مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكرى ميلاده المبارك: الشمائل المحمدية في التراث الإفريقي

الدكتور أبو بكر دكوري
رئيس فرع مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بجمهورية بوركينا فاسو

المقدمة

إن لهذا الشهر، شهر ربيع الأول ذكريات طيبة لجميع المسلمين، إذ فيه ولد نبيهم محمد بن عبد الله، خير خلق الله، لذلك يحتفل المسلمون بهذه المناسبة لإكرام من أكرمه الله بجعل رسالته عامة لجميع البشر، وليست إلى قوم معينين أو إقليم خاص، كما قال تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ [سورة الأنبياء، الآية: 107]. وقال أيضا: ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا﴾ [سورة الأعراف، الآية: 158]. ولا يخفى عليكم أن هذه المسؤولية كبيرة، لذلك هيأه الله ليتمكن من أداء هذه الرسالة؛ هيأه أولا بشرح صدره بالهدى والإيمان ومعرفة الحق، ولين له قلبه ليكون وعاء للحكمة، قال تعالى: ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾ [سورة البقرة، الآية: 269]. وهيأه كذلك برفع ذكره وإكرامه في الدنيا والآخرة، فلا يذكر اسم الله إلا وذكر اسم رسوله، وجعل الله حبه وتكريمه وطاعته من الإيمان به تعالى، وجعل أكثر من مليار ونصف مسلم في العالم يذكر اسمه ويصلي عليه مرات كثيرة في اليوم الواحد، وحتى ليخيل إلى المرء أنه يعيش بيننا على الرغم من أنه فارق الدنيا منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وكم من واحد في هذا العالم يحمل اسم محمد، فهل نجد في تاريخ البشر من وجد هذا الفضل وهذا التكريم؟ ولا يقتصر تكريمه على أتباعه المسلمين فقط، بل من كثير من غير المسلمين، إذ رأينا من ملوك زمانه من صدقه وآمن به مثل ملك الحبشة، ورأينا منهم من أثنى عليه وأرسل إليه هدايا ثمينة مثل ملك مصر، مما يدل على علو منزلته عندهم، وكثير من عظماء هذا العصر وعلماء الغرب من الكتاب والشعراء أثنوا عليه في كتاباتهم وفي أشعارهم، وكثير من البرلمانات والمنظمات الدولية اعتبروا محمدا صلى الله عليه وسلم من عظماء هذا العالم، ولم يعتبر العقلاء والمنصفون عدم احترامه إساءة إلى المسلمين فقط، بل جريمة في حق الإنسانية.

إذن، فلا يستغرب أن يهتم المسلمون بسيرته العطرة، ويُعَرفوا الناس بشمائله المختلفة، أي كل الصفات الجميلة والخصال الحميدة التي عرف بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكل ما يتعلق بذاته الشريفة وأحواله الظاهرة والباطنة، ومن أفضل ما كتب في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الشمائل المحمدية للإمام الترمذي، صاحب السنن رحمه الله تعالى، وذلك للتًعريف به، لأن الله تعالى جعله قدوة لأمته وأسوة لجميع المؤمنين، كما قال تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾ [سورة الأحزاب، الآية: 21]. وقد بذل الترمذي في هذا الكتاب جهدا كبيرا في ذكر كل ما كان يتًصف به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات الخَلقية والخُلقية موثقة بالأدلة الصحيحة، مما يدل على سعة علمه وكثرة حفظه للأحاديث والأخبار المروية عن الصحابة والرعيل الأول من السلف الصالح، وقد اهتم العلماء بهذا الكتاب، فمنهم من شرحه، ومنهم من لخصه، ومنهم من نقحه أو ترجمه، وعلماء آخرون كتبوا في موضوعه مثل ابن كثير، والسيوطي، والقاضي عياض.

المبحث الأول: أهمية دراسة الشمائل المحمدية وفائدة معرفتها

إن أهم هذه الفوائد التأكد من أنه صلى الله عليه وسلم رسول الله حقا وصدقا؛ لأن كل ما يتمتع به من أخلاق عالية وصفات حميدة تدل على نبوته؛ إذ لا يصل إلى هذه الدرجة من الاستقامة والسمو الخلقي إلا من خصه الله برعاية خاصة، وتربية روحية، وتزكية نفسية، وعصمة دائمة له عن الشرك بالله وعن كبائر الذنوب، وعن كل ما يخل بالمروءة، ليتميز بكل ذلك عن بقية البشر؛ إذ لا يحظى بهذا الفضل إلا من أعده الله لرتبة النبوة. وأيضا، فإن معرفة هذه الشمائل سبب من أسباب محبته صلى الله عليه وسلم، وهي واجبة على كل مسلم ومسلمة لقوله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما”، إلى آخر الحديث الذي رواه البخاري، ولا شك أن حب الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لتعظيمه وتوقيره، وهو واجب ديني.

