مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

دور علماء السودان الغربي في خدمة المذهب المالكي ونشره

الدكتور عبد الرحمن محمد ميغا
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالنيجر االمكلف بالشؤون الإدارية والمالية

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين. أما بعد:

فيعتبر الإمام مالك من أعظم أئمة المذاهب المتبعة في العالم الإسلامي، وإليه تنسب المالكية، وهو نادرة الزمان وأعجوبة الدنيا، وقد أجمع أئمة عصره على الاعتراف بمكانته التي لا تدانى، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: “… وإذا ذكر العلماء فمالك النجم”، ويقول الإمام الأوزاعي رحمه الله: “مالك عالم العلماء، وعالم أهل المدينة ومفتي الحرمين”. ويعد فقه الإمام مالك فقه الصحابة والتابعين؛ ولهذا وجد مذهبه قبولا منقطع النظير في الغرب الإسلامي.

وتعتبر منطقة السودان الغربي من أهم مناطق الغرب الإسلامي التي وجد فيها المذهب المالكي قبولا خاصا لدى العامة والخاصة بفضل جهود علمائها في خدمته ونشره. ولهذا ارتأيت أن يكون موضوع هذا المقال: “دور العلماء الأفارقة في خدمة المذهب المالكي ونشره.”

والهدف من هذا البحث هو إبراز دور علماء السودان الغربي في خدمة المذهب المالكي ونشره وترسيخه في المجتمع السوداني الغربي، حتى أصبح المذهب الفقهي المفضل بين سائر المذاهب الفقهية السائدة في العالم الإسلامي. وقد عالجت الموضوع بعد المقدمة في مبحثين وخاتمة:

  • في المبحث الأول: تحدثت عن دخول المذهب المالكي إلى السودان الغربي وعوامل انتشاره،
  • وفي المبحث الثاني: تناولت مساهمة علماء السودان الغربي في خدمة المذهب المالكي ونشره،
  • وفي الخاتمة: دونت أهم ما توصلت إليه من نتائج وتوصيات.

المبحث الأول: دخول المذهب المالكي إلى السودان الغربي وعوامل انتشاره

أولا: تاريخ دخول المذهب المالكي إلى السودان الغربي

يعتبر مذهب الإمام مالك -رضي الله عنه- من أهم المذاهب الفقهية التي حظيت بقبول العامة والخاصة في السودان الغربي؛ لما يتمتع به من خصائص ومميزات فريدة لا تتوفر في غيره، وقد أخذ ينتشر منذ أواسط القرن الثاني الهجري في العالم الإسلامي عامة والغرب الإسلامي خاصة، واستمر في الانتشار بعد القرن الثاني الهجري إلى أن وصل إلى السودان الغربي مع منتصف القرن الخامس الهجري بسيطرة المرابطين على المنطقة، وتوطدت أركانه ودعائمه فيها، وبذلك “غلب مذهب مالك على الحجاز والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان”…[1].

وبذلك يمكن القول: إن المذهب المالكي وصل إلى السودان الغربي منذ فترة طويلة، وإن تاريخ دخوله للمنطقة يرجع إلى القرن الخامس الهجري؛ لأن في هذا القرن وصل المرابطون -الذين انتصروا للمذهب المالكي- إلى الحكم. وكان ذلك أهم حدث تاريخي لانتصار المذهب المالكي في الغرب الإسلامي.

فمنذ هذا التاريخ والمذهب المالكي في انتشار مستمر، وأصبح المذهب الرسمي للدولة المرابطية، وبات الغرب الإسلامي بما فيه السودان الغربي المعقل الرئيسي له، حتى قال ابن خلدون: “… وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا القليل”…[2].

وهكذا أصبح القرن الخامس الهجري، القرن الذي أضحى فيه المذهب المالكي مذهبا سائدا في الغرب الإسلامي، ولم يزاحمه أي مذهب يستحق الذكر إلى يومنا هذا، فكثر أتباعه في العالم الإسلامي عامة وفي الغرب الإسلامي خاصة، وحظي بمساندة العامة والخاصة، وأضحى المذهب الذي لا يبغي عنه الناس بديلا.

وقد أدى هذا الأمر إلى أن يصبح المذهب المالكي، المذهب الرسمي للدول المتعاقبة في الغرب الإسلامي، منذ تلك الفترة إلى وقت قريب. فأصبح جميع الناس ملزمين باتباعه.

ومن الملوك الذين نوهوا بالمذهب المالكي، الحكم المستنصر[3] ملك الأندلس الذي قال: “نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء وقرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم نر مذهبا من المذاهب أسلم منه… فالاستمساك به نجاة إن شاء الله “…[4].

وهذا أسد بن الفرات يقول منتصرا للمذهب المالكي: “…إن أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك بن أنس “…[5].

على أن سيطرة المذهب المالكي في الغرب الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري تركت أثرا قويا في السودان الغربي، إذ أسهمت في توطيد أركان الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة، وتغلغلها في أعماق المجتمع.

فمنذ أن وصل المذهب المالكي إلى السودان الغربي تشبث به العامة والخاصة وأصبح المذهب الفقهي الوحيد في هذه المنطقة، فلا مذهب إلا مذهب مالك ولا فقه إلا فقهه.

وهذا يعني أن السودان الغربي من أهم المناطق التي استقر بها المذهب المالكي دون أن يزاحمه مذهب آخر يستحق الذكر.

ثانيا: عوامل انتشار المذهب المالكي في السودان الغربي

إن أسباب انتشار المذهب المالكي في السودان الغربي، وقبول العامة والخاصة له يرجع إلى عدة عوامل منها:

  • – أن المرابطين الذين حملوا لواء الإسلام إلى المنطقة، وقاموا بتصحيح مفاهيمه لدى المجتمع السوداني انتصروا للمذهب المالكي، وبذلك أصبح المذهب الرسمي لهم، وكان من الطبيعي أن يتبعهم السودانيون في مذهبهم.
  • – أن المغرب الذي يرجع إليه الفضل في انتشار الإسلام وثقافته العربية في المنطقة، عد “القلعة الأمامية” للمذهب المالكي، فلا غرو أن يكون من أولوياتها تثبيت المذهب المالكي في السودان الغربي وغيره.
  • – ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الإِبِلِ يَطْلُبُونَ العِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ المَدِينَةِ»[6] فأُوّل هذا الحديث بأنه يقصد الإمام مالكا، وازداد هذا الأمر رسوخا عند أتباع المذهب، ما ورد من ثناء العلماء على مالك وشهادتهم له بالعلم والتقوى والورع[7].
  • – شهرة المدينة التي عاش فيها الإمام مالك علما ومكانة؛ إذ هي مهبط الوحي ومنبعه، ومهوى أفئدة المسلمين، وطلاب العلم عموما والمغاربة منهم بصفة خاصة.

