مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

الثوابت في مقتطفات من آثار الدكتور عبد الله الطيب

الأستاذة صفية عبد الرحيم الطيب
أستاذة بجامعة أم درمان الإسلامية -كلية أصول الدين بالسودان، وأمينة الفكر والثقافة والدراسات الشرعية بفرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية السودان

الدكتور عبد الله الطيب
الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله

الثوابت في مقتطفات من آثار الدكتور عبد الله الطيب ، الأستاذة صفية عبد الرحيم الطيب – السودان

نشأته

هو الدكتور عبد الله الطيب ولد بقرية التميراب غرب الدامر في 25 رمضان 1339هـ– الموافق 2 يونيو 1921م. والداه الطيب عبد الله الطيب وعائشة جلال الدين وهو ابن محمد بن أحمد بن محمد المجذوب. تعلم بمدارس كسلا والدامر وبربر وكلية غوردون التذكارية بالخرطوم والمدارس العليا ومعهد التربية ببخت الرضا وجامعة لندن بكلية التربية ومعهد الدراسات الشرقية والإفريقية. نال الدكتوراه من جامعة لندن (SOAS) سنة 1950م.

مسيرته العلمية والعملية

ويمتد التاريخ الأكاديمي للأستاذ الدكتور عبد الله إلى أكثر من نصف قرن، حيث عمل محاضرًاً في معهد دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في جامعة لندن، ثم رئيساً لقسم اللغة العربية ومناهج المدارس المتوسطة في معهد بخت الرضا لتدريب المعلمين في السودان، ثم أستاذاً في قسم اللغة العربية في جامعة الخرطوم وعميداً لكلية الآداب فيها لمدة ثلاثة عشر عاما (1961 – 1974م).

وأشرف على إنشاء كلية عبد الله باريو في جامعة أحمد وبيلو في كانو بنيجيريا، وكان أول عميد لها. واختير مديرًاً لجامعة الخرطوم (1974 – 1975م)، ثم مديرًاً لجامعة جوبا (1975 – 1976م)، كما عمل أستاذاً للدراسات العليا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في مدينة فاس بالمغرب.

وكان يرحمه الله عضواً في هيئة تحرير الموسوعة الإفريقية في غانا، وعضواً في مجمع اللغة العربية في القاهرة، ورئيساً لاتحاد الأدباء السودانيين، وأستاذاً زائرًاً لعدد من الجامعات العربية والإفريقية والبريطانية.

وقد نال درجة الدكتوراه الفخرية من عدد من الجامعات، كما تولى رئاسة مجلس جامعة الخرطوم، ومجمع اللغة العربية في السودان.

وقد كان لـ الدكتور عبد الله الطيب الكثير من الأبحاث العلمية والمحاضرات التي ألقاها في مجمع اللغة العربية في الخرطوم، كما أن لديه العديد من المقالات في مجلة المجمع. وهو عضو قديم بمجمع اللغة العربية بالقاهرة وقد كان له نشاط كبير فيه حتى وفاته في19 حزيران (يونيو) 2003م. وفي عام 1420هـ فاز بجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي.

ويحتل الدكتور عبد الله يرحمه الله مكانة مرموقة في الأوساط الثقافية والأكاديمية في الوطن العربي، وتشمل اهتماماته مختلف مجالات الفكر والأدب واللغة العربية، فهو شاعر وكاتب روائي ودارس متعمق للأدب العالمي.

وله إسهامات أدبية متميزة في مجال النقد الأدبي القديم عند العرب، وفي حقول الفكر والأدب عموماً، فهو محيط بالشعر العربي وتاريخه وقضاياه إحاطة قل أن تتوافر لكثير من الدارسين، وقد تميزت مؤلفاته بطابع أصيل يربطها بأمهات الكتب في الأدب العربي ونقده، ومنها كتابه «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها،» المكون من أربعة مجلدات، وهو سفر قيم يحلل فيه مختلف جوانب الشعر العربي وخصائصه منذ العصر الجاهلي.

وقد استغرق في تأليف أجزائه خمسة وثلاثين عاماً، وصدر الجزء الرابع منه سنة 1990م متضمناً إشارات عديدة لدور النقاد العرب في العصور المختلفة وتطور القصيدة العربية وتأثيرها على عدد من الشعراء الغربيين، وقد صدر له أيضاً العديد من المؤلفات والكتب والبحوث الأخرى باللغتين العربية والإنجليزية تناول فيها قضايا الشعر والنثر والنصوص والمدائح النبوية، وله عدة دواوين شعرية ومسرحيات، وقصص للأطفال باللغة العربية، وكان له أيضاً نشاط واسع في الأوساط الإعلامية امتد على مدى خمسين عاماً، ومن ذلك برنامجه الإذاعي حول تفسير القرآن.

أهم كتبه ومؤلفاته

وهي على النحو التالي:

  1. المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، 1955م.
  2. الأحاجي السودانية، الخرطوم من 1947م إلى 1993م.
  3. من نافذة القطار، 1964 – 1993م.
  4. من حقيبة الذكريات، 1989م.
  5. القصيدة المادحة، 1964م.
  6. سقط الزند الجديد «شعر»، الخرطوم 1976م.
  7. أغاني الأصيل «شعر، »1976م.
  8. مع أبي الطيب، 1968م.
  9. كلمات من فاس، 1986م.
  10. أصداء النيل «شعر، »1957 – 1993م.
  11. تفسير جزء «عم، »1970 – 1986م.
  12. تفسير جزء «تبارك، »1988م.
  13. تفسير جزء «قد سمع، »1993م.
  14. شرح أربع قصائد لذي الرمة، 1958 – 1993م.
  15. شرح بائية علقمة، 1970م.
  16. شرح عينية سويد، الخرطوم 1992م.
  17. أربع دمعات على رجال السادات «شعر، »1978م.
  18. بين النير والنور «شعر ونثر»، بيروت 1970م.
  19. التماسة عزاء بين الشعر «شعر ونثر»، بيروت 1970م.
  20. الحماسة الصغرى «جزأين»: الجزء الأول 1960م بمطبعة أكسفورد، الجزء الثاني 1970م بالخرطوم.
  21. تاريخ النثر الحديث في السودان، مصر 1959م.
  22. الطبيعة عند المتنبي، بغداد 1977م.
  23. سمير التلميذ «جزأين»، كتاب مدرسي: الجزء الأول، مصر 1954م؛ الجزء الثاني، 1955م.
  24. ملحق سمير التلميذ «كتاب مدرسي، »1955م
  25. مشرع الحدرة «قصصي»، مكتب النشر الخرطوم 1952م.
  26. نوار القطن «قصصي»، الخرطوم 1964م.
  27. حتام الفتنة باليوت «نقد، »1982م.
  28. زواج السمر «مسرحية شعرية.»
  29. الغرام المكنون «مسرحية شعرية.»
  30. قيام الساعة «مسرحية شعرية.»
  31. مقالات في السودان في وثائق ومدونات باللغة الإنجليزية بعنوان: «عادات السودان المتغيرة.»
  32. أندروكليس والأسد «مترجمة، »1954م.
  33. المعراج، مكتب النشر 1954م.
  34. اللواء الظافر «شعر، »1968م.
  35. ذكرى صديقين «شعر ونثر، »1987م.
  36. Stories from The Sands of Arabia
  37. Horses of Arabia
  38. تاريخ كمبردج للأدب العربي CHAL.
  39. بانات رامة «شعر»، بيروت 1968م.
  40. مسرحية زواج السمر.
  41. مجلة دراسات إفريقية «هجرة الحبشة وما وراءها من نبأ، »18 يناير 1998م.
  42. مقال في الموسوعة البريطانية عن عباس محمود العقاد ومصطفى لطفي المنفلوطي وأحمد شوقي والأدب العربي، 1960 – 1961م.
  43. البراق.

محاضراته الخاصة والعامة

  • محاضرة الأسبوع «الإذاعة السودانية».
  • سير وأخبار «تلفزيون السودان».
  • شذرات من الثقافة «تلفزيون السودان».
  • الدروس الحسنية «المغرب».
  • خواطر عن اللغة العربية وتعليمها.
  • محاضراته العامّة في مجمع اللغة العربية بالخرطوم.
  • محاضراته عن: «الطب عند العرب».
  • محاضراته عن: «الصيدلة عند العرب».
  • محاضراته عن: «علم الإدارة العامة».
  • محاضرة بعنوان «المجامع اللغوية ودورها في حفظ اللغة العربية ونشرها في السودان.».
  • محاضرة عن: «الهجرة النبوية»   محاضرات في السيرة النبوية.
  • محاضراته التي ألقاها في إمارة الشارقة بدولة الإمارات.

وفاته

توفي عبد الله الطيب في التاسع عشر من يونيو عام 2003م إثر إصابته بجلطة دماغية أقعدته عن الحركة منذ العام 2000م[1].

الدكتور عبد الله الطيب مفسرا للقرآن الكريم

نشأ نشأة علمية كعادة أهالي منطقته، فدخل الخلوة في صغره وتعلم القرآن وقرأ الشعر القديم. تميز البروفيسور منذ صباه الباكر بالذكاء وقوة الحافظة التي ساعدته على اختزان الجزء الأكبر من العلم في صدره والتي استمر عليها حتى وفاته رحمه الله.

ولحافظته القوية تجليات عديدة، ولكن أطرفها قدرته على تذكر ما يخوض فيه من حديث، فقد كان يلقي دروسه على طريقة المشايخ القدماء ومنهجهم في تقصي جزئيات المواضيع والعودة منها إلى الموضوع الرئيسي بطريقة (وصل ما انقطع)، من دون أن ينسى موضع الوقوف وما كان يخوض فيه من شؤون اللغة والتفسير.

بدأ رحمه الله تفسير القرآن الكريم بالإذاعة السودانية باللهجة العامية استهدف بها غالبية قطاع المجتمع، وانتهج في ذلك نهجا ميسرا نأى به عن التنطع والشطط والغلو في التأويل. وأكمل هذا العمل الجليل في عام 1969م. ثم طبع ونشر «تفسير جزء عم» عام 1970م، و «تفسير جزء تبارك» عام 1989م، وما يزال تفسير «قد سمع» ينتظر النشر مذ فرغ من إعداده قبل مرضه الأخير.

الصوفية في شعر الدكتور عبد الله الطيب

اشتهر أجداده بنشر العلم والتقوى والصلاح بين مريديهم، ويتصل نسبه بعدد من الأجداد الشعراء تخصصوا في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم رجال ونساء، ويقول: إن والده نفسه كان شاعرا ورث عنه كراسة بخط يده تحوي بعض أشعاره. وللبروفيسور أبيات متفرقة في التصوف وله عدة قصائد في المدح النبوي ومنها (القصيدة المادحة) ولعل أجمل قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم هي قصيدته (برق المدد بعدد وبلا عدد).

ويقول عنها، سميتها «برق المدد بعدد وبلا عدد» وهي قصيدة نبوية، فيها تعبير وتفكير في أحوال الإسلام والمسلمين والمجتمع والحضارة والتاريخ والعصر، ومنبعثة من محبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته الطاهرين، وصحبه الأبرار من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأسأل الله التوفيق والقبول، إنه سميع قريب مجيب.