قال تعالى: ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه﴾ [سورة الفتح، الآية: 9]. وقال أيضا: ﴿فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾ [سورة الأعراف، الآية:157]. ولا خلاف أن التعزير هاهنا هو التعظيم. وقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة فيها دليل واضح على وجوب تعظيمه صلى الله عليه وسلم، منها قوله تعالى: ﴿ولا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا﴾ [سورة النور، الآية: 63]. نقل شيخ المفسرين الطبري في معرض شرحه لهذه الآية عن مجاهد قوله: أمرهم أن يدعوه “يا رسول الله “في لين وتواضع، ولا يقولوا: يا محمد في تجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يفخموه ويشرفوه. وقال علماء آخرون: خص الله نبيه في هذه الآية بالمخاطبة بما يليق به، فنهى أن يقولوا: يا محمد، أو يا أحمد، أو يا أبا قاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله. وكيف لا يخاطبونه بذلك، والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه، بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول: ﴿يا أيها النبي﴾، ﴿يا أيها الرسول﴾، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا في القرآن، منها:

قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا﴾ [سورة الأحزاب، الآية:45]. وقوله: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك﴾ [سورة المائدة، الآية: 67]. ولم يصرح باسمه قط في مخاطبته، فقط في الإخبار عنه، مثل:﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم﴾ [سورة الأحزاب، الآية: 48]. وقوله:﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل﴾ [سورة آل عمران،الآية: 144]، بخلاف غيره من الأنبياء، فكان يدعوهم بأسمائهم: ﴿وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة﴾ [سورة البقرة، الآية: 35]. ﴿يا نوح إنه ليس من أهلك﴾ [سورة هود، الآية: 46]. وقال: ﴿يا موسى إني اصطفيتك على الناس﴾ [سورة الأعراف، الآية: 144]. وقال: ﴿يا إبراهيم أعرض عن هذا﴾ [سورة هود، الآية:76].

قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾ [سورة الحجرات، الآية: 2]، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: هذا أدب ثان أدَّب الله به المؤمنين، أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته. وبموجب هذه الأدلة نهى العلماء عن رفع الصوت عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغة في تعظيمه، لأن حرمته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته بإجماع المسلمين، إلا المحرومين من بركته.

ومعرفة شمائله سبب كذلك للزوم طاعته، لأن الله ألزمنا طاعته في أكثر من آية، فقال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول﴾ [سورة النساء، الآية: 59]. وقال تعالى: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ [سورة النساء الآية: 80]. بالإضافة إلى أنه تعالى قد وعد باتباعه الجنة، وتوعد على معصيته بالنار، فكان لزاما علينا أن نحبه، ونعظمه، ونطيعه، فإن كل ذلك حق له علينا نحن المؤمنين، لا يتم إيماننا إلا به. وأيضا فإن الله أخبرنا بأنه صلى الله عليه وسلم أسوتنا، فقال: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ [سورة الأحزاب، الآية: 21]. وكيف يكون أسوة لنا ونحن لا نعرف شمائله وأحواله. ومن المسلّم به أن الآيات السابقة وما كان على شاكلتها من الآيات إنما جاءت لتعليم المسلمين أفرادا وجماعات الأدب الكامل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإعلامهم بعلو منزلته، وعظيم شأنه عند الله سبحانه وتعالى.

المبحث الثاني: بعض الشمائل المحمدية وأثرها في التراث الإفريقي

طبيعي أن يكون للشمائل المحمدية أثر في التراث الإفريقي، إذ أول اتصال للرسول صلى الله عليه وسلم بالعالم الخارجي بعد البعثة النبوية كان بإفريقيا، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن جهر بدعوته في مكة وكثر عدد المسلمين ازداد حقد المشركين على المسلمين، واشتد عليهم أذاهم واضطهادهم لهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير قادر على حمايتهم ورفع الضرر عنهم، أذن لهم في الهجرة إلى أرض الحبشة قائلا لهم: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه [1]، ولا يعقل أن يرفضوا عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يفدونه بآبائهم وأمهاتهم، فخرجوا من مكة فرارا بدينهم وعقيدتهم متجهين إلى بلاد النجاسي، ملك الحبشة، وكان ذلك في شهر رجب سنة خمس من البعثة، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة والجهر بها، فلما وصلوا إليها وكانوا في حدود عشر رجال: منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة وزوجته، والزبير بن العوام، فأقاموا بالحبشة شهري شعبان ورمضان، ولم يتمكن وفد مشركي مكة من إرجاعهم إليها، على الرغم من هداياهم الثمينة ورشاويهم المغرية التي حملوها إلى الملك، فرفض قبولها فرجعوا إلى مكة خائبين صاغرين. وبقي المسلمون في حماية ملك الحبشة وضيافته الكريمة كما توقع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يعودوا إلى مكة إلا عندما بلغهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تصالح مع أهل مكة، فلم يعودوا يضطهدون المسلمين، وهذا الخبر ما كان صحيحا، وسبب هذه الشائعة الكاذبة قصة الغرانيق المشهورة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسَلم كان يقرأ حول الكعبة سورة النجم فلما وصل في قراءته إلى قوله تعالى: ﴿أفرَأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى﴾ [سورة النجم، الآية: 1920]. ألقى الشيطان في مسامع المشركين قوله: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. فتخيل للمشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قالها، وأنه بذلك قد امتدحها، فلما سجد صلى الله عليه وسلم في آخر السورة وهو من مواطن السجود الرسمية في القرآن سجد المشركون معه، ثم تفرق الناس، ولما علم الرسول أن سجود المشركين كان من أجل ما ألقى الشيطان في مسامعهم موهما إياهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي امتدح أصنامهم فحزن لذلك حزنا شديدا، وآلمه الخبر، فأنزل الله تعالى تسلية له وتخفيفا عنه قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم﴾ [سورة الحج، الآية: 52]. وكان المفروض ألا أذكر هذه القصة لكون كثير من العلماء الأثبات أنكروا صحتها وأكدوا أنها لم تثبت بسند صحيح، وأيضا فإن صحتها تتناقض مع ما ورد في القرآن من قوله تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾ [سورة النجم، الآية: 3]. ولكن ذكرتها لكون معظم كتب التفاسير والسير وإن لم نقل جميعها قد ذكرتها، إذ لا يلزم من إثبات صحتها لزوم ما ذكره المنكرون لها، من مناقضة الآية الكريمة أو العصمة النبوية، وإنما كان ذلك يلزم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي نطق بعبارة الغرانيق، وليس الأمر كذلك، وإنما نطق بها الشيطان اللعين، فنبه الله المسلمين على ذلك وأبطل عمل الشيطان وما ألقى من كلمات في قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول تعالى:

