مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

الشيخ عثمان بن فودي ومنهجه في التربية الروحية لأتباعه

د. علي يعقوب
الجامعة الإسلامية بالنيجر

الشيخ عثمان بن فودي ومنهجه في التربية الروحية لأتباعه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فقد شهدت القارة الإفريقية عامة وغربها بخاصة في القرن التاسع عشر الميلادي موجة من الحركات الإصلاحية  لنشر الإسلام في المنطقة على أيدي شيوخ الطرق الصوفية وغيرهم، ولتجديد ما اندثر من معالم الإسلام لطول الزمن بعد انهيار الإمبراطوريات الإسلامية،  وإطباق الجهل على بعض المجتمعات في المنطقة ،ولمواجهة الاستعمار الغربي الذي بدأ يتوغل فيها وبخاصة على السواحل، وقد زخرت المنطقة بالعديد من العلماء الربانيين الذين ساهموا مساهمة فعالة في دفع عجلة الحياة الثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية في مجتمعاتهم، وخلفوا تراثا فكريا ضخما في جميع مجالات العلوم الإنسانية والتربوية، غير أن معظم التراث الذي خلفوه ظل مغمورا، وسار محبوسا في المكتبات، ودور المخطوطات، مما قلل من الاستفادة منها، زيادة على قلة الكتابات عن هؤلاء العلماء، وبخاصة في المجال التربوي الذي يعد من أهم مجالات إعداد الأمم، وأغلب الكتابات الحالية عنهم تاريخية أو حربية سياسية، والإهمال شبه الكلي للمجال التربوي والمنهجي الذي يعتبر من أهم الجوانب التي ينبغي الاعتناء بها سواء في مؤلفاتهم أو دروسهم للوقوف على أسس التربية الروحية التي اعتمدوا عليها في بناء جيل يؤمن برسالة نشر الإسلام والدفاع عنه.

ومن العلماء الذين قاموا بحركات إصلاحية في غرب إفريقيا في القرن التاسع عشر الشيخ عثمان بن فودي في شمال نيجيريا وجنوب النيجر وشمال بوركينا فاسو والكاميرون، الذي جدد معالم الإسلام، وأحيا ما اندثر منها بسنانه وقلمه، واتبع منهجا تربويا في تهذيب نفوس أتباعه وتزكيتهم حتى استطاعوا أن يؤسسوا دولة اسلامية ذات رقعة جغرافية واسعة وتعتبر كذلك من أكثر الدول الإسلامية في السودان الغربي في مجال الإنتاج العلمي، وذلك لتفرغ المؤسس للتربية وللعلم والعبادة، أي جمع بين العلم والعمل.

وهذه ورقة بحثية بعنوان: الشيخ عثمان بن فودي ومنهجه في التربية الروحية لأتباعه، نريد من خلالها تسليط الضوء على منهج الشيخ عثمان بن فودي في التربية الروحية التي نجحت في تكوين أتباعه تكوينا علميا وروحيا في السودان الغربي في القرن التاسع عشر الميلادي.

المبحث الأول: نبذة عن الشيخ عثمان بن فودي ودولته الإسلامية

ولادته ونشأته

ولد الشيخ عثمان بن فودي «يوم الأحد في أواخر صفر سنة ألف ومائة وثمانية وستين من الهجرة»[1] الموافق ديسمبر 1754م في قرية مرتاMarata   في أرض غوبر  Gobir إحدى ولايات الهوسا السبع (وتقع القرية حاليا في جمهورية النيجر) ولد لأبوين صالحين، ونشأ في حجرهما، كان أبوه محمد عالما من العلماء في المنطقة، اشتهر بالعلم والصلاح والتقوى والزهد، وكذلك والدته (حواء) كانت من أهل العلم والصلاح.

نشأ الشيخ عثمان في أسرة صالحة وعلى التربية القوية، والخلق الحسن طاهرا زكيا حتى استوي عوده على التدين والخلال الكريمة[2] قد أولع منذ صغره بالعبادة والعلم معا، وظل هذان الخلقان يلازمانه من صباه إلى موته، حتى عرف عنه فكان يلقب بذي النورين- أي نور العلم والعمل-.