وهذا الأمر يؤكده ابن خلدون لما علل انتشار المذهب المالكي وانتصاره في الغرب الإسلامي بقوله: “… وأما مالك رحمه الله فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل؛ لما أن رحلتهم كانت غالبا في الحجاز، وهو منتهى سفرهم والمدينة يومئذ دار العلم”…[8].

ويمكن اعتبار هذا العامل الأخير من أهم العوامل التي أسهمت في ترسيخ المذهب المالكي في السودان الغربي؛ لأن المجتمع السوداني خاصتهم وعامتهم يعتبرون أن كل ما جاء من المدينة المنورة من أمور دينية وفقهية هو الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولذا تعلقوا بالمذهب المالكي وتشبثوا به ولم يبغوا عنه بديلا.

ولا شك أن هذه الفكرة التي ترسخت في أذهان المجتمع السوداني فكرة صحيحة إلى حد ما؛ لأن الأصل أن يقدم ما جاء من مدينة الرسول على غيره؛ إذ أهلها أدرى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ينبغي أن يقتدى بهم إذا ثبت أن ما يعملون به عمل جماعة عن جماعة.

وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى هذا الأمر لما تحدث عن مذهب أهل المدينة وفضله. ومما قال فيه: “… مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين، وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن شرقا وغربا في الأصول والفروع”…[9]. وقوله أيضا: “… ثم إن من تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد”…[10].

إذاً فلا غرو أن يتشبث المجتمع السوداني بالمذهب المالكي، وحق لهم ذلك؛ إذ إن أصوله وقواعده أصح الأصول والقواعد، كما صرح به شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أحد أقطاب المذهب الحنبلي.

  • – أن اختيار المجتمع السوداني لهذا المذهب يرجع إلى أنه وجد في قواعده ومبادئه ما يشبع رغبته ويلبي حاجاته، فلا غرو من ذلك فإن من خصوصيات المذهب المالكي ارتباطه بالبيئة واعتداده بالواقع الاجتماعي للأمة.
  • – دور الملوك السودانيين الذين حرصوا على التمسك بالمذهب المالكي وتحكيمه في كل القضايا اليومية من خلال جلب الفقهاء المالكيين واستفتائهم في كل ما استجد من الحوادث والمسائل.

فهذا منسا موسى سلطان من سلاطين السودان الغربي العظيم كان حريصا على جلب العلماء من المشرق والمغرب، وقد أثر عنه قوله – لما كان يذهب إلى الحج وزار السلطان الناصر بن محمد قلاوون-: “إننا مالكيو المذهب، ولا نسجد لغير الله؛ لأننا مسلمون..”[11].

وهذا الملك منسا سليمان المتحمس للثقافة العربية الإسلامية والمتشبث بالمذهب المالكي وثقافته لما تولى السلطة “بنى المساجد والجوامع والمنارات وأقام بها الجمع والجماعات والأذان وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك، رضي الله عنه، وتفقه في الدين”..[12].

وهكذا أسهم هذا الملك العظيم في ترسيخ المذهب المالكي في المجتمع من خلال جلب فقهاء المالكيين والكتب المالكية.

  • – ارتباط العلماء الأفارقة بالمذهب المالكي وتحكيم فقهه في كل القضايا المستجدة في الحياة اليومية، ونبذ المذاهب الأخرى، جعل المجتمع السوداني لا يرتاح ولا يطمئن إلا لهذا المذهب، الأمر الذي أسهم في نشر المذهب المالكي في السودان الغربي.
  • – التزام السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بالمذهب المالكي في كل الأحكام جعله مذهبا رسميا في السودان الغربي، مما ساعد على نشره.

هذه بعض العوامل التي تظهر لنا أنها أسهمت في ترسيخ المذهب المالكي وتألق نجمه في سماء السودان الغربي منذ القرن الخامس الهجري إلى يومنا هذا، تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل. وعلى ضوئه يتفقه الفقهاء، ويقضي القضاة ويحكم الحكام طبقات عن طبقات إلى وقت قريب.

وصفوة القول: إن المذهب المالكي دخل السودان الغربي منذ القرن الخامس الهجري، وأصبح من أهم المناطق في الغرب الإسلامي التي ساد فيها سيادة مطلقة دون منافس يستحق الذكر، وأمضى بذلك من أكثر المناطق انغلاقا عليه، وبعدا عن المذاهب الأخرى.

المبحث الثاني: مساهمة علماء السودان الغربي أو الأفارقة في خدمة المذهب المالكي ونشره

إن المذهب المالكي في السودان الغربي يمثل المدرسة التربوية الوحيدة التي تكوّن منها العلماء والأساتذة والقضاة والحكام ورجال الدعوة والإرشاد في غرب إفريقيا؛ ولهذا كل واحد منهم يسترشد في حياته الدينية والدنيوية بقدوة مذهب الإمام مالك في العقيدة والمذهب والسلوك، حيث وقر في نفوس المجتمع السوداني وإحساسهم أن المالكية عنصر من عناصر الكيان الشخصي لهم.

وهكذا أصبح المجتمع السوداني لا يعرف مذهبا إلا مذهب مالك، ولا يدرسون فقها إلا فقه الإمام مالك، الأمر الذي جعل العلماء يجتهدون في خدمته ونشره وتطويره.

ويتجلى دور علماء السودان الغربي في خدمة المذهب المالكي ونشره في المنطقة من خلال عدة جوانب منها: التدريس والفتيا، والقضاء والإمامة، والخطابة والتأليف، والرحلات العلمية.