﴿فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور﴾ [سورة الشورى، الآية: 24]. وكيف، وقد قال في سياق الآية: ﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم﴾ [سورة الحج، الآية: 52]. وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا البيان وهذا الإبطال، وإخباره تعالى بأن هذا الأمر جرى على سنته تعالى في أنبيائه ورسله لحكمة بالغة يعلمها الله. وقد تبين للمهاجرين العائدين من الحبشة قبل دخولهم مكة أن ما سمعوه من إسلام أهل مكة ليس صحيحا، بل هم باقون على الشرك والكفر في مكة وازدادوا قسوة وتعذيبا للمسلمين، لذلك ما إن استقروا في مكة إلا وبدأوا يتعرضون لمختلف أنواع العذاب والاضطهاد – كما كانوا قبل هجرتهم وعودتهم – فقرروا العودة إلى الحبشة مرة ثانية؛ لأنها أرض أمان وسلام، وعاد معهم عدد كبير من الآل والأصحاب، بلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا، وهي الهجرة الثانية في الإسلام. وبتتبع التراث الإفريقي نجد أن كثيرا من القيادات الإسلامية هاجرت من مواطنها الأصلية، إما فرارا من أذى قومهم لهم بسبب دينهم أو لنشر الدعوة أو تنزها للإقامة بين المشركين ليؤسسوا لأنفسهم قرى جديدة غير قراهم الأصلية أو أحياء جديدة بجوار مدنهم، ويسمونها بأسماء إسلامية، مثل دار السلام، وحمد الله، ومدينة، إلخ.

لا يخفى أن الشمائل المحمدية كثيرة؛ لأنها تتناول كل جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصة والعامة، وكل صفاته الخِلقية والخُلقية التي عرف بها، بل وكل ما يتعلق بذاته الشريفة وأحواله الظاهرة والباطنة، وفي هذا المقال سنحاول أن نختار من هذه الشمائل بعض ما يتعلق بأسمائه ونسبه، وعلاقاته بربه، ومعاملاته مع الناس، وبعض صفاته لنرى كيف تأثر بهذه الشمائل المجتمعات الإفريقية فنقول:

أولا: فيما يتعلق بأسمائه

فلا يخفى أن لكل ذات اسما – أو أسماء – تعرف بها من بين سائر الذوات، وهذا مقرر في جميع الشرائع ومتعارف عليه لدى جميع المجتمعات البشرية، وفي كل الأزمنة والأمكنة، ويقدر شرف الذات وعلو منزلتها، لكثرة أسمائها وتعدد صفاتها، لذلك نجد أن لله تسعة وتسعين اسما ذكرت في القرآن متفرقة، وذكرت في كتب الحديث مجملة. وأما رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فإن له خمسة أسماء، وليس هذا لغيره من سائر إخوانه الأنبياء والمرسلين فضلا عمن دونهم، وقد وردت هذه الأسماء الخمسة في موطأ الإمام مالك – رضي الله عنه – وأشهرها محمد وأحمد[2].  وأما صفاته فهي كثيرة جدا يصعب حصرها، وقد كتب بعضها في الجدار القبلي للمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، تكريما وتخليدا لذكراه، وهو يستحق أن تكتب صفاته في صحائف من ذهب؛ لأنه أشرف خلق الله وإمام الأولين والآخرين. وبالرجوع إلى التراث الإفريقي القديم والحديث، نجد كثرة استعمال اسم محمد وأحمد وغيرهما من أسماء الرسول في المجتمعات الإفريقية، حتى أصبح شائعا في بعض هذه المجتمعات إطلاق اسم محمد على الابن الأول في الأسرة، فمن رأيته يسمى محمدا فهو الابن الأول لوالديه، وفي مجتمعات أخرى يسمي بعض الناس كل أبنائه الذكور بمحمد، ويفرق بينهم بمحمد أول، ومحمد ثان، ومحمد ثالث، إلخ. وبالرجوع إلى التراث الإفريقي أيضا نجد أن الشخص كان يعرف باسمه ولقبه فقط، دون نسبه، وبدراسة الشمائل المحمدية وتَبَيُّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينسب إلى أبيه وجده، أصبح ذلك عادة لدى بعض القبائل الإفريقية وخاصة في النيجر ونيجيريا والكمرون، فكثيرا ما يذكر الإنسان في هذه الدول باسمه واسم أبيه وتكاد تختفي الألقاب.

