مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

نماذج من مظاهر التواصل العلمي بين علماء إفريقيا

الإمام يحيى جبريل نيانغ
الأمين العام لرابطة علمـاء الإسـلام في السنغال وعضـو فرع مؤسسـة محمـد السـادس للعلماء الأفارقة بالسنغـال

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على من أنزل عليه القرآن الكريم هدى ورحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وسلم وبعد، فقد قال جل وعلا في محكم تنزيله: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ ٱلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [1]. صدق الله العظيم.

وقد أوضح القرآن الكريم فوائد التواصل الاجتماعي والعلمي منذ أربعة عشر قرنا من الزمان. ومن أغراضه التعارف بين بني البشر للتعامل بين الأفراد والجماعُات كما قال الله تعالى في موضع آخر: ﴿يَا أََيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقَنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾[2]، فبالتعارف يحصل التعاون ويتم تبادل المنافع في جميع المجالات.

وهذا ما يريده أمير المؤمنين مولانا صاحب الجلالة محمد السادس ملك المملكة المغربية الشقيقة حفظه الله ورعاه. فأنشأ –لذلك– مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة لسدّ الخلل الموجود في القارة السمراء، وتسهيل التواصل بين علماء الأمة الإفريقية لتحقي ق المصالح العامة التي ق ال عنها ج لّ وعلا: ﴿وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡ وَانِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ﴾[3]. وقد حقق الله سبحانه وتعالى رجاء أمير المؤمنين، الذي سنّ سنّة حسنة كَما قال النبي ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ»[4].

وعليه، يحاول هذا المقال تبيان نماذج من مظاهر التواصل العلمي بين علماء إفريقيا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبّ ويرضى وينفع به عباده في الدنيا والآخرة، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

من المعلوم أن في القارة الإفريقية رجالا خلّد التاريخ أسماءهم قاموا بعدة رحلات من قطر إلى آخر ومن بلد لبلد، نتجت بموجبها علاقات إنسانية ومراسلات علمية، ومن هؤلاء الرجال على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ سليمان بال زعيم الثورة الإسلامية ضدّ ملوك فوتا تورو عام 1776م؛ والمجاهد الأكبر الشيخ عمر الفوتي فال، ذلك الصوفي العظيم والرحّالة الكبير فتح بلدانا كثيرة ونشر بها الإسلام والطريقة التجانية. ومنهم كذلك، الزعيم الصوفي الكبير الشيخ الحاج مالك سي من تواوون، والشيخ الإسلامي صاحب الفيض الرباني الشيخ إبراهيم نياس بمدينة كولخ -السنغال-الذي يعود إليه الفضل في انتشار الطريقة التجانية في إفريقيا الغربية، نتيجة الرحلات والمؤلفات والمراسلات؛ والشيخ الحاج سعيد النور تال زعيم المشايخ في عهد الاستعمار وسفير متجوّل بين كافة الربوع الإفريقية التي كانت تحت حماية المستعمر. ومنهم، الإمام الصوفي الشيخ داود سي، أحد مقدمي الشيخ سعيد النور تال ومستشاره الخاص، فهو الذي يدور حوله حديثنا اليوم في الموضوع المقترح.

من هو الشيخ داود بن يورو سي؟

ولد في عام 1897م في منطقة فوتا تُورو شمال السنغال وتوفي عام 1974م، وله من العمر 77 سنة عدد أبيات إحدى قصائده الفلانية.

فقيه سني صوفي، وشاعر، متمسك بالعقيدة الأشعرية، داعية كبير وحكيم فصيح، قدوة للأجيال الصاعدة وإمام زاوية حيّ رُوبُسْ بدكار العاصمة، المعروف لدى بني جلدته ب: تشارْنو داود سي Thierno Daouda SY، جلس للتدريس في الزاوية التي كان فيها إماما مدة 52 سنة، وتخرج على يديه عدد كبير من طلبة العلم وأخذ عنه الطريقة التجانية مريدون كُثر، أصبحوا دعاة وأئمة في المساجد، ومدرسين مجازين في إعطاء الورد التجاني لمن طلبه من بني جلدتهم في البلاد منهم كاتب المقالة وآخرون لا نحصي عددهم…