دراسته

بدأ تعليمه على يدي والده الشيخ محمد بن عثمان،  فقرأ عليه القرآن الكريم ، ومبادئ العلوم الشرعية واللغوية، كما أخذها عن والدته (حواء)، ثم أخذ في تحصيل العلوم الأساسية المعهودة في تعليم النشء المسلم،  فدرس النحو وعلوم اللغة على يدي الشيخ عبد الرحمن بن أحمد، ثم درس الأدب وفنونه على يدي الشيخ عثمان المعروف ببندر الكبوي، وقرأ مختصر خليل، وغيره من كتب الفقه المالكي على عمه المعروف ببندور، ودرس التفسير على يدي خاله الشيخ أحمد بن محمد الأمين ،وصحيح البخاري على الشيخ محمد بن راج وأجازه الشيخ محمد جميع مرويا ته، ثم رحل لطلب العلم إلى مدينة- أغاديس Agades في شمال جمهورية النيجر للدراسة على  الشيخ جبريل بن عمرـ ومكث عنده سنة يدرس الحديث وعلومه، ثم رجع إلى أهله لسفر الشيخ جبريل بن عمر إلى الحج، ولم يستطع الشيخ عثمان السفر معه ،لأن أباه لم يأذن له في المسير إلى الحج[3].

يعتبر الشيخ جبريل من الشيوخ الذين أثروا في الشيخ عثمان تأثيرا كبيرا، وبخاصة في حركته الإصلاحية ويقول الشيخ محمد بلو بن عثمان: «إنه- أي الشيخ جبريل- أول من قام بهدم هذه العوائد الذميمة في بلادنا السودانية هذه، وكان كمال ذلك ببركته على أيدينا»[4]، وما إن عاد جبريل من الحج حتى رجع إليه الشيخ عثمان مع أخيه الشيخ عبد الله بن فوديو، ووجدا الشيخ جبريل في مورد الماء المسمى كودي Kodi ومكثا مدة، ثم رجع الشيخ عثمان وترك عبد الله عنده ينهل من علمه، وبقي عنده مدة ثم رجع إلى أهله[5].

وعنه أخذ الشيخ عثمان الطريقة القادرية الصوفية، ويقول الشيخ عثمان في السلاسل القادرية وهو يتحدث عن سلسلته في السند: (أما أنا فشيخي أبو الأمانة جبريل بن عمر، وشيخه محمد مرتضى الحسيني والواسطي … إلى آخر السلسلة المنتهية عند عبد القادر الجيلاني)[6].

تدريسه ودعوته إلى الإسلام: بعد تبحر الشيخ عثمان في العلوم الدينية واللغوية ،جلس للعلم وطلابه، فكان يدرس الطلاب ويعظ الناس– العوام- ويرشدهم إلى الإسلام الصحيح ونبذ العادات السيئة المخالفة للإسلام الصحيح، وجعل  ينتقل من قرية لأخرى مع أخيه الشيخ عبد الله بن فوديو للإرشاد، يقول الشيخ عبد الله بهذا الصدد: «أقمنا مع الشيخ نعينه على تبليغ الدين نسير لذلك شرقا وغربا يدعو الناس إلى دين الله بوعظه وقصائده العجمية ويهدم العوائد المخالفة للشرع… إلى أن سرنا معه إلى بلاد كبي(kibbe) فدعاهم إلى إصلاح الإيمان والإسلام والإحسان ،وترك العوائد الناقضة لها فتاب كثير منهم »[7]  وكان الشيخ عثمان في دعوته لا يسير إلى الملوك ولا يحب التقرب إليهم، لكن «لما كثرت الجماعة عنده واشتهر أمره عند الملوك وغيرهم، ورأى أن لا بد من السير إليهم فسار إلى ملك غوبر (Gobir) باوا، وبين له الإسلام وأمره بالعدل في بلاده، ثم رجع إلى وطنه»[8] .