ثانيا: علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بربه

إن الله قد ذكر في القرآن الكريم أنه لم يخلق الإنس والجن إلا لعبادته، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس هذه الحقيقة، بل كان المثل الأعلى في خشية الله تعالى وكثرة عبادته، ولا يستغرب من ذلك لأن الله تعالى قال في محكم كتابه العزيز: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ [سورة فاطر، الآية: 28]. ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله، وفي ذلك يقول: “أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية”[3]، فدل على أن الخشية ثمرة العلم الصحيح، العلم بالله العلي القدير، العليم الحكيم، وبكل ما يقرره لذاته المقدسة من الأسماء وصفات الكمال، لذا فلا نجد أتقى ولا أكثر طاعة، ولا أرغب فيما عند الله، ولا أشد انقطاعا وتبتلا لله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مظاهر خشيته لله ما صح عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: “إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة”[4]، وما روي من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – إذ قال:

“كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قوله: ” رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة[5].  وكذلك ما حدث به عبد الله بن الشخير، حيث قال: “أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وبجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء”[6].  كل هذا من شدة خوفه لله. ومن مظاهر كثرة عبادته وطول تبتله إلى الله تعالى، الحديث الصحيح الذي رواه المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – أنه قال: قام رسول الله – أي في الصلاة – حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ” أفلا أكون عبدا شكورا”، وروى أبو داوود في سننه عن عوف بن مالك – رضي الله عنه – قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فاستاك، ثم توضأ، ثم قام يصلي، فقمت معه، فبدأ، فاستفتح البقرة، فلا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، ثم ركع فمكث بقدر قيامه، يقول: “سبحان ذي الجبروت والملك والملكوت والعظمة ثم سجد وقال في سجوده مثل ذلك”[7].  وورد في السنة أيضا، أنه كان يصوم كل يوم الاثنين والخميس، وأيام البيض – أي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، وكان يصوم شعبان كله، ويصله برمضان، كل هذا من مظاهر كثرة عبادته لله، وقد تأسى به الصالحون والزعماء الدينيون في إفريقيا في ذلك، سواء كانوا أئمة، أو دعاة، أو شيوخا للطرق، أو قضاة، حتى أصبح المجتمع الإفريقي لا يقبل منهم إلا الاستقامة وكثرة العبادة، فمن ارتكب منهم أية مخالفة دينية أو قام بما يخل بالمروءة فإنه قد يفقد منصبه الديني، وينسى الناس أن هؤلاء ليسوا معصومين، كالرسول صلى الله عليه وسلم، بل هم بشر، يصيبون ويخطئون، ولهم إيجابياتهم وسلبياتهم بفعل طبيعتهم البشرية.

ثالثا: علاقته صلى الله عليه وسلم بأهله وأسرته

وصف الله نبيه بقوله: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [سورة القلم، الآية: 40]. وطبيعي أن يحسن إلى أهله وأهل قرابته لأنهم أولى الناس بالإحسان وحسن المعاشرة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”[8]، ومن نظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واطلع على شمائله فإنه سيعجب كيف كان يعامل زوجاته ويعاشرهن في زمن كانت المرأة فيه تعتبر سلعة وأداة للمتعة الجنسية، لا قيمة لها ولا احترام، محرومة من كل حقوقها الأساسية من الإرث وحق التملك، حيث كان صلى الله عليه وسلم يشركها في اتخاذ القرارات المهمة في المجتمع، حتى في تلك المتعلقة بذاتها وشخصها، فورَّثها الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاها حرية الاختيار والتصرف في نكاحها، وفي أموالها، وشاورها في القضايا الخاصة والعامة، وأمر بالنظر إلى الجوانب الحسنة فيها، وهي كثيرة، والتغاضي عن عيوبها، إذ لا يخلو إنسان من عيب، فالكمال لله وحده، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: “لا يفرك – يبغض – مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها آخر”[9]، وكان يمدحهن، ويثني عليهن، ويبين فضلهن، وذلك لرفع معنويتهن، قالت عائشة رضي الله عنها: ” ما غرت على نساء النبي إلا على خديجة، وإني لم أدركها. “قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح شاة قال: “أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة.” وكان يقول عنها: إنها كانت وكانت وكانت، وكان لي منها ولد”[10].  ويكفينا أنه صلى الله عليه وسلم لم يضرب امرأة قط، وكان يقول: “ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم”[11]. وإذا رجعنا إلى المجتمعات الإفريقية، نجد أن من تقاليد الأفارقة استخدام النساء في الأعمال الشاقة كالزراعة، سواء ما تتعلق منها بحراسة المزارع والحقول، أو تربية المواشي، وكذلك التدبير المنزلي ومستلزماته، من النظافة وإعداد الطعام، وما يتطلبه من دق الحبوب وطحنها، وإحضار الماء من أماكن بعيدة، وجلب الحطب من الغابات، وما يكتنف ذلك من التعرض لمخاطر الوحوش والزواحف، والعصابات المجرمة، وكذلك الذهاب إلى الأسواق لشراء مستلزمات الطبخ، من اللحوم والخضار وغيرها، مما يعرضهن للتحرش وانتهاك كرامتهن من بعض الوقحين.

