.
- – الأحاديث ومما يلاحظ في هذه المصادر وغيرها من كتب التصوف تساهلها في الاستشهاد بالحديث، حيث يعج بعضها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تتبع المحققون من أئمة الحديث طرقها فحكموا عليها بمجانبة الصحة، ف” قد نعى أبو بكر بن العربي المالكي على الحارث بن أسد المحاسبي بعد أن أشاد به أخذه بالأحاديث الضعيفة وبناءه الأصول عليها، كما أوصى تلاميذه أن لا يشتغلوا من الأحاديث ما لا يصح سنده” [22]، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى تبنيهم أحد الاختيارات المشهورة عند العلماء في التعامل مع الحديث الضعيف؛ إذ أن لهم في قبول الحديث الضعيف في الأحكام وفضائل الأعمال مذهبين:
-مذهب العمل به مطلقا في الحلال والحرام، والفرض والواجب، والفضائل، والترغيب والترهيب وغيرها بشرط ألا يكون شديد الضعف وأن لا يوجد في هذا الباب غيره بحجة احتمال إصابته الحق، وعدم وجود ما يعارضه، ولكونه أقوى من رأي الرجال، وهذا الرأي منسوب إلى أبي حنيفة وابن حزم والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم على تفاوت فيما بينهم في تقدير وتحديد درجة التعامل.
– مذهب عدم العمل به مطلقا لا في الأحكام ولا في غيرها من الفضائل كالترغيب والترهيب؛ بحجة أنه يفيد الظن المرجوح، وهو مذموم في أكثر من آية قرآنية؛ وممن قال بهذا يحيى بن معين، والبخاري، ومسلم الذي أكد أن مذهبه هو عدم الاحتجاج به مطلقا[23]
المبحث الثالث دحض الشطحات والشبهات
مما يؤخذ على الفكر الصوفي قديمه وحديثه؛ كثرة ما يشاع لدى العامة من تصرفات وتصريحات غريبة تتناقض في عمومها مع أصول الشرع وقواعد الدين، وقد تخرج صاحبها عن الملة وتعرضه لمقت ولعنة المؤمنين وبالتخصيص أهل الحديث منهم، وتعود ظاهرة الشطح حسب رأي الباحثين إلى التيار الفلسفي السائد في الفكر الصوفي منذ القرن الثالث الهجري، يقول عبد الرحمن بدوي: “وإنما نجد الشطح الحقيقي لأول مرة عند أبي يزيد البسطامي في القرن الثالث للهجرة، فعنده يتخذ الصورة الأصلية لهذه الظاهرة أعني التحدث بصيغة المتكلم. والأقوال التي تروى عنه في هذا الباب مختلفة لاختلاف الأوقات الجارية عليه فيها. ولاختلاف المواطن المتداولة بما خص منها. فكل يحكي عنه ما ضبط من قوله، ويؤدي ما سمع من تفصيل موطنه[24] “.
ويعرف بدوي الشطح بأنه: “تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية فتدرك أن الله هي وهي وهو، ويقوم على عتبة الاتحاد[25]“.
وبالتالي، يحدد عناصر أساس يعتبرها ضرورية لتصنيف الحالة ووصفها بالشطح، وهي:
- – شدة الوجد، وترمز إلى تعلق الصوفي الشديد بالخالق تعلقا قد يعرض إنسانيته للمحك، ويصنفه على قائمة المجاذيب، والخارجين من الدائرة الإنسانية العادية.
- – أن تكون التجربة اتحادا، والاتحاد بهذا المفهوم الفلسفي، يعود إلى النظرة القديمة إلى قضية الوجود، والتي تتأسس على مقاربة الوصل بدل الفصل، فالوجود واحد لا يتعدد، وقد يصل الأمر إلى أن يتحد المرء بخالقه، فيعبر على لسانه ويتصرف بشكل آلي تلقائي.
- – أن يكون الصوفي في حال سكر، والسكر هنا يرمز إلى حالة أشبه بفقدان العقل والشعور، والانتماء إلى عالم آخر بعيد عن المعهود لدى الناس، وغالبا ما يقترن هذا الوصف بالنشوة الإلهية.
- –أن يسمع في داخله هاتفا إلاهياً يدعوه إلى الاتحاد به، فيخسر حينذاك دوره الحسي، ويتقمص شخصية الله في أفعاله وتصرفاته، وقد يكون الهاتف استدراجا من الشيطان يصرفه عن صالح الأعمال ويزين له السوء حسنا.
- – يتم كل ما ذكر سابقا في حالة من انعدام الشعور والإحساس عند الصوفي؛ مما قد يكون مدعاة لتبرئة الكثيرين من القوم مما ينسب إليهم من شطحات ورمزيات غريبة، والتماس الأعذار لهم [26].
