رسالة سامية من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر للمنتسبين للتصوف
رسالة سامية من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر للمنتسبين للتصوف
18 رمضان 1429 هـ الموافق لـ 19 شتنبر 2008 م
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه. أصحاب الفضيلة، حضرات السيدات والسادة، يطيب لنا أن نتوجه بهذا الخطاب، إلى السيدات والسادة الأفاضل، المشاركين في هذا الملتقى الديني الكبير، الذي أضفينا عليه، رعايتنا السامية، تجسيداً لما نوليه، كأمير للمؤمنين وحام لحمى الملة والدين، للتوجه الصوفي السني، الذي تنتسبون إليه، من موصول عنايتنا؛ باعتباره من مكونات الهوية الروحية والأخلاقية، للشعب المغربي، في نطاق السنّة المطهّرة، والشريعة الإسلامية السمحة، التي أكرمنا الله بها.
ونود الإشادة بالتئام هذا الملتقى المبارك، والتنويه بالجهود الخيرة، التي بذلت من أجل إنجاحه؛ وتحقيق الغايات النبيلة من إقامته.
وحينما أضفينا سابغ رعايتنا السامية على اللقاء الأول، من لقاءات سيدي شيكر العالمية، للمنتسبين إلى التصوف، فقد أبينا إلا أن نؤكد حرص جلالتنا الشريفة، على صيانة القيم السامية، والمثل العليا، التي التزم بها سلفنا الصالح، في هذا البلد الأمين، والنهوض بما طوقنا الله به، من أمانة إمارة المؤمنين، القائمة على رعاية شؤون الدين.
وحتى نضفي على رعايتنا مضمونا ملموسا، وبعدا مستداما للقاء الوطني الأول من هذه اللقاءات المباركة. فقد أذنا لوزيرنا في الأوقاف والشؤون الإسلامية، بأن يتم تنظيم هذه اللقاءات، في صيغتها العالمية، كل عامين، في فصل الربيع. كما أمرناه بإقامة لقاء وطني منتظم، حتى يتاح لفعاليات مختلف الطرق والزوايا، المكونة للنسيج الصوفي بمملكتنا الشريفة، المشاركة، على الوجه المرضي، كما وكيفا، في كل ما من شأنه دعم القيم الروحية، والفضائل الربانية، والتأطير الأخلاقي للمجتمع. وهو ما اضطلعت بها طرق التصوف وزواياه في بلدنا، على امتداد العصور.
ولئن كانت الصيغة الدولية لهذه اللقاءات، ستحفظ لنا وشائج التواصل، والتعارف والتشاور مع المهتمين بهذا المشرب، الناهلين من عذب زلاله، ولاسيما ذوي الأسانيد المتأصلة في المغرب، باعتباره منبعا زاخرا للعطاء المتميز، والريادة النموذجية في هذا المجال؛ فإن الصيغة الوطنية التي تدشنونها اليوم، تبررها ضرورة العناية بأحوال هذا التوجه الروحي من الداخل، حتى تتبيّن الوسائل والطرائق، الكفيلة باستثمار طاقاته في التنمية البشرية الخُلُقية، على أساس تفعيل دور التصوف، في التربية والتزكية، وتهذيب النفوس، والدفع بها إلى طلب السمو والاكتمال.
إنكم باجتماعكم هذا تحيون سُنّة تاريخية طيبة، لأن لقاء سيدي شيكر مثّل أحد المواسم الدينية الأولى التي ابتكرها المغاربة، في بدايات تاريخهم الإسلامي، بقصد الإرشاد والتنوير في شؤون الدين. ويعد الرباط الذي أقيم حول مسجده، مدرسة للجهاد الأكبر، الذي هو إشاعة العلم الشرعي، وبناء الشخصية المسِؤولة الفاضلة، التي تقوم على محاسبة النفس وامتلاك زمامها، وكبح جماحها أمام نزوات الهوى، والانحراف والضلال.
ولا عجب، فإن لقاءات سيدي شيكر الأولى، كانت تجمعات يَحُج إليها العلماء والصالحون، ويحضرها آلاف الرجال والنساء، من كل جهات المغرب، لتلاوة القرآن الكريم، واستحضار السنة النبوية المطهرة، والإصغاء للموعظة الحسنة. وقد كان موعدها هو شهر رمضان المبارك. ولا شك أن كل الزوايا الصوفية، التي قامت في مختلف المدن والقرى، على توالي القرون، إنما استلهمت هذا النموذج، وتطيّبت بنفحاته الزكية العطرة.