فلما انتشرت تعاليم الإسلام وعرف الناس قيمة المرأة في الإسلام، وكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل النساء من مختلف مظاهر اللطف والحنان والإكرام، أصبحت كرامة النساء مصونة في التراث الإفريقي وحقوقهن مضمونة، خاصة في الأوساط الإسلامية ولدى القيادات المسلمة. أما فيما يتعلق بأولاده صلى الله عليه وسلم فقد كان شديد العناية بهم، كثير الشفقة عليهم، حتى إنه ذرف دموعا عند وفاة ولده إبراهيم وقال قولته المشهورة، كما في حديث أنس رضي الله عنه، قال: “دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، وأنت يا رسول الله؟ قال: يا ابن عوف، إنها الرحمة. ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون[12].  وصح في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نزل من فوق المنبر في أثناء الخطبة لما رأى الحسن والحسين عليهما السلام وقبلهما، ثم عاد إلى خطبته[13]..  وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل حفيدته أمامة بنت ابنته زينب، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها”[14]. وهكذا كان رسول الله محبا لأولاده وبناته وأحفاده، يرحمهم ويشفق عليهم، ويربيهم تربية حسنة، ويرشدهم إلى مكارم الأخلاق، وقد تأثر علماء الإسلام في إفريقيا بهذه الشمائل النبوية حتى أصبحت رعاية الأولاد والحرص على تعليمهم وتربيتهم التربية الروحية والخلقية جزءا لا يتجزأ من التراث الإفريقي، فكان أحدهم يضحي ويصبر على مرارة فراق ولده ليتلقى هذه التربية في أماكن بعيدة، وتحت ظروف قاسية.

 رابعا: علاقته صلى الله عليه وسلم بأصحابه

كان صلى الله عليه وسلم يحسن معاملته لأصحابه يرفق بهم ويتواضع لهم، ويجيب دعوتهم ويزور مرضاهم، ويشهد جنائزهم ويقضي حوائجهم، ويمازحهم.

قال الصحابي الجليل أنس بن مالك – رضي الله عنه:

“كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس صدرا وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم ويجلِسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأَمَة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة”، وروى كثير من الصحابة نماذج من حسن معاملته لأصحابه وتواضعه لهم، حتى إنه كان يجلس بينهم كواحد منهم، وبدون تميز إلى درجة أن وفودا كانت تأتيه فنجده مع أصحابه، فيقول سائلهم من منكم محمد؟ ويكفيه شهادة ربه له في هذا المجال حيث قال تعالى: ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾ [سورة التوبة، الآية: 128129]. وقوله: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين﴾ [سورة آل عمران الآية: 159].

خامسا: علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمن بالأخوة الإنسانية بين الناس، لأن القرآن أثبت هذه الأخوة في أكثر من آية من القرآن الكريم: ﴿وإلى عاد أخاهم هودا﴾ [سورة الأعراف، الآية: 65]، وقال أيضا: ﴿وإلى ثمود أخاهم صالحا﴾ [سورة هود، الآية: 73]. وقال أيضا في قوم نوح: ﴿إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون﴾ [سورة الشعراء، الآية: 106]. سواء قلنا هي أخوة نسب أو مجانسة. فقد أثبت هذه الأخوة بين هؤلاء الأنبياء والمرسلين مع قومهم مع أنهم يخالفونهم في الدين والعقيدة، إذ لا بد أن تكون إنسانا قبل أن تكون شيئا آخر، وقد وضع الإسلام ميزانا للتعاون مع غير المسلمين، فمن كان منهم عدوا للمسلمين محاربا لهم وساعيا إلى القضاء عليهم، فلا تجوز موالاته، ويعتبر من فعل ذلك خائنا لدينه وأمته، وأما من لم يظهر لهم العداوة ولم يتآمر ضدهم وضد مصالحهم، فقد أمرنا الإسلام أن نبرهم ونقسط إليهم ونتعاون معهم في كل ما يمكن من التعايش السلمي الذي يحقق المصلحة المشتركة لجميع المواطنين في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة أو جميع المجتمع البشري، لأن الإسلام يعتبر فقدان حالة السلام بن الناس أول مشكلة يجب معالجتها لينعم الجميع بالسعادة ليتمكن المسلمون من التفرغ لقضايا الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبناء المجتمع السليم، لذلك عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة كان من أوائل الأعمال التي قام بها: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لإزالة كل الفوارق والحزازات التي قد تنجم بسبب اختلاف البلدان، وآخى بين الأوس والخزرج لإزالة كل المشكلات والعصبيات التي قد تنجم بسبب اختلاف القبائل، ووقَّع مع اليهود على اتفاقية التعاون والدفاع المشترك عن المدينة، وعدم اعتداء أي طرف على الآخر حتى لا يحصل التباغض والتنازع بسبب اختلاف الدين، فبسبب ذلك تمكن من إرساء قواعد السلام ومبادئ التعايش السلمي بين جميع أفراد المجتمع بقيام دولة الإسلام، التي حققت الأمن والعدالة والرفاهية لجميع مواطني المدينة والجزيرة العربية على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم.