أولا: التدريس

إن علماء منطقة السودان الغربي كانوا على دراية كبيرة بمكانة الاستزادة في العلم والتعمق في الفقه، وتعليم الناس أمور الدين، للنصوص الواردة في ذلك، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ»[13]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «نعمت الغبطة، ونعمت الهدية كلمة حكمة تسمعها فتنطوي عليها ثم تحملها إلى أخ لك مسلم تعلمه إياها تعدل عبادة سنة»[14].

ونظرا إلى هذين النصين وغيرهما من النصوص التي تحث على طلب العلم وتعليم الناس أمور الدين، فقد اجتهد علماء السودان في طلب العلم، وحرصوا على أن يتعمقوا في الفقه المالكي، فاستوعبوه ودرسوا أصوله وفروعه واستظهروا متونه المطولة والمختصرة.

وبعدما استوعبوا الفقه المالكي قاموا بتدريسه في كل المراحل الدراسية، وبذلك أسهموا في خدمة المذهب المالكي ونشره وترسيخه في المجتمع السوداني عن طريق التدريس، كما قاموا بمسؤوليتهم تجاه المجتمع من حيث تعليمهم وتدريسهم مما علمهم الله من العلم، وللتأكد على دور العلماء في خدمة المذهب المالكي ونشره عن طريق التدريس نلقي نظرة سريعة على كتب الدراسة في الحلقات العلمية بالسودان الغربي، ومن هذه الكتب الفقهية المعتمدة في مجالس التدريس:

  • الموطأ للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه

يعد الموطأ من أوائل كتب الحديث، تناقلته الأجيال منذ تأليفه إلى الآن. ألفه مالك بأمر من الخليفة أبي جعفر المنصور، ومكث في تأليفه أربعين سنة يهذبه وينقحه [15]، وقال عنه الدهلوي: «من تتبع المذاهب ورزق الإنصاف علم لا محالة أن الموطأ عدة مذهب مالك وأساسه، وعمدة مذهب الشافعي وأحمد ورأسه، ومصباح مذهب أبي حنيفة وصاحبيه ونبراسه، وهذه المذاهب بالنسبة للموطأ كالشروح للمتون وهو منها بمنزلة الدوحة من الغصون….» [16].

  • مدونة سحنون (المتوفى سنة 240هـ)

تعتبر مدونة سحنون أقدم كتاب وصل إلينا في المذهب المالكي بعد الموطأ، وتعد ثمرة جهود ثلاثة من الأئمة: مالك بإجاباته، وابن القاسم بقياساته وزياداته، وسحنون بتهذيبه وتنقيحه وتبويبه وبعض إضافاته. وهي أصل المذهب المالكي وعمدة الفقهاء في القضاء والإفتاء بعد الموطأ في الفقه المالكي، وإليها كانوا يرجعون فيما أشكل عليهم من المذهب.

  • التهذيب للبرادعي:

هذا الكتاب الفقهي عبارة عن تهذيب للمدونة والمختلطة، وقد تم تصنيفه سنة 372ه/983م من طرف أبي سعيد خلف بن القاسم البرادعي.

وكان من الكتب المعتمدة في الفتوى عند المالكية، وظل مقررا في الدراسات الفقهية خلال أربعة قرون قبل أن يزحزحه مختصر ابن الحاجب[17].

  •  الرسالة لابن أبي زيد:

من الكتب أو المختصرات الفقهية التي حظيت باهتمام العلماء في غرب إفريقية في الحلقات العلمية رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ألفها صاحبها لتكون كتابا تعليميا للولدان، فانتشرت في سائر بلاد المسلمين، وتنافس الناس في اقتنائها حتى كتبت بالذهب [18].

  • النوادر والزيادات:

ومن الكتب الفقهية التي كانت تتداول في المجالس العلمية في السودان الغربي: كتاب النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني إمام المالكية في عصره، المتوفى سنة 386هـ.

ويعتبر ابن أبي زيد من أبرز وجوه المالكية في زمنه، وجامع مذهب مالك وشارح أقواله. وقد استوعب مؤلفه هذا فروع الفقه المالكي. ومن ميزة هذا الكتاب أنه احتفظ بكثير من النصوص المأخوذة من الأمهات التي في حكم الضياع مثل الواضحة والموازية والمجموعة…[19].

  • مختصر خليل:

يعتبر مختصر الشيخ خليل بن إسحاق بن موسى، المعروف بالجندي، ضياء الدين أبي المودة، حامل لواء مذهب مالك في زمنه بمصر، من أهم المختصرات التي حظيت باهتمام العلماء في الغرب الإسلامي فوضعوا عليه شروحا وحواشي وتعليقات وتقريرات تعد بالمئات.

ولأهمية هذا الكتاب في المذهب المالكي في القرون المتأخرة «كان المالكية يشترطون في المفتي أن يختم المختصر الخليلي مرة في السنة، بل إن بعضهم اشترط أن يختمه مرتين»…[20].

ومن الكتب الفقهية المعتمدة في الحلقات العلمية أيضا: الجامع لابن يونس، والتمهيد والاستذكار، والتبصرة للخمي، والبيان والتحصيل، ومختصر ابن الحاجب، والمختصر في الفقه المالكي، والتوضيح لخليل، وأحكام البرزلي، والمعيار المعرب للونشريسي، والمنتقى للباجي، وتحفة الحكام لابن عاصم وشرح ولده عليها، والقرطبية في الفقه، والمدخل لابن الحاج، والمرشد المعين لابن عاشر، ولامية الزقاق، والمنهج المنتخب في قواعد المذهب للزقاق، وشرح أبي الحسن الصغير على المدونة، ومنظومة الزكاة لمحمدبن العربي الفاسي، ونوازل عبد القادر الفاسي، ونظم العمل للفاسي وشرحه لولده، ومختصر الأخضري، وتبصرة الحكام لابن فرحون، والأحكام لابن سلمون، والجواهر الثمينة لابن شاس، والتفريع للجلاب، ومواهب الجليل للحطاب، وشرح اللقاني على المختصر، وحاشية أحمد بابا على المختصر، وشرح المختصر للأجهوري، وشرح المختصر للتتائي، وشرح المختصر للسنهوري، والتنبيهات للقاضي عياض، والتلقين للقاضي عبد الوهاب، وأحكام البرزلي، والنهاية والتمام للمتيطي، والقوانين الفقهية لابن جزي…

هذه بعض الكتب الفقهية التي كانت لها الصدارة في الحلقات العلمية بالسودان الغربي على مر العصور[21].