وعلى هذا الأساس، تُصنّف الكثير من تصريحات الصوفية الغريبة غير المقبولة شرعا ضمن الشطحات التي قد تحمل في ظاهرها أقوالا كفرية أو إلحادية، كالتسوية بين الأديان والمعتقدات، أو السخرية بالشعائر والعبادات؛ لكن ذلك لا يعني كفر أصحابها أو خروجهم عن الملة، لوجود موانع قد ترفع عنهم الملام، وتلتمس لهم الأعذار كما هو موضح في ضوابط التكفير عند أهل السنة، من جهل وخطأ في الفهم والتصور والاستدلال، يقول الألوري: “أما شطحات الصوفية فهي قشور ليست باللباب وأعراض ليست بالجواهر فقد تكلم فيها المحققون ووجدوا لها تأويلات وعدوا لها تأويلات وعدوا ما لا يقبل التأويل في المهملات، ونحن اكتفينا بما اكتفوا ووسعنا ما وسعهم، لأنهم أسلافنا الذين هم أهدى منا سبيلا وأقوم قيلا وأقوى إيمانا وأكمل إسلاما[27].
هذا، ويلاحظ في كتابات الشيخ أحمد بمبا قلة الأخذ عن أعلام التصوف المنتسبين إلى هذه المدرسة احتياطا، والتزاما بالشريعة المطهرة وذبا عنها، فلم نقرأ في كتاباته ما يشير إلى تبني هذه الشطحات أو الترويج لها؛ بل وقف موقفا مناوئا منها مؤصلا منهجا سديدا في التعامل مع التراث الصوفي يتأسس على التنخيل والانتقاء، ففي فتوى له عن الفناء بالمفهوم الصوفي أجاب قائلا: “أما سؤالك عن الفناء الظاهر والفناء الباطن. فالفناء الظاهر أن لا تخرج من دائرة الشريعة المطهرة، والفناء الباطن سكونك تحت بساط الحقيقة المنورة. وأما سؤالك عن الفرق بين الشهود والمشاهدة أن يقربك الله تبارك وتعالى منه قربا وتقرب منه قربا لا يذوقه غير أهله، وأما سؤالك عن الفرق بين الوصول والوصال. فالوصول رؤيتك الله تبارك وتعالى في كل شيء ما، والوصال عدم رؤيتك غيره تبارك وتعالى ببصيرتك وإن رأيته ببصرك[28]“.
هذه الفتوى على وجازتها، ترد بشكل واضح على عدد من التساؤلات والإشكالات التي تثار لدى بعض أدعياء التصوف والمتطفلين عليه، والتي يتخذونها حصان طروادة لتبرير ما ابتلوا به من انحراف عن جادة السبيل، وخضوع لهوى النفس، وارتزاق باسم الدين من منطلق الفناء في الله أو الوصول إليه، وهي ظاهرة خطرة في الفكر والتصرف قد تهدم عرى الدين، وتقدم تفسيرا للإسلام غريبا لا يفترق في عمومه عن المعتقدات الوثنية والباطنية المنحلة، وقد شخص لنا الشيخ أحمد بمبا معالم هذا الاتجاه الخطر في الفكر الصوفي في عدد من الأبيات.
ويدعي البعض الوصول تاركا *** عبادة حتى يصير هالكا
وغرهم في ذاك سوء الفهم *** ودنس الحجا بغير الم
وفسروا لفظ اليقين باليقين *** في آخر الحجر بلا موت يحين[29]
أي، ينطلق هؤلاء المحسوبون على التصوف – وما أكثرهم – في بلادنا اليوم من تأويلات خاطئة لمفاهيم معينة، كالوصول والفناء واليقين؛ لشرعنة ما لم يشرعه الله في دينه، يتعبهم في ذلك المستغفلة من الناس جهلا وغفلة، أو اتباعا للهوى ووقوعا في حبائل الشيطان؛ فيتخلون عن العبادات الكبرى التي تمثل الحد الفاصل بين المؤمن والكافر؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج، مع الترويج لمظاهر الانحراف والإباحية المطلقة في خطاباتهم وممارساتهم. ومما يؤسف له أن هذا الخطاب الغارق في التأويل الفاسد والعزوف عن جادة السبيل؛ يشهد حضورا قويا في مختلف الطرق الصوفية” القادرية والتجانية، والمريدية “ويوظفه أعداء الدين من الماسونيين والصليبين لترويج البدع والميوعة والخلاعة والمجون تحت مرأى ومسمع من الجميع لذرائع تبدو في عمومها واهية كما يقول أحدهم: “وعلم أن الانحراف عن الإسلام بدعوى التصوف غير مقبول، وقد رفضه أشياخ هذه الطائفة الكريمة، فقد حذروا مرارا وتكرارا من المنحرفين القائلين بوحدة الوجود والقائلين بالحلول والمغالين في المشائخ إلى حد مخالفة الشرع الحنيف.