ومما تقدم، يتبين أن ما يظنه البعض من أن علاقة المسلم مع غير المسلمين يجب أن تتصف بالشدة والعنف وإظهار العداوة والمقاطعة هو من المفاهيم الخاطئة، وهو خلاف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الآخر، الذي يقوم على العدل وعدم الظلم، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة.

وبالرجوع إلى شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أنه كان يتعامل مع غير المسلمين دائما بالعدل، امتثالا لقوله تعالى: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ [سورة المائدة، الآية: 8]. وكان يحذر من ظلمهم وإيذائهم، وخاصة من كان بينهم وبين المسلمين عهد أو حلف أو صلح، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: “من ظلم معاهدا أو انتقصه من حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة”[15].

وقال أيضا: “من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما”[16]. ونجد في هذه الشمائل أيضا أنه صلى الله عليه وسلم استخدم وسائل متعددة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، فتارة كان يدعوهم باللسان فيقيم الأدلة على صدق نبوته، وأنه مرسل إليهم ويرغبهم في الإسلام ويبين لهم محاسنه وفضائله، وما أعده الله للمؤمنين من السعادة في الدنيا والنعيم الدائم في الآخرة، ويحذرهم من الشرك والكفر والمعاصي؛ لأنها سبب الشقاوة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، وقد أعد الله الجزاء الأوفى لمن كان سببا في هداية غيره من البشر وإنقاذه من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: ” فو الله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم”[17].

ومعلوم أن حمر النعم أغلى أموال العرب وأحبها إلى نفوسهم. وفي رواية أخرى:

“خير لك من الدنيا وما فيها”. وقال في حديث آخر: “من دل على خير فله مثل أجر فاعله”[18].  وتارة كان يدعو الناس إلى الإسلام بالقدوة الحسنة؛ لأن الله هو الذي تولى تأديب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمكينه من أداء رسالته، وفي ذلك يقول: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”[19].  وقد أثنى الله عليه ومدحه بسبب أخلاقه الفاضلة وصفاته الحميدة، فقال تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ [سورة القلم، الآية: 4]. وقد لمس الناس فيه الصدق، والإخلاص، والأمانة، والإحسان، والاستقامة، وغيرها من مكارم الأخلاق، فأحبوه ووثقوا فيه، وتأثروا به فآمنوا بكل ما يقول واقتنعوا بكل ما يفعل.

ومن شمائله صلى الله عليه وسلم حسن جواره لغير المسلمين فقال: “ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه يورثه”[20]، ولم يفرق في الحديث بين جار وجار فكان شاملا لجميع الجيران، يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر:

“الجيران ثلاثة، جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقا، فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فجار مسلم، له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق، فجار مسلم ذو رحم، له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم”[21].

ومن شمائله صلى الله عليه وسلم الإهداء لغير المسلمين وقبول هديتهم ومعاملتهم في البيع والشراء وعيادتهم إذا مرضوا، كما ورد في حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له غلام يهودي يخدمه، فلما مرض أتاه يزوره فقعد عند رأسه فقال: أسلم. فنظر إليه وهو عند أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم. فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه من النار”[22].

وكذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الانتفاع بما عندهم من العلم والخبرة، كما هو الحال عندما استأجر كافرا ليكون دليلا له في هجرته إلى المدينة، وكذلك مزارعته ليهود خيبر مقابل أن يأخذوا نصف ما يخرج من أرضها – وأمره زيد بن ثابت أن يتعلم اللغة السريانية، إلخ.

هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل مع غير المسلمين تعاملا يقوم على العدل والرحمة والتسامح معهم، والإحسان إليهم، وقد أعطى الحرية الدينية للأقليات سواء كانوا يهودا أو نصارى، فلم يرتض يوما أن يفرض عليهم عقيدة الإسلام امتثالا لقوله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾ [سورة البقرة، الآية: 256]. وقوله عز وجل: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ [سورة يونس، الآية: 99[.