ولا شك أن هذه الكتب الفقهية المعتمدة في الحلقات العلمية في المنطقة تبين وتؤكد على تمسك العلماء الأفارقة في السودان الغربي بكتب الفقه المالكي والتركيز عليها، الأمر الذي يظهر دورهم في نشر المذهب المالكي وترسيخه في مجتمع غرب إفريقيا، ومدى ارتباطهم وتمسكهم به.

ثانيا: الفتوى

إن الفتوى من الأمور الجسيمة في الشريعة الإسلامية لأهميتها وخطورتها في نفس الوقت؛ لهذا تولى الله سبحانه وتعالى أمرها بنفسه في محكم تنزيله وتولاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل العلم. ولخطورتها كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يتدافعونها فيما بينهم، وليس فيهم أحد “يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا”[22].

ونظرا لهذه الأهمية البالغة، أحاطها العلماء بسياج من الرعاية؛ لأن عليها تتوقف مصالح الناس، وبها يهتدون في شؤون دينهم ودنياهم. ولذا قيل: “الفتيا توقيع عن الله تبارك وتعالى”[23].

وقال ابن القيم في بيان ما ينبغي أن يتحلى به من تصدى لهذا الأمر: “… فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر هذا المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب… وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة إذ يقول في كتابه: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ…﴾[24]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسؤول غدا وموقوف بين يدي الله “..[25].

ولا شك أن هذه المكانة التي تحظى بها الفتوى في الشريعة الإسلامية هي التي جعلت العلماء يشترطون فيمن يتقلد هذا المنصب شروطا، حتى لا يتعاطاه، أو يصل إليه من لا يستحقه.

وعرفت الفتوى بأنها: “إخبار بحكم شرعي من غير إلزام”[26]، وعرف المفتي بأنه: “هو المستقل بأحكام الشرع نصا واستنباطا”[27]، وقيل أيضا هو:”المخبر بحكم شرعي في المسألة المسؤول عنها لا على وجه الإلزام”[28].

وهذا يعني أن قول المفتي ليس ملزما على المستفتي، بل هو فقيه نفسه إن أراد أخذ به، وإلا تحول إلى مفت آخر لينظر له في المسألة.

وفي كل الحالات فالمستفتي ليس مجبرا على اتباع ما أفتى به المفتي لكن الورع يتطلب منه أن يتبع ما بيّن له المفتي من أحكام الله تعالى في القضية المسؤول عنها، إذ هو قائم مقام الأنبياء، ومن كان هذا شأنه ينبغي أن يتبع كلامه، ويشد عليه اليدين، وإن كان ليس لازما.

وقد حرص علماء السودان الغربي أن يتقيدوا بالمذهب المالكي في القضايا التي كانت ترفع إليهم، وبذلك أسهموا في نشر المذهب المالكي في السودان الغربي وخدمته، حيث برهنوا –عن طريق الفتوى– على أنهم قادرون على مواجهة المستجدات والمشكلات الواقعة والمتوقعة، وأعطوا بذلك الحلول للنوازل والقضايا التي لم يرد فيها نص، وأثبتوا بذلك قدرتهم على مسايرة التطور البشري والزماني، وهكذا أسهموا في خدمة الفقه المالكي ونشره، وبينوا أنه فقه قابل للتطور؛ لمرونته واستيعابه لكل ما يجد في ساحة المعاملات.

وإلقاء نظرة سريعة على الكتب المعتمدة في الفتوى تبين مدى تمسكهم بالمذهب المالكي والحرص على عدم الشذوذ عما عليه علماء المذهب في الكتب المعتمدة في الفتوى. ومن أهم الكتب المعتمدة في الفتوى ما يلي: 1 – الموطأ للإمام مالك، 2 – المدونة الكبرى برواية سحنون عن ابن القاسم، 3 – الواضحة لعبد الملك بن حبيب، 4 – العتبية وتسمى المستخرجة برواية محمد العتبي، 5 – الموازية لابن المواز، 6 – المجموعة لابن عبدوس، 7 – التهذيب في اختصار المدونة للبرادعي، 8 – النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني، 9 – الرسالة للقيرواني أيضا، 10 – جامع ابن يونس، 11 – التبصرة للخمي، 12 – التلقين للقاضي عبد الوهاب، 13 – شرح التلقين للمازري، 14 – التفريع للجلاب، 15 – المقدمات لابن رشد، 16 – البيان والتحصيل له أيضا، 17 – تبصرة الحكام لابن فرحون[29].

إن من ألقى نظرة فاحصة على هذه الكتب المعتمدة في الفتوى، يتجلى له دور علماء السودان في خدمة المذهب المالكي ونشره، وحرصهم الشديد على التمسك به وترسيخه، وجعله المذهب المفضل لدى الأفارقة؛ من خلال البحث عن الحلول المناسبة للحوادث التي ترفع إليهم، وليس فيها نص صريح أو ضمني -في إطار المذهب المالكي-؛ فيقيسون النظير على النظير، ويلحقون الفروع بالأصول، ويعملون فكرهم في النصوص من أجل التوصل إلى الحكم المناسب للمجتمع.

ثالثا: القضاء

يعتبر منصب القضاء منصبا عظيما وجسيما، إذ هو وظيفة الأنبياء والخلفاء والعلماء، قال الله تعالى لنبيه داود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[30].

وعرف القضاء بأنه: “فصل الخصومات وقطع المنازعات”[31]، وهو أمر مطلوب في الإسلام؛ لقوله تعالى مخاطباً رَسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾[32].

ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ.

وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»[33].

ونظرا إلى أهمية خطة القضاء في الإسلام فإن علماء السودان الغربي اهتموا بها كثيرا؛ لفض الخصومات والمنازعات التي تجري بين الناس، وتوفير مصالحهم، ورعاية حقوقهم، ومنع الظلم، ومحاربة الأهواء[34].

وتولاها أعدلهم وأبلوا فيها بلاء حسنا، حيث تحدثنا كتب التاريخ عن كثير منهم قاموا بأداء هذا الواجب خير أداء.