اتصالاته وعلاقاته بعلماء عصره

يعد الشيخ داود سي من كبار مقدمي الشيخ سعيد النور تال حفيد الشيخ عمر الفوتي في الطريقة التجانية، وله منه إجازة مطلقة صحبه طول عمره مع رجال من حوله، لأنّ الشيخ سعيد النور كان يعتبر عهدئذٍ عميد مشايخ الأفارقة طوال الحماية الاستعمارية، ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الدينية. وكان يتمتع بنفوذ كبير لدى السلطات…

هذا، وكان الشيخ داود سي من زمرة العلماء الكبار، له اتصالات واسعة بعلماء عصره أمثال السادة العلماء اللامعين في البلاد، ومن بينهم: الشيخ أبو بكر سي بن الشيخ الحاج مالك سي رضي الله عنهما، خليفته الأوّل وأخواه السيدان الكريمان، وهما: الشيخ عبد العزيز سي الدبّاغ والشيخ منصور سي وغيرهم من علماء البلاد.

ومن علماء البلاد الإفريقية المجاورة:

  • الشيخ إبْرَا عَالِ سِيدِي بَهْ من مدينة مبانج الصوفي الكبير والسني الورع.
  • الشيخ انجاي بَهْبابي من مدينة بَهبابي بموريتانيا كذلك.

ومع هذا الأخير تجسّدت علاقتهما بصداقة حصلت من خلالها مراسلات علمية ومعاملات بنّاءة، كما سنرى عند ذكرها في القصيدة التخميسية التي اشتركا في تأليفها.

مؤلفات الشيخ داود سي رضي الله عنه

كان الشيخ داود سي فقيها وشاعرا ولكنّ معظم مؤلفاته كانت بالشعر في مختلف الموضوعات من العلوم الإنسانية، وهي بالتفصيل:

  • خمس قصائد باللغة الفلانية لغته الأمّ . والثلاثة منها تتجاوز 100 بيت وأمّا الرابعة، فتحوى 222 بيتا حول سيرة الشيخ عمر الفوتي تال رضي الله عنه بعنوان:

“جهاد الشيخ عمر الفوتي في غرب إفريقيا.”

  • ومنها أيضا، قصيدتان باللغة الولفية. وكان المرحوم متمكنا بهاتين اللغتين الوطنيتين بكل فصاحة وكلتاهما لا تقل عن 80 بيتا، عالج في هذه القصائد قضايا اجتماعية وأخلاقية في الوعظ والإرشاد ودعوة الناس إلى التسامح وقبول الآخر وحسن الجوار.

وأمّا القصائد باللغة العربية فثمانية، نختار منها أربع قصائد كنموذج على سبيل المثال توضيحا لمقاصده ومواقفه وعلوّ همته في خدمة الدين والإنسانية:

1/ قصيدة بعنوان “توسلات بنبي الرحمة. “وتقع في 94 بيتا، تدور هذه التوسلات حول أمنيةٍ طالما تمنى تحقيقها في حياته، وهي أداء فريضة الحج وزيارة روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا وقد استجاب الله دعاءه لأنّه حجّ مرتين قبل وفاته.

ومطلع القصيدة:

ألذكر جار بالنوى دمع جرى لا تنكرين أيا سعاد[5] دعي المِرَا

أدنا الرحيل مع الحجيج لنشكرا أم سُلَّ سيفُ العزم من غِمد الكرى

أبنذر ركب القوم من تلك القرى مستعجلين وقصدهم أمّ القرى        

أم في الرفاق الراجلين لخيبر مستوجبين بغير ما زاد يُرى

سئمت سعاد تعلّلا لما أرا دتْ رحلة قدر أبى فتأخرا

وهك ذا تحدّث الشاعر مع نفسه أثناء توسّله بنبيّ الرحمة صلى الله عليه وسلم، وذلك لحاجة في نفس يعقوب قضاها.

ومعظم توسلاته تدور حول الصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وسلّم لتحقيق أمنيته التي منعته عن النوم، فلله مع أوليائه شؤون في طيّات غيبه فهو عليم بذات الصدور.