أصحاب الفضيلة،حضرات السادة والسيدات، إن رعايتنا لأحوال الزوايا، على غرار سنن أجدادنا الميامين، تقدير عميق من جلالتنا، لإسهام الطرق الصوفية المغربية في الإرشاد الروحي، ونشر العلم والتنمية، والدفاع عن حوزة الوطن ووحدته، وتماسك المجتمع، وتثبيت الهوية الدينية للمغاربة.
والتصوف، وإن كان مداره على التربية وترقية النفس في مدارج السلوك، فإن له تجليات على المجتمع. ومن هذه التجليات ما يظهر في أعمال التضامن والتكافل، وحب الخير للغير، والحلم والتسامح ومخاطبة الوجدان والقلوب، بما ينفعها ويقومها.
ومما يجب التنبيه إليه في هذا المقام، ضرورة التزام جميع الزوايا الصوفية بمنهاج الصفاء، الذي أسست عليه. وتنزيهها عن الأعراض، والسمو بأهلها عن كل ما لا يليق بهم، من ابتغاء العاجل وترك الآجل.
إنكم في لقائكم هذا كطائفة واحدة، مشربكم واحد وقصدكم واحد: خدمة الدين والوطن.أما خدمة الدين، فمنهجكم القويم فيها، يتمثل أساسا في الاعتصام بالكتاب والسنة، وإشاعة العلم، وتهذيب النفس بالإكثار من الذكر.يضاف إلى هذا عمل المعروف، وإغاثة الملهوف، وكل أنواع البر. وأما خدمة الوطن، فتتمثل أساسا في القيام بالواجب نحو الإمامة العظمى، التي تمثلها إمارة المؤمنين، والحرص على خصوصيات المغرب الثقافية، حتى لا تضمحل تحت تأثير كل المشوشات الدخيلة. وبذلك تحفظ كل المقومات التي تتيح الطمأنينة والسكينة والأمن.
إن الحكمة المستمدة من التراث الذي هو وديعة لديكم، كفيلة بأن تجعلكم من كبار المسهمين الفعالين في الاندماج في كل ما تقتضيه سيرورة الإصلاح الشامل الذي نقوده.
ولاسيما بنقل القيم التي قام عليها التصوف إلى الأجيال الجديدة، بالأسلوب الذي يجعلهم يستوعبونها ولا يتنكرون لها. إنه الإحياء المطلوب من المنتسبين إلى التصوف.
إحياء يسترشد بنماذج الصلاح في الماضي، ويعرف كيف يجددها في الحاضر، وينافس بها في المستقبل. ذلك لأن على المغرب، الذي يعتبره العارفون في العالم، منبت قيم الصلاح، المبني على فكرة التصوف بشكل استثنائي، عليه مسؤولية كبرى في هذا المقام، ندعوكم إلى تدبر أبعادها، وتقديرها حق قدرها.
إننا على يقين أن الرصيد الحي، الذي ورثه كل المنتسبين إلى التصوف، يتضمن القدرة على الاستمرارية والتجديد في آن واحد. الاستمرارية في صيانة الثوابت، في العقيدة والمذهب، والولاء لإمارة المؤمنين. والتجديد في المبادرات والسلوكات التي جعلت من أبناء الزوايا وأتباعها، أبناء وقتهم، ونماذج في القدوة وفي المسارعة إلى النفع، على النمط الذي أكسب هذه المؤسسة هيبة وقدسية وتبجيلا، ومصدرا للخير العميم. فهو مورد كَرَعْنا منه بالأمس، فما أحوجنا إلى النهل من معينه، في الحاضر والمستقبل، على ما عُهد في أصحابه من التجرد الذي لا تشوبه شائبة من الأطماع، ولا تكدره نوازع الأهواء.
فعسى أن يكون هذا اللقاء الأول، الذي نرحب بكل ضيوفه الكرام، من الفقهاء والصلحاء والمريدين؛ فاتحة عهد جديد، في حياة المنتسبين إلى التصوف في بلدنا، حتى إذا اجتمعوا بحول الله وقوته، في اللقاء الذي يليه، استعرضوا ما وفقهم الله إليه من ثمرات الاجتهاد، وتجديد العهد، والإقبال على طريق الحق. تحققا بوحدانية الله تعالى في منازل السائرين، ومدارج العابدين.
“الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب”. صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.