وهذا أحمد بابا التنبكتي يحدث عن أحد أفراد أسرته الفقيه محمود بن عمر بن محمد أقيت، الذي تولى القضاء في السودان فيقول عنه: أنه لما ولي القضاء بمدينة تنبكت عام 904 هجرية “شدد في الأمور وسدد وتوخى الحق في الأحكام، ولذوي الباطل هدد، فظهر عدله بحيث لا يعرف له نظير في وقته”…[35].

وقد أسهم علماء السودان عن طريق القضاء في نشر المذهب المالكي وخدمته حيث ظلوا متمسكين بكتب المذهب المالكي في أحكامهم ولا يبغون عنها بديلا، وبذلك كان لهم دور كبير في ترسيخ المذهب المالكي في المجتمع وخدمته من خلال الاجتهاد في بعض المسائل التي لم يجدوا لها نصا في إطار المذهب المالكي.

رابعا: الإمامة

يعتبر منصب الإمامة من أهم المناصب التي تولاها علماء السودان الغربي. ومهمة الإمام هي إمامة المصلين في المسجد يوميا، وفي المناسبات الدينية والأسبوعية والسنوية.

ويعتبر هذا المنصب مفتاح باب الولوج إلى سلك القضاء، لأنه لا يسند القضاء إلى أي عالم إلا بعدما يتولى الإمامة ويقضي فيها عدة سنوات.

ولا يتم إسناد الإمامة إلى أي عالم إلا باتفاق أهل المدينة أو البلدة وبموافقة القاضي، ويكون مالكيا، وبذلك خدم علماء السودان الغربي المذهب المالكي من خلال هذه الخطة.

وتعد الإمامة من الوظائف التي تكون شبه وراثية في بعض الأسر العلمية المشهورة في السودان الغربي كأسرة أقيت واندغ وكعت وكورد ومغيا… ولذا نجد أغلب الأئمة في السودان من هذه الأسر العلمية المشهورة بالعلم والصلاح[36].

خامسا: الخطابة

الخطابة منصب خطير ومرتقى صعب المنال، لا يصل إليه طالبه إلا بعد صبر ومعاناة ويحتاج مبتغيه إلى زاد عظيم، وهي من الوسائل التي استطاع بها العلماء الأفارقة خدمة المذهب المالكي.

«والخطابة مصدر خَطُب يخطب أي صار خطيبا، وهي على هذا صفة راسخة في نفس المتكلم يقتدر بها على التصرف في فنون القول لمحاولة التأثير في نفوس السامعين وحملهم على ما يراد منهم بترغيبهم وإقناعهم» …[37].

والخطابة لها أهمية كبيرة؛ لأنها «تفض المشاكل وتقطع الخصومات، وتهدئ النفوس الثائرة وتثير حماسة ذوي النفوس الفاترة، وترفع الحق وتخفض الباطل، وتقيم العدل وترد المظالم، وهي صوت المظلومين ولسان الهداية»[38].

ونظرا لمكانة الخطابة أو الخطباء في الوعظ الديني- الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قامت الدعوة على أسسه، ومن ينبوعه تغذت النفوس البشرية غذاءها الروحي، ومن ضوئه اقتبست نورانيتها- فإن حكام السودان خصصوا هذه الوظيفة للعلماء العاملين الناصحين ليؤدوا دورهم في المجتمع الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من على المنابر كلما أتيحت لهم فرصة في المناسبات الدينية الأسبوعية والسنوية. ولا يتولى هذا المنصب – إلى وقت قريب – إلا من كان مالكيا، وبذلك أسهموا في خدمة المذهب المالكي ونشره في المنطقة [39].

سادسا: التأليف

سبق أن ذكرنا أن علماء السودان منذ أن وصلهم المذهب المالكي تمسكوا به واستوعبوه ودرسوا أصوله وفروعه واستظهروا متونه المطولة والمختصرة، ثم قاموا بالتأليف فيه حيث وضعوا على مختصراته –خاصة مختصر خليل– مختلف الشروح والحواشي والتعاليق، ونظموا كثيرا منها، وبذلك أسهموا في نشر المذهب المالكي وخدمته، ولعل أعمال أحمد بابا التنبكتي في المذهب المالكي من أبرز ما يمثل مساهمة علماء السودان في خدمة المذهب المالكي وفقهه، حيث وضع شروحا وحواشي وتعاليق على مختصر خليل وألف كتابين مفيدين في التعريف بعلماء المذهب المالكي، وظل يدافع عن المذهب بلسانه وقلمه إلى أن فارق الحياة. ومن أهم كتبه التي نالت إعجاب المغاربة:

  • كتابه “منن الرب الجليل ببيان مبهمات خليل” الذي قال عنه: “… وقد يسر الله تعالى لي في وضع شرح عليه (أي مختصر خليل) جمعت فيه لباب كلام من وقفت عليه من شراحه وهم أزيد من عشرة مع الاختصار والاعتناء بتقرير ألفاظه، منطوقا ومفهوما وتنزيله على النقول، بحيث لو كمل لما احتيج غالبا إلى غيره “…[40].
  • وكتاباه في تراجم الرجال: نيل الابتهاج بتطريز الديباج، وكفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج.

وإليكم بعض تآليف علماء السودان الغربي التي أسهموا بها في خدمة المذهب المالكي:

 * الشروح والحواسي:

  • حاشية على المختصر لأحمد بن عمر الصنهاجي[41]،
  • شرح مختصر خليل: محمد بن عمر السوداني، مخطوط في الخزانة الملكية بالرباط- المغرب،
  • فتح الرب اللطيف في تخريج بعض ما في المختصر من الضعيف: القاضي طالبن بن الوافي بن طالبن الأرواني، وهو مخطوط،
  • سراج العوام في علم الفرائض لرسالة ابن أبي زيد القيرواني، لأحمد بن أحمد بن أبي بكر الماسني: مخطوط،
  • الفتح الرباني في أمثلة فرائض القيرواني، للقاضي محمد المولود بن عثمان الجناوي، وهو مخطوط،
  • تحفة الزائر في حل ألفاظ ابن عاشر لمحمد أكنن بن محمد البشير السوقي.مخطوط،
  • إيضاح السبيل على توضيح ألفاظ خليل، للإمام محمود السوداني، وهذا المؤلف مخطوط،
  • نبراس الهداية في دين الحنفية، لأبي بكر المختار الزنجوي الكابري، مخطوط،