وقولي «برق المدد» فيه إشارة إلى منظومتين جعلتهما نموذجا وتأثرت بروح أنغامهما. وهاتان المنظومتان هما: «سر المدد والشهود» للشيخ محمد المجذوب بن قمر الدين رضي الله عنه و «البراق» للسيد محمد عثمان الختم الميرغني رضي الله عنه. وكلتاهما من مجموعات مرتبة على الحروف الهجائية، كل مجموعة منها تشتمل على عدد من القطع، كل قطعة منها فيها خمسة أشطار، أربعة منها بقافية واحدة والشطر الخامس ملتزم في كل مجموعة حرفاً من حروف الهجاء بحسب ترتيبها الهجائي يجعله قافية. وأحسب أن هذا النظام الخماسي من تخميسات العشرينات للفازازي والوتريات للوتري صاحب سلام سلام لا يحد انتشاره- والوتري والفازازي كلاهما يلتزم حرفا هجائيا واحدا في أول البيت وفي قافيته.

وأما قولي «بعدد وبلا عدد» فأردت به أن مجموعات منظومتي وهي تسع وعشرون كل مجموعة منها ذات قطع تلتزم في شطرها الخامس حرفا هجائياً واحداً بدءاً بالهمزة وانتهاءً بالياء، لم ألتزم فيها في كل مجموعة بنفس العدد من القطع، فقد تكون فيها سبع قطع، وقد يكون فيها أكثر من ذلك، فالعدد سبع وما زاد عليه فهو خروج منه، ولم أجئ بأقل من سبع قطع في المجموعة الواحدة. وهذا النظم على مجموعات خماسية أو تزيد اسمه التسميط، وهو أيضا قديم، وقد أكثر شعراء التصوف والمديح النبوي من التسميط لحلاوته في النشيد والنغم[2].

عبد الله الطيب الأديب والشاعر

ينتسب البروفيسور عبد الله الطيب إلى أسرة «المجاذيب» العربية التي اشتهرت بالعلم والأدب حتى سميت مدينة الدامر بدامر المجذوب. وقد ورث الشعر عن والده وقد قال في ذلك:

ولقد ذكرت أبي وكان مجوداً  نظم القريض ويبدع الإبداعا

وقال أيضا:

ولقد ورثت أبي وكان مجوداً   نظم القريض وبيته معمور

وقد نظم الشعر منذ مرحلة مبكرة من حياته، وفي ذلك يقول: (وقد حاولت من صروف النظم أصنافا منها المرسل الذي لا قوافي فيه، والدراما والملحمة، وقد جاوزت الأوزان المألوفة إلى أشياء اصطنعتها اصطناعا، ثم بدا لي أن هذا كله عبث لا يفصح بعواصف النفس وزوابعها، وإنما النفس بنت البيئة، وبيئتي العربية الفصيحة تسير على النحو الذي نرى من أوزان الخليل، وتخير المطالع والمقاطع).

وما كتبه من شعر بعد ذلك نجده مسكونا ومأخوذا بشعر الأقدمين، وهو ما جعل شعره صورة من شعرهم من حيث اللغة القديمة والأفكار التقليدية المعروفة في التراث الشعري العربي. وما أروع الشعر القديم إذا تحلى بالأصالة والشخصية والعبقرية. وكان ينادي بالاستمرار في تعليم أشعار الأوائل ومختاراتهم الجياد وروائع فحولهم، من أمثال أبي تمام والمتنبئ. كما نادى بتشجيع الأذواق وبالتمكين من اللغة وفهمها والمحافظة عليها.

ويملك عبد الله الطيب مواهب وعبقرية شاعرية ثرية وفكرًاً رائعاً وخيالاً خصباً وهو عالم لغوي وشاعر وحافظ للقرآن والقراءات والتفسير، كما أنه مؤلف مسرحي وكاتب مذكرات يمكن اعتبارها أول ما وضع السودانيون في علم الاجتماع الوصفي. وإلى جانب أنه لغوي عربي من أرفع طراز، كان البروفيسور شديد التمكن من اللغة الإنجليزية وكان على دراية كبيرة بالفرنسية. ولكنه لا يجد ما يضاهي الشعر العربي وقد قال في ذلك: (وقد قلبت نظري في كثير من الدواوين العربية والإنجليزية واستقر في نفسي بعد الموازنة أن الشعر العربي ليس كمثله مما قرأته في الإنجليزية شيء، حتى ولا شعر شكسبير، إني آخذ على الشعر الإنجليزي في الذي اطلعت عليه منه «وأصناف الشعر الأوروبي غير بعيدة عنه» التطويل وضعف النغم وكثرة التفصيل والتفريع) مما يدل على افتتانه باللغة العربية. وبالرغم من ذلك نجد آثاره فيالكتابة والترجمة إلى الإنجليزية، منها أنطولوجيا جديدة من القصص القصيرة المعاصرة مترجمة للغة الإنجليزية لكُتّاب عرب، حملت عنوان «معراج على أجنحة السرد» ضمن عنوان «أنطولوجيا القصة العربية»، وتم نشرها في الولايات المتحدة عن دار «ستراتيجك بوك ببليشنغ آند رايتس» الأميركية. ويقع الكتاب في 294 صفحة من الحجم المتوسط، ويحتوي على 54 قصة قصيرة ترجمها الدكتور عبد الله الطيب لخمسين كاتباً وكاتبة من السعودية والخليج والسودان والجزائر. وقد علق الدكتور محمد بن عبد الله العيسى، الملحق الثقافي السعودي في الولايات المتحدة، على إصدار الكتاب بالقول إنه يمثل «رحلة ما بين الشرق والغرب على أجنحة القصة العربية وترجماتها». وأضاف: «الصعود على أجنحة الحكاية والتحليق بها إلى عوالم أخرى شيء في غاية الأهمية لتحقيق التواصل والتفاهم المنشود بين الثقافات المختلفة». ورأى العيسى أن مترجم العمل الدكتور عبد الله الطيب شاعر ومؤلف وروائي وكاتب قصة قصيرة (يقدم الأدب العربي للعالم في طبق من ذهب من خلال مجموعة غنية من القصص القصيرة والحكايات المعاصرة التي تجتاح عواطف القراء بغض النظر عن جنسياتهم أو اهتماماتهم، ومن جانب إنساني بحث باعتبار أن الإنسان هو الإنسان، في كل مكان، وبإيقاع فريد وسرد جذاب لكل حكاية من هذه الحكايات، ابتداءً من الواقع المؤثر إلى الخيال المبهج الخصب، وبعبارات لغوية جذابة متآلفة، وقصص مختارة بالغة التأثير كجهد فني قادر على رسم الصور الحية التي لا تعرف لها حدوداً، فنجح بذلك في الوصول من الشرق إلى الغرب)[3]. وهذه تجربة رائدة وملهمة لربط الدول الإفريقية على هذا النسق. وقد قام بتأليف كتاب باللغة الإنجليزية باسم (قصص من الأرض الإفريقية) وهو عبارة عن قصص سودانية ممتعة وقيمة ومستوحاة من الأحاجي السُّودانية، قام بإعدادها وتقديمها إلى المكتبة الإنجليزية، معالجة باللغة الإنجليزية البسيطة. كما كانت له تجربة كبيرة لتعليم اللغة العربية بنيجيريا[4].