وقد ابتليت طوائف من الناس بعقائد فاسدة مضلة ليست من الإسلام في شيء، ودخلت باسم الدين ليهون على أصحابها المارقين التلبيس على الأمة في عقائدها، ومن أخطر هذه الفئات القبيحة طائفة استفحل شرها تدعي أنها صوفية وتسمى نفسها بطائفة التصوف الإسلامي وما أبعدها عن التصوف [30].
ومن أغرب ما تتذرع به هذه الطوائف المنحرفة أن خدمتها لشيوخها وأعلامها تحل محل العبادات البدنية والروحية التكليفية؛ لأنها أفضل بكثير، وهو اتجاه يصعب تقبله وتصور وجوده في الدوائر الصوفية، وقد تصدى له الشيخ الخديم بقوة في كتاباته ورسائله وفتاواه، حيث يحرص على الدفاع عن الشريعة المطهرة والعقائد السنية الصافية، وينأى بأتباعه عن الابتداع في الدين قولا وعملا، مفندا مزاعم هؤلاء المحسوبين على التصوف ممن يحملون هذا الاتجاه فيقول:
وبعض مـن تصوفوا وزعموا *** أن مـا هم فيه أعظم[31].
يؤكد الشيخ الخديم هنا أن الأخطاء العقدية والسلوكية التي يقع فيها جل متصوفة الرسوم ناجمة عن سببين هما:
- – سيطرة مزاعم وأوهام تصور لهؤلاء صحة ما ذهبوا إليه من تحريف وانحراف، وهو سلوك بشري يسود في أوساط عامة الناس وبعض قادة الرأي بفعل مؤثرات ذاتية “نفسية سلوكية” وموضوعية ناتجة عن تعاملهم الخاطئ مع محيطهم القريب والبعيد؛ ولهذا انبنى الخطاب القرآني على مواجهة الظن بكل صوره وأشكاله باعتباره منهجا في البحث يتسم بالسقم والضعف، ولا ينبغي بناء الأصول العامة عليه لوهنه ورداءة إفرازاته.
- – التأويل الخاطئ أو المتعسف للنصوص، وهي أخطاء فكرية ومنهجية ناجمة هي الأخرى عن ضعف في فهم اللغة والأسلوب، ينتهي إلى لي أعناق النصوص وتحميلها ما لا تحتمل، وقد أشار الشيخ الخديم إلى فساد هذا المنحى في تفسيرهم الخاطئ لليقين في آخر سورة الحجر تفسيرا معجميا صرفا يحصره في دائرة لغوية بحتة في موازاة الظن. ويعتبر التوسع في التأويل والإغراق في رموزه أحد أسباب الصراع التاريخي الدائر بين عدد كبير من الفقهاء والمتصوفة، وهو الصراع الذي أخذ صورا مختلفة تتفاوت بين الحدة والخفة في مختلف الأزمنة والأمكنة، وقد انتهى في بعض المناطق التي شهدت تحالفا قويا بين السلطة المعرفية المتمثلة بالفقهاء والسلطة السياسية إلى محاكمات بعض المتصوفة محاكمات قاسية بالإعدام والنفي، وقد اعتبر الشيخ الخديم الجهل باللغة أحد أسباب الوقوع في الكفر والانحراف فيما نقله عن ابن بونة في عقائد السنوسي:
ورب كـفر ناشئ مسبب عـن جهل قوم بلسان العرب[32].