* التعليقات والرسائل الفقهية

  • إرشاد الواقف لمعنى: “وخصصت نية الحالف”، لأحمد بابا التنبكتي،
  • إفهام السامع بمعنى قول خليل في النكاح بالمنافع، أو النكت اللوامع في مسألة النكاح بالمنافع، لأحمد بابا التنبكتي،
  • أنفس الأعلاق بفتح الاستغلاق من فهم كلام خليل في درك الصداق، لأحمد بابا التنبكتي،
  • الزند الوري في مسألة تخيير المشتري، أو تعليق على قول خليل في أواخر الخيار: “وخيّر المشتري”، لأحمد بابا التنبكتي،
  • فتح الرزاق في مسألة الشك في الطلاق، لأحمد بابا التنبكتي،

سابعا- الرحلات العلمية

ومن الوسائل التي استطاع بها علماء السودان الغربي أن يساهموا في خدمة المذهب المالكي الرحلات العلمية بين السودان الغربي والدول المغاربية، حيث إن كثيرا من علماء المغرب العربي زاروا السودان الغربي ودرَسوا الفقه المالكي فيها، الأمر الذي أسهم في نشر المذهب وخدمته وترسيخه في المنطقة.

فهذا منسا موسى سلطان أمبراطورية مالي العظيم بعد رحلته الشهيرة إلى الحج استقدم عدداً كبيرًاً من العلماء ولاسيما من مصر والمغرب والأندلس لتنشيط الحركة الفقهية في السودان فامتلأت بلاده بالعلماء من السود والبيض [42].

وهذا منسا سليمان اقتفى أثر أسلافه؛ إذ “بنى المساجد والجوامع والمآذن وأقام بها الجمع والجماعات والأذان وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه”…[43].

كما أن فقهاء السودان رحلوا إلى المغرب ودرسوا هناك ثم رجعوا إلى أوطانهم لأداء ما تحملوه فقاموا بتدريس الفقه المالكي في المساجد والقصور والمجالس، الأمر الذي أسهم في خدمة المذهب المالكي ونشره في المنطقة.

ومن الرحلات العلمية التي تركت بصمات واضحة على خدمة المذهب المالكي ونشره بالسودان الغربي زيارة الإمام المغيلي للسودان[44]، ورحلة أحمد بابا التنبكتي إلى مراكش حيث يقول: “… ولما خرجنا من المحنة طلبوا مني الإقراء فجلست بعد الإباية بجامع الشرفاء بمراكش من أنوه جوامعها، أقرئ مختصر خليل قراءة بحث وتدقيق ونقل وتوجيه، وكذا تسهيل ابن مالك وألفية العراقي، فختمت علي نحو عشر مرات، وتحفة الحكام لابن عاصم، وجمع الجوامع للسبكي، وحكم ابن عطاء الله، والجامع الصغير للجلال السيوطي قراءة تفهم مرارا، والصحيحين سماعا علي وإسماعا مرارا ومختصرهما، وكذا الشفا والموطأ والمعجزات الكبرى للسيوطي، وشمائل الترمذي والاكتفاء لأبي الربيع الكلاعي وغيرها. وازدحم عليّ الخلق وأعيان طلبتها ولازموني، بل قرأ عليّ قضاتها كقاضي الجماعة بفاس العلامة أبي القاسم بن أبي النعيم الغساني وهو كبير ينيف على الستين وكذا قاضي مكناسة… ومفتي مراكش الرجراجي وغيرهم، وأفتيت فيها لفظا وكتبا بحيث لا توجه فيها الفتوى غالبا إلا إلي، وعينت لها مرارا فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني، واشتهر اسمي في البلاد من سوس الأقصى إلى بجاية والجزائر وغيرها، وقد قال لي بعض طلبة الجزائر وقد قدم علينا مراكش: لا نسمع في بلادنا إلا باسمك فقط “…[45].

وصفوة القول في هذا المبحث أن العلماء الأفارقة لهم دور بارز في خدمة المذهب المالكي ونشره وترسيخه في السودان الغربي عن طريق التدريس والإفتاء، والقضاء والإمامة، والخطابة والتأليف، والرحلات العلمية، حملوا رايته وانتصروا له بكل ما لديهم من قوة فكرية وجاه إلى أن توطدت أركانه في السودان الغربي، وتشبع المجتمع بتعاليمه حتى أصبح جزءا من حياتهم لا يبغون عنه بديلا.

خاتمة

بعد هذه الجولة السريعة مع دور علماء السودان الغربي في خدمة المذهب المالكي ونشره يمكن أن نستنتج ما يلي:

  • – أن المذهب المالكي منذ أن وصل إلى السودان الغربي لم يزل نجمه يتألق في سماء السودان، بلغ أوجه في القرن العاشر والحادي عشر الهجريين، وظل المذهب الوحيد الذي ارتضاه المجتمع في السودان.
  • – أن اختيار المجتمع السوداني المذهب المالكي رعايا وحكاما يرجع إلى أنه وجد في مبادئه وقواعده ما يشبع رغبته، ولا غرو في ذلك؛ لأن المذهب المالكي مذهب عملي يعتد بالواقع ويأخذ بالأعراف والعادات.
  • – أن المذهب المالكي انتصر له المجتمع السوداني ملوكا وحكومة وشعبا.
  • – أن التشبث بالمذهب المالكي أدى إلى الاهتمام بالفقه المالكي وازدهاره، حتى أصبح المرجع الوحيد في الفتوى والقضاء، الأمر الذي أسهم في نشره وترسيخه.
  • – أن الاهتمام بالمذهب المالكي وفقهه أدى إلى ترسيخ الثقافة الإسلامية في السودان الغربي، ووطد العلاقة العلمية والأخوية بين علماء السودان والمغرب من خلال الرحلات العلمية التي يقوم بها الطلبة والعلماء.
  • – أن علماء السودان لهم دور كبير في توطيد أركان المذهب المالكي وخدمته ونشره في السودان الغربي من خلال الاقتصار على الكتب المالكية في التدريس والإفتاء والقضاء والإمامة والخطابة والتأليف…