2/ قصيدة حول فضل الطريقة التجانية لأنّها طريقة الذكر، والذكر هو القرآن الكريم. وهي تقع في 120 بيتا بعنوان:” ثمرات الطريقة التجانية للمريد الجاني “، عالج فيها الشاعر فوائد الطريقة التجانية وأثرها في المسلم ومكانتها في تقويم السلوكيات المعوّجة والتصرّفات المنحرفة مشيرا إلى تأثيرات الطريقة في سلوك الفرد المسلم.

وفيما يلي، نقدم للقارئ الكريم قطعة من القصيدة للوقوف على المواصفات التي بين بها الشاعر فوائد الطريقة ومميزاتها الروحية والنفسية، فقال:

لرب الملك حمدان وفي الأزل قديمان

وحادثان حمدان إلى الأبدي يدومان

هي الإرشاد الرباني قد أفلح شمل التجاني

ففيك الدعاء يا جاني طبيبك ورد التجاني

جلاء القلب والروح شفاء الجسم التجاني

صلاة الفاتح بإذن تكفر ذنب التجاني

بها يزداد الإيمان أخي في القلب التجاني

وأشار الشاعر إلى سرعة انتشار الطريقة التجانية في جميع آفاق الأرض بمُدنها وقراها رغم تأخر ظهورها عن جميع الطرق الصوفية، فقال:

أناديكم بإعلان لتستمعوا للتجاني

أنيسة الأرض والمدن زوايا ورد التجاني

علت منها إلى حين[6] وظائف ورد التجاني

فضاقت أرض إخوان[7] بنور الورد التجاني

على الآفاق في الكون تزايد نور التجاني

وفي نهاية القصيدة توسّل الشاعر بسلسلته في الطريقة وبصالحيها من المشايخ، فقال:

بفضل الورد التجاني وسلسلتي لتجاني

إلهي لا تؤاخذني بهفواتي ونسياني

وبالصلحاء ألْحقْنِي برحمتك وأدخلني

3/ قصيدة ميمية بعنوان: “طفولة النبيّ مع حليمة السعدية.” وهذه القصيدة جزء من السيرة النبوية، وبالخصوص رضاعته وتربيته صلى الله عليه وسلم في البادية وما شُوهد خلالها من المعجزات وعلامات النبوّة. وتقع القصيدة في 223 بيتا، ومطلعها:

الحمد لله ربّ العالمين السميع ذي الجلال والإكرام والعظم

حمدا يماثل حق الحمد بالنعم عمّت على خلقه بالفضل والكرم

يا راغبا في رضاع المصطفى العلم بُشرت بالنيل ما يكفيك من نظم

إذ نازع الخلق في إرضاع نورهم أهل السماء وأهل الأرض زينهم

وهنا، يشير الشاعر السنغالي في مستهل القصيدة إلى النزاع الدائر بين الخلائق في تربية النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن السيدة حليمة السعدية هي التي حالفها الحظ عن الجميع بالقدرة الإلهية كما قال الشاعر:

قالت طيور ألا يا جملة الخيم ظئر الحبيب لنا مع جملة الخدم

قالت وحوش لنحن الكافلات الأمين نحن أولى بخدمته من الخدم

قالت ملائكة تربية الغطم أهل السماء بها أولى بها من الخيم

قالت غمائم يا ذا الجو والغيم مُرنا لنحمله معنا إلى الصِّرم

لسان قدرة ذي الإيجاد والقدم قال السلام عليكم جملة الخدم

خصصتموا أهل أرض السعد من حكم بالفضل عن سائر الأكوان كلهم

حازت قبيلتكم بالسعد في القدم بين القبائل من عرب ومن عجم

نالت حليمتكم ما ليس منقسم بسعدها سبق آل السعد غيرهم

ويشير الشاعر إلى الأسباب التي منحت هذه السيدة، هذا الحظ العظيم وهو إرضاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته عن سائر نساء العالم. ومن أسباب هذا الحظ العظيم قال الشاعر:

كانت حليمة في نور وفي ظلم تكثر من الحمد للوهاب ربهم

بل إنّها لازمت حمدا بلا سأم حتّى رأت حمدها في النوم لم تخم

فأنطق الله حمدا باح بالكلم نحن المحامد ما لازمت لا تكم

وقال لي اشربي من ماء ذي شبم والماء كاللبن المعسول مطّعم

وقيتِ من شر ما يؤذيك أو يصم شدائد وحروب الفقر والنقم

بشرتِ بالابن ظئرا جامع النعم أزال مولاكِ عنك سائر الغُمم

وهكذا مضى الشاعر في سرد تفاصيل القصة حول سير الأمور والأحوال طوال مدة الرضاعة إلى حين إرجاعه صلى الله عليه وسلم لأمّه، فاختتم القصيدة بالصلاة على النبي بعدة أبيات أوّلها قوله:

صلّ عليه إلهي واهب النعم ملء السماء صلاة واسع الرحم

محمد سيد الأشراف كلهم وطيب طاهر الأخلاق والشيم

وتطبيقا لأمر المولى جلّ وعلا القائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[8]. فإن رجال الصوفية اتخذوا الصلاة على النبي قوت قلوبهم وغذاء أرواحهم في كل لحظة من لحظات حياتهم.

وأمّا ما يخص التواصل العلمي بين الشيخ داود سي والعلماء الأفارقة، فنذكر منها اتصاله ببعض علماء الجمهورية الإسلامية الموريتانية الشقيقة وأبرزه اتصاله بعالمين صوفيين معروفين بالورع والالتزام بالكتاب والسنة -كما أشرنا إليه سابقا- وهما:

الشيخ إبراهيم عال سيدي بَه من مدينة امبانج” Mbagn”، جنوب موريتانيا. وقد عامله الشيخ داود سي معاملة الصداقة النزيهة تساندها مراسلات مستمرة أدت إلى تزويج الشيخ إبراهيم بَه ابنته بأحد تلاميذ زميله الشيخ داود سي، وقد أنجبت البنت لزوجها أولادا هم اليوم علماء، وهذا طبعا من ثمار العلاقة المتينة.

وأمّا الثاني، فهو الشيخ انجاي من مدينة بهبابي بالجمهورية الموريتانية أيضا، فالتواصل العلمي الذي ربط بين الشاعرين أمر لافت للنظر والأغرب في الأمر أنهما لم يتعارفا شخصيا طوال المراسلة، فلم ير أحد منهما الآخر بأمّ عينيه…

وذات يوم حضر أحد تلاميذ الموريتاني إلى مجلس التدريس للشيخ دواد سي بالزاوية، فسلّم ثمّ جلس، ورحبّ به الشيخ داود سي، وكان يعرف الرجل فأخب ره بأنّه من تلاميذ الشيخ انجاي بموريتانيا، فذكر له بعض مناقبه من الفضل والعرفان والزهد والورع، ثم أخرج ورقات فيها قصيدة لهذا العالم كدليل على ما وصفه به، فأخذها الشيخ داود سي واطلع على القصيدة ثم طلب منه الشيخ أن يتركها معه إلى الغد ليطالعها، فقبل الرجل.

وفي الحين طالع الشيخ تلك القصيدة فوجدها تدور حول نفس الأغراض والموضوعات التي في قصيدتيه، إحداهما بالفلانية والثانية بالعربية حول الطريقة التجانية. ولهذا، تحركت فيه رغبة المشاركة في عمل زميله الموريتاني بعد أن أعجبته القصيدة فهاجت بها شاعريته…

ولما رجع ضيفه في الغد أخبره بإعجابه بعمل زميله، فكتب من ثَمَّ رسالة يثني فيها على المؤلف بما هو أهله، فطلب منه إذنا لمشاركته في العمل. وبعد استلام الرسالة أجاب العالم الموريتاني بالقبول ولكن بأية كيفية ونوعية هذه المشاركة؟ لما استلم الشيخ داود السنغالي الجواب، كتب إليه ردا، يبين فيه رأيه ونوعية العمل وكيفيته.

وهكذا بعد مراسلات عديدة بين الشيخين تمّ الاتفاق على المشاركة والكيفية بشرط احترام الموضوع والأغراض الواردة في القصيدة. وكان الشيخ داود سي قد اقترح عليه شكل التخميس. فشرع في العمل حتى تمّ ذلك بحمد الله تعالى بشكل رائع.