سادسا: من الشمائل المحمدية الزهد في الدنيا

كان الرسول صلى الله عليه وسلم زاهدا في الدنيا مستغنيا عما في أيدي الناس؛ لأن من استغنى عما في أيدي الناس وكان كريما يساعدهم ويقضي حوائجهم فسيحبونه وإذا أحبوه فسيستجيبون له ويطيعونه، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس”[23]. وقد كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأقلهم رغبة فيها، حتى كان الزهد خلقا من أخلاقه الفاضلة، وسجية من سجاياه الطيبة الطاهرة. ومن مظاهر زهده قوله: “لو كان لي مثل أُحد ذهبا ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين”[24].  والأمثلة في زهد النبي لا تعد ولا تحصى، فلا يستغرب أن يتصف شيوخ إفريقيا بالزهد ويكون من صميم التراث الإسلامي الإفريقي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم، وهو القائل: “الدنيا دار لمن لا دار له، ومال لمن لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له”[25].  ومن أمثلة زهد العلماء الربانيين في إفريقيا ما ذكره المؤرخون من أن الشيخ أحمد مؤسس إمارة ماسينا الإسلامية، على الرغم من اتساع رقعة بلاده وقوة نفوذه وتمكنه في الأرض كان لا يأكل إلا من عمل يده، أي من خيوط وحبال يفتلها بيده ثم يعطيها لجاريته لتبيعها في السوق، فمن هذا الدخل المتواضع كان يقتات ويعيش، وقد زرت ضريحه في “حمدالله” عاصمة الإمارة، وبجوار ضريحه قبر تلك الجارية. وكان في مالي أحد الصالحين ألقت السلطات الاستعمارية القبض عليه للحد من قوة نفوذه وشدة تأثيره الإسلامي في منطقة غرب إفريقيا،

وفي ذات يوم استدعته تلك السلطات مكبلا بالحديد وفي حالة يرثى لها، وذلك لاستمالته وإغرائه بالمادة، فقال له الحاكم العام الفرنسي: لماذا أنت معاند، تعرض نفسك وأتباعك للاضطهاد والتنكيل؟ ألا ترى فلانا وفلانا وأمثالهم، كم هم منعمون بتكريمهم بالأوسمة الرفيعة والهدايا الثمينة؟ فنظر الشيخ إلى هؤلاء الذين ذكرهم الحاكم العام فتبسم وقال: فكما أنهم لا يرغبون أن يكونوا في مثل حالي، فأنا كذلك لا أتمنى أن أكون مثلهم، وأضاف قائلا: “إذا كنت تظن أنك تسيء إليّ بهذه المعاملة القاسية وهذه الإهانات المتنوعة فأنت مخطئ، هناك شيء واحد فقط يمكن أن تعمله فيضرني، ولكن ليس في مقدورك أن تفعله”. فتعجب الحاكم المستعمر فقال: وما هو هذا الشيء؟ قال: “أن تحول بيني وبين ربي وتمنعني من أن أفكر فيه لحظة واحدة، فهذا فعلا إن فعلته فستضرني كثيرا، ولكن ليس في مقدورك أن تفعله”. وكثير من الصالحين في إفريقيا فتحت لهم خيرات الدنيا وتجمعت في أيديهم أموال طائلة ومع ذلك لم يورثوا درهما ولا دينارا، لأنهم كانوا ينفقونها بسخاء على الفقراء والمساكين وفي أوجه الخير، وكان أحدهم يقول لورثته، لا تغتروا بهذه الأموال التي ترونها تهطل علي كالمطر، فلن أورثكم منها شيئا، لأنها ليست ملكا لي، وإنما هي أرزاق الفقراء يجريها الله في يديّ، فلا بد أن أوصلها إليهم.

سابعا: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم

التواضع من شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت علامته تظهر عليه في كل أقواله وأفعاله وفي كل أحواله، إذ نهى أصحابه أن يقوموا له كل ما خرج إليهم كما يفعل الناس للملوك، كما نهاهم أن يفاضلوه على إخوانه الرسل على الرغم من كل الفضائل والمكارم التي خصه الله بها، ولما خيره الله بين أن يكون ملكا نبيا أو نبيا عبدا اختار أن يكون نبيا عبدا، فكافأه الله برفع شأنه على الجميع، لأن من تواضع لله رفعه الله. وقد اقتدى شيوخ إفريقيا وعلماؤها برسولهم الكريم في خلق التواضع، فهم على الرغم من علو منزلتهم في المجتمع إلى درجة أن الحكام وكبار مسؤولي الدولة يزورونهم في منازلهم، ويخلعون نعالهم عند الدخول عليهم، ومع ذلك فكثيرا ما يزوجون بناتهم لمريديهم الفقراء. ومن مظاهر التواضع عند مشايخ إفريقيا، ما ذُكر من ذهاب أحد كبارهم إلى إحدى الحارات التي يسكن فيها مريدوه وتلاميذه بدعوة منهم ليعظهم ويدعو لهم فاستقبلوه بمختلف مظاهر الحفاوة والتكريم والضيافة اللائقة بمكانته، فلما حضر وقت الصلاة طلب من إمام المسجد أن يسمح له بالأذان للصلاة، فقال الإمام: من أنا حتى آذن لك، فكل ما هنا ملك لك وتحت إمرتك، وما أنا إلا تلميذك الضعيف وخادمك المطيع، فأجاب الشيخ: أنت هنا رئيس هذا المسجد بصفتك إمامه الراتب، فمن دخل فيه يجب أن يخضع لإمرتك، ويطيع أمرك. يا سبحان الله هذا منتهى التواضع، فهذا الشيخ من أكبر المشايخ، لا في بلاده السنيغال فقط، بل في كل منطقة غرب إفريقيا، وأعرفه شخصيا، فكيف يطلب الإذن من أصغر مريديه؟ والأعجب في أمره أنه لم يستأذنه للإمامة، بل ليؤذن، علما بأن المؤذن أدنى رتبة في نظر الناس من الإمام.