وتميز البروفيسور عبد الله بمعرفته الواسعة بلهجات البلدان العربية وقدرته الفذة على ردها إلى أصولها العربية القاموسية ولعله كان يفعل ذلك كوسيلة للربط بين القبائل ومثال ذلك تجربته للربط بين لهجات القبائل السودانية حيث وضع برنامجا لكيفية إدخال اللغة العربية في المدارس بجنوب السودان[5].

فقد كان مولعا بحب اللغة العربية، داعيا إلى المزيد من الإقبال على دراستها والاهتمام بها. فقد تحدث البروفيسور في إحدى محاضراته أن اللغة العربية: محترمة محبوبة في جاهليتها، حيث إنهم كانوا يقيمون لها الأسواق وينصبون لها الحكام ويتبارون فيها عند الحكام بل كانوا يدرسونها درسا حتى إنهم كانوا يعرفون أوزانها، بل لعل منهم من بدأ نحوها. وفي أخبار القراء ما يشهد بأن أبا الأسود الدؤلي كان يسأل عن مسائل في العربية قبل أن يوجه إلى تأليف النحو فالعرب كانوا يكبرون لغتهم ويحترمونها في جاهليتها واستمر هذا الاحترام لما أنعم عليهم الله بنعمة الإسلام وبالقرآن.

ثم إن اللغة العربية قد استوعبت علم الأمم وصارت هي لغة العالم أو لغة العالم المتحضر أو لغة العالم المتمدن، واحترمها العالم. وأول من أقبل على إكبارها واحترامها هم الذين اعتنقوا الإسلام أو نزلوا تحت ظله وتأثروا بها أثرًاً عظيما. يخبرنا أبو حاتم الرازي في كتاب الزينة أن الفرس لم تكن لهم أوزان متقنة ولا أسجاع، وأنهم أخذوا ذلك عن العربية، وعن الفرس أخذ الترك وأخذت أمم أخرى، وأن اللغة الفارسية اقتبست من العربية ثم جعلت تنهض حتى صارت لغة ناضجة مكتملة ولكنها فيما يُخْبر عنها حتى حين بلغت هذا الشأن كانت تستعير وتأخذ من العربية. وذكر ابن الأثير أن الفرس يؤلفون القصص الطوال وأن شاه نامة نزلت عندهم في البلاغة منزلة عظيمة وأن العرب ليس لهم شيء من ذلك وهذا مما يستدرك على ابن الأثير ذلك بأن اللغة الفارسية كانت تعد نفسها لغة الدنيا والثقافة وتعد العربية لغة الدين ولغة القداسة واستمر هذا الأمر بين كثير من المسلمين في أقطار آسيا غير العرب، اللغة العربية كانت في منزلة القدسية ثم في منازل الثقافة اللغات الأخرى وكانت تنظر إلى العربية كما تنظر إلى الفارسية. مثل هذا الأمر بعينه حدث في اللغة العربية نفسها بالنسبة إلى فصيحها وعاميها، اللغة الفصيحة صارت لغة التأليف الديني ولغة التأليف ذي القداسة حتى إنه تقريباً منذ القرن الثامن الهجري إلى الثاني عشر الهجري كان أكثر التأليف في الشعر باللغة الفصيحة في دائرة المديح النبوي، وكان أكثر العلماء هم علماء الفقه والحديث وعلماء أصول الدين وغيره. في نفس الوقت كان في العربية تأليف عامي وشبه عامي فألف ليلة وليلة التي يُلهج بها وتعد من مفاخر العربية أسلوبها في الواقع وسط بين العامية والفصيحة. كما أُلفت أقاصيص وأخبار كثيرة بأسلوب مشابه للعامية أو مقارب لها أو هو منها حتماً من ذلك أساليب سيرة عنترة وأساليب السير المختلفة التي تجري مجرى الأساطير. فالعاميات العربية كانت لغات مُكرمة مُقبل عليها مُألف فيها حتى إن السيرة النبوية والمدائح نظمت باللغات العامية ولكنها كانت في مرتبة دون قداسة الفصحى.