استمرت العلاقة الأخوية بين الشاعرين عن طريق المراسلة إلى أن التحقا بالرفيق الأعلى دون أن يرى أحدهما الآخر بأمّ عينيه؛ فجزاهما الله تعالى خيرا بهذا العمل وأن يجعله في ميزان حسناتهما يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم آمين.

والآن نقدم للقارئ الكريم قطعة من هذه القصيدة المشتركة عن طريق المراسلة بين الشيخ داود سي السنغالي والشيخ إنجاي بهبابي الموريتاني، والتي تمثل نموذجا للتواصل العلمي بين علماء إفريقيا. وهي بعنوان:

«تنبيه الخلان على ترغيب الإخوان»

ببسملة هي الأولى[9] وحمدلة لمن أولى

وصلصلة على المولى عليهم رحمة المولى

تُمدّ ببحر رضوان

بدأت باسم من ببه ا ئه الأنوار تستبهي

يليه أحمد إلها شروعي في مرادي ها

هنا يبدو للإخوان

أقول الحمد حمدان قديمان يدومان حمدان

وحادثان حمدان ألا حمدي لرحمان

وثنائي لا يزالان

هلموا أهل تجان إلى تنبيه خلان

على ترغيب إخواني هديتم أهل تجاني

عداكم كل خذلان

جزيتم خير دارين ح ظيتم فخر وجهين

كُفيتم ضير ضدين و قيتم شر دارين

حُميت م كيد الشيطان

لورد الأصل أوردنا فأسعدنا وأشهدنا

سنشهد أن مرشدنا بمهد الفضل أرشدنا

لهذا القطب الصمداني

وبعد هذه المقدمة لترغيب الناس في الطريقة التجانية والدعوة إليها، شرع الشاعران في ذكر فوائدها وفضل من تمسك بها كما بينا من خلال ذلك أوقات الذكر في الصباح والمساء، فقالا:

صلاة أجرت ا إليها جثيل مرة منه

سواها لا يماثلها لنا المولى يضاعفه

وإن من غير تجاني

وفي الآصال يا صاح وءاناء وأصباح

حمدنا ربّ أرواح مُنحنا كل أرباح

بلا مَنٍّ ونقصان

فيا طوبى لمرتبط بقيد الختم مشترط

حوى ما غير منضبط قد أفلح كل منخرط

ومُوفٍ عهد تجان

وقد خصصا في القصيدة جانبا مهما من الوصايا حول شروط وآداب تحث عليها الطريقة التجانية وتحذر من إهمالها. فقالا:

وصايا الغوث تاركها يبور لذاك وارثها

يناصح من يبايعها شروط الورد وفوها

لتقْفُوا نهج تجاني

حدود الشرع راعوها فروض العين أدوها

أمانات فردوها وذات البين راعوها

وإن من خامل واني

صلوا أرحامكم تجدوا فلاحا مثل من سعدوا

زنوا بالقسط لا تعدوا حقوقا بينكم أدوا

 وداووا كل شَنْئان

أطيعوا الحق والخير أديموا الشكر واليسر

لما لا يعقب الضير أشيعوا بينكم خيرا

أشيحوا شين إخوان

دعوا مَنّا أذى وبَذىً نهاكم رب عن هذا

وعاهدكم فمن نبذا يرى ما تصنعون إذا

صنعتم غير نومان

وخلاصة المقال أنّ الشاعرين بصفتهما زعيمين في الدين ومرشدين نحو القيم المثلى لتكوين أجيال سليمة وأُطر أقوياء في العقيدة الأشعرية متمسكين بالثوابت الدينية الأصلية فقهًا وتصوفا لذلك ضمّنا كامل القصيدة بالوعظ والإرشاد والتوجيهات القيمة في مسار التصوف.

ونختتم القصيدة على طولها[10] بأبيات يقوم كل من الشيخين بتعريف نفسه وهويته أثناء المراسلات، وقال الشيخ انجاي الموريتاني:

أسائل عين ناظمها أسيْمي انجاي مشتهر

لدى قومي وجيراني لوالده عمر يعرف

كفى من ذلك تبياني

فأجاب الشيخ داود السنغال هو الآخر، فقال:

أنا البوليّ[11] داود سليل سُليم محمود

معي من جاء كي نُجزى بفضل الله لا نُخزى

فبهبابيُّ هو المعني

والملاحظ هنا في هذا التخميس دقة النظر ونزاهة التفكير ورغبة أكيدة في بناء الإنسان الإفريقي المسلم على أساس العقيدة الأشعرية والسنة المطهرة. كما تظهر من خلال القصيدة درجة الرجلين من التصوف السني ورغبتهما في تثبيت دعائم العرف الإفريقي بجانب الهوية الإسلامية، ﴿ولكل درجات مما عملوا ولنوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون﴾[12].