إنها التربية المحمدية التي تجرد النفس من كبريائها وخيلائها، فتزكو وتسمو إلى الملأ الأعلى.

ثامنا: الصبر المحمدي ومستلزماته من الحلم والعفو

أمر الله سبحانه وتعالى نبيه بالصبر، فقال: ﴿فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل﴾ [سورة الأحقاف، الآية: 35]. فمن لم يكن صابرا لا يستطيع أن يتفاهم مع الناس، ولا يستطيع تحقيق أمنيته، لذلك امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، فصبر على أذى قومه له، وصبر على المصائب التي يبتلي الله بها عباده من وقت لآخر، وصبر على طاعة الله حتى أصبحت ملازمة له، لا يفارقها، وصبر عن محارم الله ومعاصيه فلا يقربها حتى يكون قدوة صالحة لأمته، وكان من لوازم هذا الصبر حلمه المنقطع النظير، إذ لا يستطيع الإنسان أن يكون حليما إلا إذا كان صابرا، لأن الحِلم يتطلب ضبط النفس حتى لا يظهر منها ما يكره، قولا كان أو فعلا عند الغضب، وما يثيره هيجانه من قول شيء أو فعل غير محمود، والأمثلة التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في الحِلم كثيرة جدا، ونكتفي بذكر مثال واحد منها فقط، وهو أن النبي عندما شجت وجنتاه وكسرت رباعيته ودخل المغفر في رأسه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، لم يلعن الكفار ولم يدع عليهم، ولم يجهز الجيوش الجرارة للانتقام لنفسه، بل اكتفى بالقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”[26].

فهذا منتهى الحلم والصفح والعفو والصبر منه صلى الله عليه وسلم، وفي تراثنا الإفريقي نجد نماذج من المشايخ والعلماء الربانيين ورثوا هذه الشمائل من الرسول الكريم لأنه أسوتهم، تربوا في مدرسته الدينية والخلقية، وقد رأيت ذلك شخصيا، فأحد هؤلاء الشيوخ، حكمت عليه السلطات الاستعمارية بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وذلك بسبب وشايات حساده وأعدائه، لِوضع حد لنشاطاته الإسلامية، وقد تنقل مسجونا في مختلف مدن غرب إفريقيا، وبعد تدخل عدة جهات رسمية وشعبية تم إطلاق سراحه بعد أن قضى 18 سنة من المدة، وبعد إبلاغه الخبر وخروجه إلى باب السجن قال للحراس إنه نسي شيئا في زنزانته، قال أحدهم لا، هو نظر جيدا عند خروجهم لم يكن شيء في الغرفة، وأمام إصراره رجعوا به وقالوا: ألم نقل لك لا يوجد ضيء في الغرفة؟ فعندئذ قال لهم: أنا أعرف أنني لم أترك شيئا في الغرفة، ولكن نسيت أن أشهدكم وأشهد جميع الحاضرين قبل خروجي من السجن بأنني عفوت لوجه الله تعالى عن كل من كان سببا لتهجيري وتعذيبي وسجني لمدة 18 سنة، سواء من قريب أو بعيد، فكان هذا التسامح سببا لإسلام أحد الحراس، وكان يتواصل مع الشيخ ويزوره حتى فارق الحياة.

هذه بعض شمائل رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم، فيجب عليكم أن تتخلقوا بها لتعطوا صورة حسنة لإسلامنا الحنيف، فلا تشوهوا صورته الجميلة باتباع أهوائكم وأفهامكم السقيمة، فأظهروا حبكم لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وذلك باتباع تعاليم دينه والتمسك بسنته الطاهرة، والتخلق بأخلاقه الفاضلة وشمائله الحميدة؛ لتسعدوا في الدنيا وتسلموا في الآخرة. سقانا الله من حوضه بأوسع الأواني وجعله شفيعا لنا يوم يقوم الناس لرب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش

[1] – راجع فتح الباري 7 /188 189 – والسيرة النبوية لابن هشام 1 /226 – 722.

[2] – موطأ الإمام مالك 2 / 1004.

[3] – رواه البخاري.

[4] – رواه مسلم.

[5] – رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر.

[6] – أخرجه أحمد في المسند 4/،25 والترمذي في الشمائل المحمدية 323 واللفظ له.

[7] – رواه كذلك أحمد والنسائي.

[8] – رواها لترمذي.

[9] – رواه مسلم.

[10] – رواه البخاري.

[11] – رواه الترمذي.

[12] – رواه البخاري.

[13] – رواه أبو داود وغيره.

[14] – متفق عليه.

[15] – رواه أبو داود.

[16] – رواه البخاري.

[17] – رواه البخاري.

[18] – رواه مسلم.

[19] – أورده ابن حجر في الموسوعة الحديثية 3 /399 وإن تكلم فيه العلماء إلا أن معناه صحيح.

[20] – أحمد.

[21] – رواه البزار والطبري.

[22] – البخاري.

[23] – رواه ابن ماجه وغيره.

[24] – رواه البخاري.

[25] – أحمد.

[26] – أخرجه ابن حبان في صحيحه.

تحميل المقال بصيغة PDF