الفصحى كانت اللغة المقدسة الرفيعة؛ لأنها لغة القرآن ولغة الحديث، ومنها يؤخذ الدين هذا بين الأمم الإسلامية عربها وغيرهم. أما أوروبا فقد أقبلت على اللغة العربية إقبال إعجاب وإقبال تلقي ترجم القرآن إلى اللغة اللاتينية في القرن الحادي عشر الميلادي وترجم بعد ذلك عدة مرات إلى لغات أخرى. وقد أقبل الأوربيون إقبال عزم شديد على درس العربية حتى إنه لم يخل قسيس رفيع أو فارس ضخم من معرفة العربية، ونجد الآن في الكتب التي تخبرنا عن تاريخ العربية والعرب أثرهم على العالم، ونجد الآن قليلاً ممن يذكر أن العرب قد أعطوا أوروبا شيئا من علم الجبر شيئاً من الأرقام شيئاً من الكيمياء أشياء في الفلسفة أشياء في الطب ويسكت عن دورهم في الأدب والدور الذي أعطوه أوروبا في لغاتها دور عظيم جدا[6].

كتب الدكتور عبد الله الطيب في الأدب في كتابه الحماسة الصغرى: «والحق أن اللغة العربية لغة حية مازالت فتية. ونحن لا نعلم على وجه التحقيق متى كانت أوليتها. ولعلها في أصلها الأدبي الناضج أقدم من العبرية أو معاصرة لها بدليل سفر أيوب الذي في آدابه واستعاراته مَشَابِهُ كثيرة من الشعر الجاهلي، وبدليل نشيد الأناشيد الذي في معارضه الغزلية ألوان شديدة الصلة بنسيب الجاهليين. ومهما يكن من شيء فالصورة الأخيرة التي بلغتها العربية من النضج، وهي التي يمثلها القرآن والشعر الجاهلي من قبله، لا زالت هي الصورة المسيطرة على أساليب اللغة العربية الحية فيها كل الحياة.

ونحن حين ننفعل إزاء الذي نراه غريباً من الشعر الجاهلي إنما ننفعل في الحقيقة إزاء هذه الحيوية التي نجدها في لغتنا. هذه الحيوية التي صحبتها القرون الطوال، وجعلت منها لساناً للتعبير واسع الذخيرة سعة يعجز عن استيعابها الذكاء المتوسط في العمر المتوسط.

على أنه ينبغي علينا إن أردنا حقيقة الدرس الأدبي والنقد الفني، أن نتمثل لأنفسنا مدى البون البعيد بين مدلولات عصرنا هذا والعصر الجاهلي، وأن ندرك جوهر الفرق بين قيمنا الاجتماعية في العصر وبين القيم الجاهلية القديمة، ثم أن نحاول بعد هذا كله أن نستخلص الأسس الفنية العميقة الخالدة المشتركة بيننا بالرغم من تطاول الزمان»[7].

ثناء العلماء والكتاب على الدكتور عبد الله الطيب رحمه الله

أورد هنا جُل ما كتبه طه حسين في تقديمه لكتاب المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها للدكتور عبد الله الطيب، لما لشهادته من مكانه بين الأدباء. ثم أُورد بعضاً مما شهد به العلماء والكتاب الكُثر ممن أثنوا عليه رحمه الله.

طه حسين

قدم الدكتور طه حسين الكاتب والأديب لكتاب «المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها» للدكتور عبد الله الطيب فقال: (هذا كتاب ممتع إلى أبعد غايات الإمتاع، لا أعرف أن مثله أتيح لنا في هذا العصر الحديث.

ولست أقول هذا متكثرًاً أو غالياً، أو مؤثرًاً إرضاء صاحبه، وإنما عن ثقة وعن بينة. ويكفي أني لم أكن أعرف الأستاذ المؤلف قبل أن يزورني ذات يوم، ويتحدث إليّ في كتابه هذا. ثم لم أكد أقرأ منه فصولا، حتى رأيت الرضى عنه، والإعجاب به يفرضان علي فرضاً، وحتى رأيتني أُلح على الأستاذ أن ينشر كتابه، لتُطْرِف قرّاء العربية بهذا الكتاب الفذ، الذي كان الشعر العربي في أشد الحاجة إليه.

وإني لأسعد الناس حين أقدم إلى القرّاء الأستاذ عبد الله الطيب، وهو شاب من أهل السودان، يُعَلِّم الآن في جامعة الخرطوم، بعد أن أتم دراسته في الجامعات الإنجليزية، وأتقن الأدب العربي، علماً به وتصرفاً فيه، كأحسن ما يكون الإتقان، وألف هذا الكتاب باكورة رائعة لآثار كثيرة قيمة ممتعة إن شاء الله.

أنا سعيد حين أقدم إلى قراء العربية هذا الأديب البارع، لمكانه من التجديد الخِصب في الدراسات الأدبية.

إني بتقديمي لهذا الكتاب إنما أقدم طُرْفة أدبية نادرة حقاً، لن ينقضي الإعجاب بها، والرضى عنها، لمجرد الفراغ من قراءتها، ولكنها ستترك في نفوس الذين سيقرؤونها آثاراً باقية، وستدفع كثيرًاً منهم إلى الدرس والاستقصاء، والمراجعة والمخاصمة. وخير الآثار الأدبية عندي، وعند كثير من الناس، ما أثار القلق، وأغرى بالاستزادة من العلم، ودفع إلى المناقشة وحسن الاختبار.