ولمواجهة هذه المزالق الخطرة في الاتجاه الصوفي؛ تبنى الشيخ أحمد بمبا منهجا صارما في غربلة المشيخة والمرجعية الصوفية؛ باعتبارها المنطلق الرئيس لجل هذه الأفكار الشاطحة والغريبة، وقام بتصنيف هؤلاء إلى مشائخ محققين كمل، وآخرين من الأدعياء يمثلون وصمة عار على جبين المتصوفة؛ وحدد أوصاف هؤلاء الدخلاء على النحو الآتي:
قلت فمن يرد صالح العمل *** فليركنن للأولياء الكمل
إذ بان جهرا أنما شيوخ *** هذا الزمان جلهم فخوخ
وبعضهم يركن للتصدر *** إلى رياسة بال تستر
ولم يميز بين فرض وسنن *** ويجذب الورى لموجب الفتن
ويدعي الكمال والولاية *** يدهى الورى بكثرة الرواية
وبعضهم تراه ذا تعمم *** متوج الرأس مع التلثم
تشبها بالرؤساء الصالحين *** من همهم رضى الجليل كل حين
ويذكر الله كثيرا بلسان *** وقلب أدنس من كل جنان
ويظهر الزهد ولم يقصد به *** سوى اقتناص المال فلتنتبه[33]
هذه الأبيات تشخص لنا واقعا غاية في الفساد والانحطاط الخلقي، عاشه التصوف في فترة تاريخية معينة اتسمت بالركود ومحاولات تجفيف المنابع الأصيلة للفكر الإسلامي الرصين، حيث حلت الشعوذة والسحر والدجل وارتقى الجهلة وأنصاف المتعلمين إلى سدة الرئاسة الدينية، وهي ظاهرة غريبة قد تتكرر في مختلف المجتمعات التي تقدس العاطفة وتزدري الفكر والفهم السليم للنصوص، كما تضع هذه الأبيات معيارا علميا وعمليا دقيقا لغربلة وتنقية الدخيل والزائف في التراث الصوفي بتحكيمه على ضوابط الشرع وقواعد الدين. ورغم ما تحلى به الشيخ من جرأة علمية فائقة وصارمة في تشخيص معالم واحدة من أحلك فترات التاريخ وأشدها قتامة في هذه البلاد؛ فإن ظواهر مماثلة لذلك الفساد تتعشعش الآن وبصورة أكثر وقاحة بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات – في بنى الطرق الصوفية المحلية على مرأى ومسمع من الجميع، حيث يتم الاستهزاء بالله وبرسله وكتبه السماوية، علاوة على استباحة كل محرم منبوذ شرعا وعقلا وذوقا، والله المستعان.
الهوامش
[1] – المقدمة، دار الفكر، بيروت، ط1431 هـ 2001 م، ص611.
[2] – ترجمة الجنيد: محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي المتوفى عام 297هـ، شيخ الصوفية في عصره، سمع من السري السقطي وصحب الحارث المحاسبي، وأباحمزة البغدادي، ينظر ترجمته في الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 13، ص67 – 69.
[3] – محمد خير فاطمة، التصوف طريق التزكية والإحسان، دار العصماء، دمشق، ط1434 هـ /2013 م، ص17 نقلا عن التعرف لمذهب أهل التصوف
[4] – ترجمة أحمد زروق: أحمد بن أحمد بن عيسى الفاسي المشهور بزروق المتوفى سنة 899 هـ، العالم الفقيه المحدث الصوفي، نزيل مصراتة ودفينها ينظر ترجمته في: الحسن المغربي: طبقات الشاذلية الكبرى، 144.
[5] – محمد خيري فاطمة، التصوف طريق التربية، ص 16 نقلا عن قواعد التصوف
[6] 1 -مسالك الجنان، دراسة وتحقيق: دائرة روض الرياحين، طوبى، السنغال 1436 هـ /2014 م ص87.
[7] -المصدر نفسه، 255.
[8] – المجموعة المشتملة على أجوبة ووصايا الشيخ الخديم وفتاويه، جمع: محمد جاج، ص254.
[9] – مسالك الجنان، ص83.
[10] – – نفس المصدر، ص42 – 43.
[11] – روض الرياحين، دراسات حول المريدية، منشورات روض الرياحين، طوبى 1431ه / 2010 م، ص: 28.
[12] – منن الباقي القديم، ص35 – 36.
[13] – ابن عاشر، المرشد المعين، دار الفكر للطباعة، ص2.
[14] مسالك الجنان، ص 39.
[15] -. مسالك الجنان، ص 37.
[16] -. نفسه، ص 37.
[17] نفسه، ص 38.
[18] -. مسالك الجنان، ص 38.
[19] مسالك الجنان، ص 147.
[20] -. مسالك الجنان، ص 24.
[21] -. وقد استشهد بعوارف المعارف في بعض وصاياه.
[22] -عبد الكريم الخضير، الحديث الضعيف وحكم الاحتجاج به، دار المسلم، الرياض، ط1417 ه/1997 م، ص265.
[23] -. ينظر نفس المرجع، ص246 – 265.
[24] – شطحات الصوفية، الجزء الأول، وكالة المطبوعات، الكويت، ص28.
[25] – نفس المرجع 10.
[26] -. ينظر شطحات الصوفية، الجزء الأول، ص10 – 11.
[27] – الإسلام في نيجيريا اليوم وغدا، ص89 – 90.
[28] – المجموعة المشتملة على أجوبة ووصايا الشيخ الخديم، ص515 – 516.
[29] — مسالك الجنان، ص147.
[30] -. التشرف بذكر أهل التصوف، قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية، جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية، دار المشاريع، بيروت، ط1423 هـ 2002، ص 134 – 135.
[31] – – مسالك الجنان، ص: 78.
[32] مواهب القدوس
[33] مسالك الجنان، ص145 – 146.