مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

فاس/ القرويين: أثينة إفريقيا ومهد العقيدة الأشعرية

الأستاذ عبد الحي عمور
رئيس المجلس العلمي المحلي لمدينة فاس- المملكة المغربية

تعد مدينة فاس/القرويين بحق أول عاصمة حضارية إسلامية عرفها المغرب العربي الكبير–بعد القيروان التي انطلقت منها حملات الفتح الإسلامي نحو إفريقيا وإسبانيا- كتحفة معمارية شرقية غربية، تواكبت فيها الأصالة العربية مع الأصالة الأمازيغية في ظل الإسلام وريادة الفاتح الأكبر المولى إدريس مؤسس المملكة الإدريسية الذي سيؤسس مدينة فاس بين سنتي 172 و174هـ.

ومع مرور السنين تساوقت عوامل سياسية وثقافية ومذهبية، فأضفت على حاضرة فاس طابعا خاصا تبلورت مجاليه ومعالمه في معطيات جعلت منها منطلقا للفكر لا في إفريقيا وحدها بل في دار الإسلام إلى ما وراء جبال (البرانس) شمالي الأندلس[1].

كل هذه المزايا الفكرية والدينية والحضارية جعلت المؤرخين يقولون عن فاس:

«إنها غربال العلم» وأنها «أثينة إفريقيا» تشبيها لها بعاصمة الفكر اليوناني. و «إن العلم ينبع من صدور أهلها كما ينبع الماء من حيطانها» وقيل عنها أيضا: «ولد العلم بالمدينة وربي بمكة وطحن بمصر وغربل بفاس.»

وهذه المكانة العليا التي احتلتها مدينة فاس يرجع الفضل في الكثير منها إلى جامعة القرويين التي امتازت منذ تأسيسها عام 245هـ/859م بأدوارها الدينية والاجتماعية والعمرانية وإشعاعها العلمي منذ العصر الإدريسي، واشتهارها بغزارة علمها واتساع نشاطها العلمي ليشمل العلوم الشرعية والعلوم الكونية والعقلية، وما كانت تمتاز به هيأة علمائها المدرسين فيها من عمق علمي وقدرة على البحث وموسوعية ومشاركة،

هيأتهم ليكونوا أعلاما وقيادات فكرية في المغرب كله، في نكران ذات وإخلاص للدين والعلم والأمة، مما جعلهم موضع تقدير وتبجيل من القيادات السياسية التي حكمت المغرب والخاصة والعامة من الناس احتراما لمكانتهم وإعلاء من شأنهم: نخبة فكرية في البلاد.

فاس ملتقى المذاهب الفقهية

وأمست فاس/القرويين بهذا الحضور العلمي والفكري ملتقى لشتى المذاهب الفقهية السنية حيث عرفت مذهبي الأوزاعي وأبي حنيفة قبل أن يستقر فيها مذهب إمام دار الهجرة، وكان الأوزاعي إمام أهل زمانه-كما يقول مالك- قد انتشر مذهبه في الشام نحو مائتي سنة[2] وكذلك في الأندلس قبل الأمويين[3]، وظهرت النظريات الحنفية بإفريقية وفاس إلى القرن الرابع، وكذلك الفقه الشافعي على يد أبي جيدة الفاسي المتوفى حوالي 360هـ[4]، ولكن المذهب المالكي تركز وحده نظرا لمساندة الأدارسة الذين لم ينسوا لمالك معاضدته بيعة العلويين في الشرق، مما حدا بالمولى إدريس الأول إلى إسناد القضاء لأحد تلامذة مالك وسفيان الثوري وهو محمد بن سعيد القيسي[5]. وواصل المرابطون والموحدون دعم الرباط الوثيق بين حضارتي إفريقيا والأندلس والشرق، فوسع الأولون جامعة القرويين، وعزز الآخرون (العقيدة الأشعرية) التي اتسعت شبكتها لتعم جزءا كبيرا من القارة.

سيادة العقيدة الأشعرية

اتسمت مناهج التعليم والتدريس بجامعة القرويين كمركز للعلم الإسلامي بالشمولية والتكامل، فكانت في عصورها الذهبية تدرس العلوم الشرعية والعلوم العقلية وعلوم الحياة والعلوم الطبيعية من فلك ورياضيات وطب وهندسة… مما جعل طلابها وخريجيها يحملون ثقافة متجانسة متناسقة، هيأتهم ليكونوا علماء مشاركين ذوي ثقافة موسوعية، وكان التركيز في دراسة المذاهب الفقهية على المذهب المالكي باعتباره المذهب الاجتماعي السائد في المغرب، كما كانت علوم العقائد تدرس أيضا مع التركيز على المذهب الأشعري الذي ساد وانتشر في المغرب وإفريقيا، وعم أهل السنة والجماعة، بعد تجاوز تلك الخلافات التي نشبت بين الفرق الكلامية غداة الاتصال بالتيارات الفكرية والمذاهب العقدية الأخرى، عقب الفتوحات الإسلامية لكثير من الأمصار والبلدان التي كانت لها ديانات قديمة، وكذا استعمال العقل المسلم في المغيبات والعالم الآخر مما لا قدرة له على الخوض فيه ونزوعه إلى بحث قضايا فلسفية ومناقشات كلامية، والتأثر بالمذاهب الفكرية الوليدة، في خضم الصراعات المذهبية، كل ذلك جعل حملة العقيدة الإسلامية يتوزعون فرقا كلامية، لكل فرقة اختياراتها واتجاهاتها، تختلف قليلا أو كثيرا عن الأخرى، فكانت عقيدة المحدثين وعقيدة المعتزلة وعقيدة الأشاعرة وأخرى للماتريدية…