وأخصّ ما يُعجبني في هذا الكتاب، أنه لاءم بين المنهج الدقيق للدراسة العلمية الأدبية، وبين الحرية الحرّة التي يصطنعها الكتاب والشعراء، حين ينشئون شعرًاً أو نثرًاً، فهذا الكتاب مزاج من العلم والأدب جميعاً، وهو دقيق مستقص حين يأخذ في العلم كأحسن ما تكون الدقة والاستقصاء، وحر مسترسل حين يأخذ في الأدب، كأحسن ما تكون الحرية والاسترسال. وهو من أجل ذلك يُرضي الباحث الذي يلتزم في البحث مناهج العلماء، ويُرضي الأديب الذي يرسل نفسه على سجيتها، ويخلِّي بينها وبين ما تحبّ من المتاع الفني، لا تتقيد في ذلك إلا بحسن الذوق، وصفاء الطبع، وجودة الاختيار.

وقد عرض الكاتب للشعر، فأتقن درس قوافيه وأوزانه، لا إتقان المقلِّد، الذي يلتزم ما ورث عن القدماء، بل إتقان المجدد، الذي يحسن التصرُّف في هذا التراث، لا يضيِّع منه شيئاً، ولكنه لا يفنى فيه فناء، ثم أرسل نفسه على طبيعتها بعد ذلك، فحاول أن يستقصيّ ما يكون من صلة بين القوافي وألوان الوزن، وبين فنون الشعر التي تخضع للقوافي والأوزان، فأصاب الإصابة كلها في كثير من المواضع، وأثار ما يدعو إلى الخصام والمجادلة في مواضع أخرى، فهو لا يدع بحرًاً من بحور الشعر العربيّ، إلا حاول أن يبين لك الفنون التي تليق بهذا البحر، منذ كان العصر الجاهليّ، إلى أن كان العصر الذي نعيش فيه، وهو يعرض عليك من أجل ذلك، ألواناً مختلفة مؤتلفة من الشعر، في العصور الأدبية المتباينة، ألواناً في البحر الذي أقيمت عليه، وفي الموضوعات التي قيلت فيها، ولكنها تختلف بعد ذلك باختلاف قائليها، وتباين أمزجتهم، وتفاوت طبائعهم، وتقلبهم آخر الأمر بين التفّوق والقصور، وما يكون بينهما من المنازل المتوسطة والمؤلف يصنع هذا بالقياس إلى بحور العروض لها، فكتابه مزدوج الإمتاع، فيه هذا الإمتاع العلميّ، الذي يأتي من اطراد البحث على منهج واحد دقيق، وفيه هذا الإمتاع الأدبي، الذي يأتي من تنّوع البحور والفنون الشعرية التي قيلت فيها، وتفاوت ما يعرض عليك من الشعر، في مكانها من الجودة والرداءة.

والمؤلف لا يكتفي بهذا، ولكنه يدخل بينك وبين ما تقرأ من الشعر، دخول الأديب الناقد، الذي يحكِّم ذوقه الخاص، فيرضيك غالباً، ويغيظك أحياناً، ويثير في نفسكّ أحياناً أخرى. وهو كذلك يملك عليك أمرك كله، إلى أن تفرغ من هذه القراءة، فأنت منتبه لما تقرأ تنبهاً لا يعرض له الفتور، في أيّ لحظة من لحظات القراءة، وحسبك بهذا تفّوقاً وإتقاناً.

وليس الكتاب قصيرًاً يقرأ في ساعات، فصفحاته تقارب تمام المائة الخامسة، وليس الكتاب هيناً يقرأ في أيسر الجهد، ويستعان به على قطع الوقت، ولكنه شديدُ الأسْر، متين اللفظ، رصين الأسلوب خصب الموضوع، قَيِّم المعاني، يحتاج إلى أن تنفق فيه خير ما تملك من جهد ووقت وعناية، لتبلغ الغاية من الاستمتاع به. هو طُرفة بأدق ّمعاني هذه الكلمة، وأوسعها وأعمقها، ولكنه طُرفة لا تقدم إلى الفارغين، ولا إلى الذين يؤثرون الراحة واليسر، ولا إلى الذين يأخذون الأدب على أنه من لهو الحديث، وإنما تقدم إلى الذين يُقْدرُون الحياة قدرها، ولا يحبون أن يضيعوا الوقت والجهد، ولا يحاولون أن يتخففوا من الحياة، ويأخذون الأدب على أنه جد، حلوُّ مرّ، يمتع العقل، ويرضي القلب، ويصفِّي الذوق.

هؤلاء هم الذين سيقرؤون هذا الكتاب، فيشاركونني في الرضى عنه، والإعجاب به، والثقة بأن له ما بعده، ويشاركونني كذلك في ترشيح هذا الكتاب لجائزة الدولة، التي تقدمها الحكومة المصرية لخير ما يُصْدِره الأدباء من كتب، إن جاز لك ولي أن نُدِلّ لجنة هذه الجائزة، على ما ينبغي أن تدرُس من الكتب، لمنح هذه الجائزة.

أما بعد، فإني أهنئ نفسي، وأهنئ قرّاء العربية بهذا الكتاب الرائع، وأهنئ أهل مصر والسودان بهذا الأديب الفذّ، الذي ننتظر منه الكثير[8].