وفي نهاية هذا البحث نرى أن نقترح بعض الأفكار التي تسهم في خدمة الثوابت الدينية المشتركة، وهي:

  • الاهتمام بالفقه المالكي؛ لأنه يمثل عامل الوحدة بين الشعوب الإسلامية في الغرب الإسلامي.
  • استثمار مميزات هذا المذهب الفقهي الذي يجمع بين مسلمي الغرب الإسلامي وغيره؛ لتوطيد الروابط والعلاقات التاريخية والدينية والثقافية التي كانت تجمع بين مجتمع شمال إفريقيا وغربه.
  • الاهتمام بتدريس الفقه المالكي في الجامعات والمعاهد والحلقات العلمية، وصياغته في أسلوب ميسر حتى يسهل فهمه.
  • إنشاء مراكز علمية، وإحياء التعاون المشترك بين دول الغرب الإسلامي؛ لخدمة المذهب المالكي وفقهه.

هذا ما تيسر جمعه فما كان صوابا فمن الله وما كان خطأ فمني ومن الشيطان والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

الهوامش

[1] -ترتيب المدارك للقاضي عياض، ج1 ص:65.

[2] – مقدمة ابن خلدون، ص:356.

[3] -الحكم المستنصر: هو الخليفة الذي حكم الأندلس من سنة 350هـ إلى سنة 366هـ. ويعد هذا الخليفة أعظم خلفاء الأندلس علما وأدبا، ويعتبر كذلك رائد النهضة العلمية في الأندلس. وصفه المؤرخون بالاطلاع الغزير، والنظرة العميقة الفاحصة لما يقرؤه من كتب العلم. (يراجع: الحياة العلمية في عصر الخلافة في الأندلس، د. سعد عبد الله صالح، ص:72 –78 ).

[4] -ترتيب المدارك للقاضي عياض، ج1 ص:22.

[5] -نفسه، ج1 ص:77.

[6] -سنن الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في عالم المدينة.

[7] -يراجع: ترتيب المدارك، ج1 ص:774. الشيخ محمد المكي الناصري، المذهب المالكي مذهب المغاربة المفضل، ندوة الإمام مالك عام 1400هـ/1980م، ج1 ص:67 – 87.

[8] -مقدمة ابن خلدون، ص:356.

[9] -مجموع فتاوى ابن تيمية، مج 20، ص:294.

[10] -نفس المرجع، ص:328.

[11] -العلاقة بين دولة مالي وبين المغرب الأقصى من خلال المذهب المالكي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا بدار الحديث الحسنية، أعدها الطالب ماما هاسي تنابو، وأشرف عليها الدكتور عمر الجيدي، ص:211.

[12] -مسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعمري، ص:59 – 60.

[13] -صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق» / صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.

[14] -جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، باب تفضيل العلم على العبادة، ج1 ص:22.

[15] -يراجع: مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، ص:53 – 60.

[16] -يراجع: مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، ص:61.

[17] — يراجع: مباحث في المذهب المالكي، ص:78 و97.

[18] – يراجع: حركة التجارة والإسلام، ص:674 – 676.

[19] -يراجع: حركة التجارة والإسلام، ص:78.

[20] -نفسه، ص:98.

[21] -لمزيد من المعلومات يراجع: نيل الابتهاج من:88، 89، 95، 341، 342 / تاريخ السودان للسعدي، ص:37 – 47 / فتح الشكور، ص:11 وما بعدها / حركة التجارة والإسلام، ص:667-693 / الحركة العلمية والثقافية والإصلاحية في السودان الغربي، ص:232 – 235.

[22] -المجموع للنووي، ج1، ص:40.

[23] -أدب المفتي والمستفتي ابن الصلاح، ج1، ص:7.

[24] -سورة النساء، الآية:176.

[25] -إعلام الموقعين ج:1، ص:11، والموافقات، ص:178 وما بعدها.

[26] -مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، ص:128.

[27] -المنخول للغزالي، ص:463.

[28] -ـيراجع: مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، ص:128، وأصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، د. محمد رياض، ص:248.

[29] -انظر الكتب المعتمدة في الحلقات العلمية في السودان الغربي في النقطة السابقة.

[30] — سورة ص، الآية:26.

[31] -الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج8، ص:348.

[32] – سورة النساء، الآية105.

[33] -صحيح البخاري، ج6، ص:2676، حديث رقم:6919، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/ صحيح مسلم، ج5، ص:131، حديث رقم:4584، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، كتاب الأقضية.

[34] -يراجع الفقه الإسلامي وأدلته، ج8، ص:349.

[35] -نيل الابتهاج، ص:607.

[36] -ومن أراد أن يقف على أسماء بعض العلماء الذين تولوا هذا المنصب في مختلف العصور بالسودان الغربي فليرجع إلى السعدي الذي خصص أبوابا في كتابه “تاريخ السودان” لأئمة تنبكت وجنى منذ عهد الماليين إلى عهد الباشوات، وصاحب تذكرة النسيان الذي خصص فصولا للقضاة والأئمة في عهد الباشاوات، وبابير الأرواني الذي خصص فصولا لبعض أئمة وقضاة السودان. يراجع كتابنا: الحركة الفقهية ورجالها في السودان الغربي، ص:221 – 222.

[37] -الخطابة: أصولها، تاريخها في أزهى عصورها عند العرب: أبو زهرة، ص:19، طبعة دار الفكر العربي. ولسان العرب حرف الباء فصل الخاء. ج1، ص:361.

[38] يراجع: الخطابة أصولها، تاريخها في أزهى عصورها عند العرب، ص:21.

[39] -يراجع: الحركة الفقهية ورجالها في السودان الغربي، ص:223 – 225.

[40] نيل الابتهاج، ص:171 – 172.

[41] مخطوط في الخزانة الملكية بالمملكة المغربية، تحت رقم:11236.

[42] -يراجع: دولة مالي الإسلامية، إبراهيم طرحان، ص:147 – 151، والحركة العلمية والثقافية والإصلاحية في السودان الغربي، أبو بكر إسماعيل، ص:37.