فجزى الله الشاعرين عن الإسلام والمسلمين خيرا، فقد أدّيا حقّا واجبهما الدعويّ ونفّذا وصية الرسول عليه الصلاة والسلام التي وصّى بها علماء الأمّة الإسلامية، في قوله: «بلّغوا عنّي ولو آية». فذلك من واجبات كل عالم في محيط المجتمع الذي يعيش فيه وإن لم يفعل فقد أهمل أعظم واجب في الإسلام.

وهذا ما فهمه الشيخان الجليلان فقاما بدورهما على أحسن وجه عن طريق الشعر لما للشعر من الأثر. فجزاهما الله عن الأمة خيرا، ﴿وفي ذلك فليتنافس المتنافسون﴾[13]، وبمثله فليعمل العاملون…

جعلنا الله ممن يستمعون الق ول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وفي ختام هذه المقالة نقدم الشكر الجزيل لصاحب الجلالة أمير المؤمنين مولانا محمد السادس ملك المملكة المغربية الشقيقة، ورئيس مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، أيّده الله ونصره في هذا المشروع المقدس لجمع شمل علماء القارة السمراء وتوحيد صفوف الأمّة الإسلامية فيها، فالله تعالى نسأل أن يطيل عمره موفورا بالصحة والعافية حتّى يتم على يده هذا المشروع العظيم، وأن يقر عينه بولي عهده وبجميع الأسرة الملكية، كما نسأله تعالى التقدم والرفاهية للشعبين الشقيقين، وأن يوثق العلاقة والصداقة بين البلدين وبين جميع بلدان القارة. سائلا المولى عز وجل كذلك أن يعم الأمن والاستقرار كافة البلدان الإفريقية، حتى تتحقق عولمة القارة الإفريقية على أساس الأخوة الإسلامية ووحدة الصف بين علمائها، لتحقيق أمنية أمير المؤمنين عن طريق هذه المؤسسة المباركة التي بدأت تؤتي أكلها كلّ حين، حيث يتم من خلالها تبادل الآراء والخبرات بين علماء القارة فلله الحمد والشكر.

ونختتم أخيرا بالشكر لإدارة المجلة ومديرها وكافة العاملين فيها لإتاحة الفرصة بإبداء أفكار العلماء. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين والسلام على من اتبع الهدى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ودمتم كما رمتم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق الخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق وعلى آله وصحبه وسلم.

الهوامش

[1] -سورة القصص، الآية: 51.

[2] -الحجرات، الآية: 13.

[3] -سورة المائدة، الآية: 3.

[4] -صحيح مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة.

[5] -سعاد هنا يعني النفس أي حوار الشيخ مع نفسه في القضية…

[6] -يريد هنا في كل حين: صباحا ومساء تعلو أصوات الذاكرين بالورد…

[7] -كان أصل البيت (فضاق الجوّ للإخوان)، فتم تعديلها بما يناسب…

[8] -سورة الأحزاب/ الآية: 56.

[9] -ننبه على أنّ كل وحدة تحتها خط، فهي للشيخ داود السنغالي والوحدتان الأخيرتان للشيخ انجاي بهبابي الموريتاني.

[10] تقع القصيدة على أكثر من 100 بيت

[11] -تنبيه: كلا الشاعرين سمي مدينته التي ينتمي إليها في البلاد، فمدينة الشيخ داود سي: امبول بران Mbolo Birane، فهو لقب للقبيلة فسميت به تلك المدينة. فجاء الشاعر بياء النسبة فقال: بولي. ومدينة زميله: بهبابي Bababé.

[12] -سورة الأحقاف، الآية: 18.

[13] -سورة المطففين، الآية: 26.

تحميل المقال بصيغة PDF