جعفر شيخ إدريس 

تحدث الدكتور جعفر شيخ إدريس في صفحته بمناسبة مرور عام على وفاة الشيخ العلامة الدكتور عبد الله الطيب فقال (أما العربية الفصيحة فقد كان ابن جلدتها، ومالك ناصيتها، لا تكاد تخفى عن علمه مفردة من مفرداتها، ولا عن حفظه قصيدة ولا نظم من نظمها، ولا عن اطلاعه أو دراسته كتاب مهم من كتبها. حدثني الصديق الدكتور مالك بدري أن شيخنا ألقى محاضرة في بيروت فاستشهد فيها بالعشرات من أبيات الشعر من ذاكرته حتى إن أحد أساتذة اللغة بالجامعة الأمريكية- (أظنه قال إنه الدكتور إحسان عباس) – قال مازحا: ماذا نقول لطلابنا غدا؟ هل نقول لهم إننا مثله أساتذة لغة عربية؟ … تحولت العربية الفصيحة عنده إلى ما يشبه السليقة فكان إذا حاضر بها في القاعة يتكلمها كلاما لا تكلف فيه حتى إنك لتظن أنه إنما كان يتكلم بالعامية إلى أن ترجع إلى ما كتبته عنه لتجده عربيا فصيحا. وكان إذا ألقى القصيدة من الشعر العربي. حتى الجاهلي منه العصي الفهم ألقاها بطريقة يطرب لها المستمعون.

فمن القصائد الصعبة التي لا زلت أذكر شرحه الممتع لها والتي أشار إليها الصديق الدكتور الحبر نور الدايم في مقاله الماتع عن شيخه الذي كانت صلته الأدبية به وثيقة لما يجمعه وإياه من حب العربية وإتقانها وبراعته في شعرها. تلك هي قصيدة المرار بن منقذ في وصف فرسه. التي من أبياتها:

ببعيد قدره ذي عذر    صلتان من بنات المنكدر

سائل شمراخه ذي جبب    سلط السنبك في رسغ عجر

قارح قد فر عنه جانب    ورباع جانب لم يتغر

فهو ورد اللون في ازبئراره     وكميت اللون ما لم يزبئر

شندف أشدف ما ورعته    فإذا طؤطئ طيار طمر

استعنت على تذكر مفرداتها- من باب الطرفة- برسمة أسميتها حصان المرار. والغريب أن أستاذنا العلامة لم يكن يعرف معاني هذه الكلمات النادرة بالعربية فحسب، بل كان يعرف ترجماتها الإنجليزية، تلك اللغة التي كان متقنا لها مطلعا على آدابها والتي كانت له فيها نظرات ومقارنات بينها وبين العربية. منها ملاحظته لكثرة ما في قصائد شكسبير من تشبيهات وتعبيرات يقول إنها شديدة الشبه بما في الأدب العربي وأنه لا مثيل لها أصلا في الأدب الإنجليزي.

كان شيخنا علامة النحو العربي الذي لا يشق له غبار. كان مفتونا بالكتاب لسيبويه يقرأه كالورد اليومي كلما ختمه بدأه، شهد لبراعة شيخنا في فهم الكتاب لسيبويه علماء كثر من خارج السودان، حدثني صديق سعودي هو الدكتور تركي العتيبي أستاذ علم النحو بجامعة الإمام فقال: إن شيخنا جاءهم أستاذا زائرا، وقال: كنت أعمل في رسالتي الماجستير عن أحد نحويي الكوفة المتقدمين، ومن خلال الدراسة اعترضتني نصوص مشكلة في الكتاب لسيبويه راجعتها في الشروح فلم أظفر بطائل… فلما جاء د. عبد الله الطيب رحمه الله تعالى… عرضت عليه هذه النصوص فأفادني في بعضها إفادات رائعة دونتها في نسختي، وعرضت قوله على شيخي فاستحسنه وسر به. وكان د. الطيب أقرأ المعاصرين لكتاب سيبويه.

ولم تكن العربية عند علامتها الطيب مجرد فن يتذوقه أو لسان يعبر به، بل كانت كالمرجع الذي يهتدي به في كثير من شؤون حياته. لعل صديقنا الدكتور إبراهيم الحاردلو يذكر كيف أنه أمتعنا في يوم قضيناه معه في تجوال في مدينة برايتون الانجليزية، كيف أنه كان كلما ذكر زعيما سودانيا أو أمرا سياسيا قال فيه رأيا ثم أتبعه مستشهدا بما يعرف من شعر العرب ونثرها وأخبارها، وكانت استشهادات في غاية الطرافة[9].

محمد المكي إبراهيم

كتب تحت عنوان براعة في اللغويات وعقل حاشد بالمعارف يتحدث عن عبد الله الطيب فقال في معرض حديثه: (أحد أبرز الأسماء في جيل العمالقة السودانيين الذين لمعوا مع بداية عصر الاستقلال كالشهب في سماء السياسة والقانون والطب والإدارة والتعليم والأدب، وأحرزوا من التفوق ما لم يكن متوقعا من أبناء دولة كانت ترزح تحت نير الاستعمار. عبد الله الطيب عالم لغوي من أرفع طراز، وشاعر، وحافظ للقرآن والقراءات والتفسير. وهو إلى ذلك مؤلف مسرحي وكاتب مذكرات يمكن اعتبارها من أوائل ما وضع السودانيون في علم الاجتماع الوصفي. وكان (البروف)، وهو عروضي متمكن، يسعى للتجريب في إطار البحور الخليلية راميا إلى توسيعها وتطويرها، وليس إلى إلغائها كما فعل التفعيليون أو انتهوا بالقصيدة العربية إلى ذلك غير قاصدين. له في ذلك الإطار محاولات لتطويع النظم العربي ليستوعب بحورا كتب فيها الشعر الشعبي خفيفا صالحا للغناء. واستقصى الوزن الذي جرت عليه إلى أشعار الجاهليين وأسهب في صفة ذلك في كتابه (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها). فقد كان ـ رحمه الله ـ لؤلؤة المجالس، وقد احتشد بالعلم والتجارب، وحفظ عن الدنيا مفارقاتها المضحكة والمؤسية، وصار كنزا قوميا. علم (ضخم) بغيابه نغدو أفقر وأقل شأنا. بحر زخار برحيله نزداد جهلا وسوء حظ. .