وكان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة من أشد الخلافات التي نشبت بين الفرق الكلامية والعقائد المذهبية التي تولدت عنها، وخاصة في حقيقة الإيمان:

أهو تصديق فقط أم تصديق وعمل؟ وهل صفات الله تعالى ثابتة ذاتية، أو زائدة عن الذات؟ وهل الإنسان مخير أو مسير؟

وكذا رؤية الله تعالى في الآخرة وحكم مرتكب الكبيرة…إلى غير ذلك من المسائل الخلافية التي كانت مثار خلاف بين الفرقتين بخاصة. والتي جعلت أبا الحسن الأشعري المتوفى سنة (260هـ/874م) يرقى كرسيا في المسجد الجامع في البصرة وينادي بأعلى صوته: «من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وإن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع عن ذلك، معتقد الرد على المعتزلة»[6].

وبهذا أصبح في العالم الإسلامي مذهب كلامي جديد اسمه المذهب الأشعري، وهو في الحقيقة اسم جديد لمذهب أهل السنة والجماعة، أما الجديد في هذا المذهب فهو أنه استخدم أدلة خصومه المعتزلة لينقض بها أراءهم وحججهم»[7].

والذي يتأمل ما جاء به الأشعري وما بنى عليه الأشاعرة مذهبهم في العقيدة هو الآيات القرآنية المحكمة التي تؤيد اختياراتهم، وكذا السنة النبوية الصحيحة، فهم في قولهم إن جميع الخير والشر بتقدير الله وإيجاده وليس للعبد فيه إلا الكسب، يستدلون بقوله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء»[8]، وهكذا في أن الله هو خالق الأسباب ومسبباتها»…إلخ.

وهذه العقيدة بما اشتملت عليه من تعاليم وقيم، ونأت به من خلافات ونزاعات، جعلها أقرب من غيرها إلى الفطرة، فكانت أقرب إلى النفوس والقلوب، فجمعت بين غالبية المسلمين في أغلب الأوطان والبلدان- على اختلاف عروقهم وأجناسهم وألوانهم ولغاتهم، وأذابت بينهم الفوارق، وجمعتهم على كلمة سواء حيث لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، فهي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق، خاصة والإنسان في هذه الدنيا لا يمكن أن يعيش بدون عقيدة تبين له الخير والشر والمصلحة من المفسدة، وشريعة ربانية تبين له الطريق المستقيم والمنهج القويم الذي عليه أن يسلكه في دينه ودنياه، إنها العقيدة في نقائها وصفائها هذبت السلوك وزكت النفوس وكانت مصدر العواطف والمشاعر الطيبة والقيم العليا، فانتشر التسامح بين معتنقيها والتعايش بين أهلها فساد بينهم الأمن زمنا والتسامح أحقابا، وعمت هذه القيمة حياة الناس من مختلف الطوائف والرسالات، فساد بينهم التسامح الديني واحترام عقائد الناس، وتقبلهم والتعايش معهم على أنهم إخوة في الإنسانية، من منطلق أن الإسلام وعقيدته السمحة تعترف بشرعيتهم عملا بقوله تعالى: «لا إكراه في الدين»[9]، وفي السلوك النبوي ما يعلم الناس التسامح الذي جاءت به مختلف الرسالات السماوية والثقافات الإنسانية قيمة تتيح الحياة في أجواء من المحبة والتعاون والإخاء.

كما أن هذه العقيدة كان لها فضل في إشاعة روح السلام بين الناس ومختلف الأجناس والطوائف باعتبارها قيمة إسلامية استفاضت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الدعوة إليها والحث عليها، يقول تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة»[10]، أي ادخلوا في الإسلام جميعا، والسلام من أسماء الله الحسنى، وتحية المسلمين حين يلقى بعضهم بعضا: «السلام عليكم» وتحية أهل الجنة: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ»[11]، ويقول الرسول: صلى الله عليه وسلم «افشوا السلام تسلموا»[12].

الهوامش

[1] – عبد العزيز بنعبد الله- فاس منبع الإشعاع. الجزء الأول ص:22 / 23

[2] – خطط الشام لمحمد كرد علي.

[3] – مدارك عياض، ج1، ص66.

[4] – السلوة ج3، ص93.

[5] – الجذوة، ص 13.

[6] – رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب ص 37.

[7] – عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص: 331–دار العلم للملايين-بيروت- 1966م.

[8] – سورة إبراهيم: الآية 4.

[9] – سورة البقرة: الآية 255.

[10] – سورة البقرة: الآية 208.

[11] – سورة الزمر: الآية 71.

[12] – الأدب المفرد، باب إفشاء السلام.

تحميل المقال بصيغة PDF