[43] -مسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعمري، ص:59 – 60، وصبحي الأعشى للقلقشندي، ج5، ص:297، وتاريخ السودان للسعدي، ص:57. والحركة العلمية والإصلاحية في السودان الغربي للدكتور أبي بكر إسماعيل، ص:83 – 84.

[44] – يراجع الحركة العلمية والإصلاحية في السودان الغربي لأبي بكر إسماعيل ميقا، ص:101 وما بعدها.

[45] -كفاية المحتاج، ص: 462 – 463. وفتح الشكور، ص: 34 – 35.

المصادر والمراجع

  1. القرآن الكريم.
  2. أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى: 1986م، دار المعرفة، بيروت.
  3. إزالة الريب والشك والتفريط في ذكر المؤلفين من أهل التكرور والصحراء وأهل شنقيط، لأحمد بلعراق التكني، دراسة وتحقيق وتقديم د. الهادي المبروك الدالي، الطبعة الأولى 2001م، الشركة العامة للورق والطباعة، مطابع الوحدة العربية، الرواية.
  4. الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، لأحمد بن خالد الناصري، دار الكتاب 1955م، الدار البيضاء.
  5. أشهى العلوم وأطيب الخبر في سيرة الحاج عمر الشيخ موسى كمرا، تحقيق وتقديم وتعليق خديم محمد سعيد امباكي وأحمد الشكري، الطبعة الأولى 2001م، منشورات معهد الدراسات الإفريقية بالرباط، المغرب.
  6. أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، لمحمد رياض، الطبعة الأولى 1996م، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء.
  7. إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية، رتبه وضبطه وخرج أحاديثه محمد عبد السلام إبراهيم، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1417هـ/1996م.
  8. إفريقيات، نقولا زيادة، الطبعة الأولى 1991م، رياض الرايس، للكتب والنشر، لندن.
  9. ترتيب المدارك، للقاضي عياض، تحقيق وتعليق محمد بن تاويت الطنجي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1965م، الرباط.
  10. جامع بيان العلم وفضله، لأبي عمر يوسف ابن عبد البر النمري، طبعة دار الكتب العلمية، 1398هـ، بيروت.
  11. الجوهر الثمين في أخبار صحراء الملثمين ومن يجاورهم من السوادين، للشيخ العتيق ابن الشيخ سعد الدين، مخطوط في مكتبة خاصة.
  12. حركة التجارة والإسلام، والتعليم الإسلامي في غرب إفريقيا قبل الاستعمار وآثارها الحضارية، د. مهدي رزق الله أحمد الطبعة الأولى 1419هـ /1998م، مطبعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
  13. الحركة العلمية والثقافية والإصلاحية في السودان الغربي من 1100 – 1400 هجرية، للأستاذ الدكتور أبوبكر إسماعيل ميقا، الطبعة الأولى 1417ه/1997م مكتبة التوبة الرياض- السعودية.
  14. الحركة الفقهية ورجالها في السودان الغربي من القرن الثامن إلى القرن الثالث الهجري، للدكتور عبد الرحمن محمد ميغا، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1432 هـ / 2011م.
  15. الحياة العلمية في عصر الخلافة في الأندلس، د. سعد عبد الله صالح، منشورات معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، 1415هـ.
  16. دولة مالي الإسلامية، د. إبراهيم علي طرحان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973م.
  17. سنن الترمذي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية.
  18. صبح الأعشى للقلقشندي، طبعة 1331هـ /1913م، المطبعة الأميرية، القاهرة.
  19. صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، الطبعة الثالثة،1407هـ/1987م.
  20. صحيح مسلم، طبعة دار الجيل بيروت، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (نسخة المكتبة الشاملة).
  21. العلاقة بين دولة مالي وبين المغرب الأقصى من خلال المذهب المالكي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا بدار الحديث الحسنية، أعدها الطالب: ماما هاسي تنابو، وأشرف عليها الدكتور عمر الجيدي.
  22. فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور، للبرتلي، تحقيق محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي، الطبعة الأولى 1981م، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
  23. الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، الطَّبعة الرَّابعة.
  24. كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج، لأحمد بابا التنبكتي، دراسة وتحقيق الأستاذ محمد مطيع، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، 1421هـ /2000م.
  25. كنتة الشرقيون: بول مارتي، عربه وعلق عليه ووضع له ملحقات محمد محمود ولد ودادي، طبعة 1985م، مطبعة زيد بن ثابت – دمشق.
  26. مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، للدكتور عمر الجيدي، الطبعة الأولى، 1993م، مطبعة المعارف الجديدة- الرباط.
  27. المجموع شرح المهذب، للحافظ أبي زكرياء محي الدين النووي. شركة العلماء.
  28. مجموع فتاوى ابن تيمية، جمع وترتيب المرحوم عبد الرحمن بن محمد قاسم، طبعة المكتب التعليمي السعودي بالمغرب.
  29. مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، لأحمد بنيحي بن فضل الله العمري، تحقيقوتعليق: د. مصطفى أبو ضيف أحمد، الطبعة الأولى: 1409هـ/1998م، توزيع سوشبريس.
  30. مسند الإمام أحمد، حققه وضبطه جماعة من العلماء، الطبعة الأولى، 1419هـ/1998م، عالم الكتب، بيروت، لبنان.
  31. مقدمة ابن خلدون، الطبعة الأولى، 1993م، دار الكتب العلمية، بيروت.
  32. المنخول من تعليقات الأصول، للإمام أبي حامد الغزالي. حققه وخرج نصه وعلق عليه: د محمد حسن هيتو. الطبعة الثانية 1400هـ/1980م. دار الفكر، دمشق.
  33. الموافقات، للإمام الشاطبي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
  34. ندوة الإمام مالك عام 1400هـ/1980م، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب.
  35. نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني عشر: محمد بن الطيب القادري، تحقيق: محمد حجي وأحمد التوفيق. دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر. طبعة 1398هـ/1978م
  36. نيل الابتهاج بتطريز الديباج، لأحمد بابا التنبكتي، إشراف وتقديم: الدكتور عبد الحميد الهرامة، الطبعة الأولى، 1989م، منشورات كلية الدعوة الإسلامية – طرابلس.

تحميل المقال بصيغة PDF