بسمة في جبين الأيام المكفهرة بذهابها نزداد جهامة وقطوباً) [10].

معاوية محمد عبد المجيد

كتب د. محمد عبد المجيد في رثاء البروفيسور عبد الله الطيب فقال: أبكت تلكم الحمامة وأطرقت المنارات في سمرقند، ماجت بحور الشعر واختلت الأوزان وفارقت القوافي أصداء النيل، أقفر المدرج 102 بكلية الآداب، جامعة الخرطوم، وهجرت الكتابة اللوح، تلاشى غبار الطباشير، انفرط عقد الأحاجي السودانية وكف الرواة عن الحكي، ولم تعد فاطمة السمحة سمحة، فقد «المرشد» بوصلة الشعر، ضاعت الابتسامة الخلابة التي تومض بين دفق الكلمات المبهرة ورحلت «راؤه» العذبة التي يعشقها الطلاب والحواريون، حلقت ورقاء المعري في سماء الخرطوم.

وليطب عن أخيه نفسا وأبناء أخيه جرائح الأكباد كل بيت للهدم ما تبتني الورقاء والسيد الرفيع العماد بكت «هناة» وأطرقت «المنارات في سمرقند» حبذا أنت والجبين الأغر والوريد الذي عليه يدر حبذا أنت واسلمي وتباركت وبوركت والهوى لك غرو القناديل في محياك والفتنة عيناك والرماح تجر عرف عبد الله الطيب بقراءته المتعمقة في الثقافة الغربية وبنقده الرصين والأصيل وترجماته للقصائد الجياد من الشعر الانجليزي وله عدة بحوث في النقد.

ألا رحم الله أستاذ الأساتيذ. اللهم تقبله وأصحابه الكرام قبولا حسنا مع الشهداء والصديقين والأبرار[11].

كمال الجزولي

كتب كمال الجزولي بعد يوم من وفاة العلامة عبد الله الطيب مقالا بعنوان] وجاء يوم شكره [- ويقصد به أنه توفي حيث تشتهر مقولة عند السودانيين وهي: إن شاء الله يوم شكرك ما يجي وهي دعاء بطول العمر- يقينا إن مسبحة بأكملها من الدهور سوف تكرّ قبل أن تتكرّر، وقد لا تتكرر، فبلادنا قامة علمية وإبداعية سامقة في موسوعية وفرادة عبد الله الطيب.

ملأ العزيز الراحل الدنيا وشغل الناس لأكثر من نصف قرن، جادت خلاله عبقريته بأسفاره ونتاجاته الأدبية الذائعة في مطاوي ثقافة المستعربين السودانيين.

حباه الله جاذبية تشد إليه سامعيه وقارئيه، اتفقوا أم اختلفوا معه، وهي ذات الجاذبية التي لطالما جعلت أفئدة من أصدقائه الكثيرين تهوي إليه في مستوى العلاقات الإنسانية العادية.

اللهم هذا عبد الله جاء إلى رحابك، فارحمه، واغفر له، وأحسن إليه، بقدر ما أحسن لتديّن قومه، وللعلم والثقافة والأدب واللغة، وحاشا أن نزكيه عليك، وأجب يا رب دعوات الآلاف من بسطاء شعبه وتلاميذه الذين أمطروا جثمانه وقبره بالدمع الهتون لحظة الوداع الأخير، ودعوات الملايين داخل وخارج السودان ممن لم يتمكنوا من المشاركة في التشييع، وأدخله، اللهم، فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا (20 يونيو 2003م)[12].

الهوامش

[1] السيرة الذاتية والعلمية والعملية من منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية.

[2] برق المدد بعدد وبلا عدد-مطولة لعبد الله الطيب على حروف المعجم على موقع سودانيز أون لاين.

[3] – مجلة الشرق الأوسط، الاثنين – 13 ذو القعدة 1440هـ – 15 يوليو 2019 م، رقم العدد 14839.

[4] من تجارب تعليم العربية في إفريقيا، مجلة حروف، ع 2 مزدوج، س1، ديسمبر 90 – 1991، ص 11 – 21.

[5] البرنامج التلفزيوني أسماء في حياتنا بتلفزيون السودان القومي لمقدمه عمر الجزلي، الحلقة الثانية 2002.

[6] د. عبد الله الطيب، محاضرة في الدوحة، نادي الجسرة الثقافي الاجتماعي، 19 – 06 – 2004.

[7] عبد الله الطيب، كتاب الحماسة الصغرى، طبعة الدارالسودانية، ص 13 – 14.

[8] المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها- الجزء الأول- التقديم.

[9] سودانيزأون لاين- أ. د. جعفر شيخ إدريس- طالب يذكر طرائف من مناقب شيخه- 30 يوليو 2003.

[10]  سودانبز أون لاين- براعة في اللغويات وعقل حاشد بالمعارف. . بقلم: محمد المكي إبراهيم، الأربعاء ,24 تموز/يوليو 2013.

[11] – معاوية محمد عبد المجيد- جامعة قطر- نقلا عن الوطن القطرية.

[12] سودانيز أون لاين- بعنوان: وجاء يوم شكره – كمال الجزولي 20 / 6 /2003.

تحميل المقال بصيغة PDF