وبعد استراحة قليلة بين أهله، انتقل الشيخ عثمان إلى بلاد زنفر  (zanfara)للدعوة إلى الله تعالى، وأقام فيها خمسة أعوام للدعوة والتعليم، وسبب طول إقامته فيها هو أنه قد «غلب على أهلها الجهل لم يشم غالب أهلها رائحة الإسلام »[9]  ولما اطمئن على إسلامهم وتفقههم في الدين، رجع الشيخ إلى وطنه واستمر في الدعوة إلى الله تعالى بالوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتدريس، فازداد أتباعه وكثروا إلى حد ضاق به السلطان ذرعا  فاستدعاه لحضور عيد الأضحى مع باقي العلماء ،لكنه في الحقيقة كان يدبر لقتل الشيخ عثمان، ولما اجتمع العلماء عند السلطان تصدق عليهم بالأموال،  فقام الشيخ عثمان بين يديه وقال له: «إني وجماعتي لا حاجة لنا إلى أموالك، ولكن أسألك كذا فعدد له أمورا كلها من إقامة الدين ،فأجابه السلطان: «بأني أعطيتك ما سألت ورضيت لك بجميع ما تحب أن تفعل في بلادنا هذه »[10] ، ثم رجع الشيخ إلى قريته سالما غانما، واستمر في دعوته وتدريسه إلى أن مات ذلك السلطان (باوا) وخلفه أخوه ياكُبُو، وجعل يكيد للشيخ كسلفه  لكنه ما لبث أن هلك، وتولى بعده أخوه نفاتا (Nafata) الحكم، وصار على نهج سلفيه في الكيد للشيخ إلى أن مات، فتولى السلطة ابنه يُنْفَ(Yunfa) – تلميذ الشيخ سابقا- وكان قد وعد الشيخ عثمان قبل توليه السلطة بإلغاء المرسوم الذي أصدره سلفه بمنع الوعظ، ومنع الدخول في الإسلام لمن لم يرثه من أجداده، وألا يتعمم أحد بعد اليوم [11]، وغير ذلك من القرارات الجائرة ضد الشيخ وأتباعه، لكن ما أن وصل (ينف) إلى سدة الحكم حتى انقلب رأسا على عقب، وبدأ يحاكي المكايد والمؤامرات للفتك بالشيخ وأتباعه، ووصل به الأمر أن أغار على جماعة أحد أتباع الشيخ ـ اسمه الشيخ عبد السلام لما رفض الانصياع لأوامر السلطان بالرجوع عن هجرته، أغار عليهم في نهار رمضان وهم صائمون ونهب أموالهم، وأسر ذراريهم،  واستهزأ بالإسلام وأتباعه ، فزاده ذلك طغيانا فجعل يهدد الشيخ وجماعته إلى أن أمر الشيخ أن يخرج بين جماعته ويفارقهم هو وعياله فقط «فأرسل إليه الشيخ بأني لا أفارق جماعتي ،ولكن أفارق بلادك وأرض الله واسعة»[12] ، ثم هاجر الشيخ إلى مكان في أطراف بلاد غوبر يسمى قُد ُ(Godo)  لكن هذه الهجرة لم تشف غليل السلطان الذي يريد القضاء على الإسلام وأهله، لذلك استمر في مضايقة الشيخ وأتباعه بأخذ أموالهم ،وهذا ما أشار إليه الشيخ محمد بلو بقوله «ثم جاوز الأمر إلى أن كانوا يرسلون الجيوش إلينا فاجتمعنا لما اشتد ذلك فأمّرنا الشيخ علينا لينضبط أمرنا »[13]  كانت هذه البيعة بداية الجهاد وإيذانا بتأسيس الدولة الإسلامية، فبدأ الشيخ وأتباعه يدافعون عن أنفسهم بإرسال السرايا إلى القرى التابعة للسلطان، مثل: قرية غيغومَتَنْكرى، فحالف السرايا الحظ حيث انتصرت وعادت سالمة وغانمة، ولما رأى السلطان أن الشيخ عثمان وأتباعه، بدأوا يشكلون خطرًاً كبيرًاً على دولته، راسل أمراء الهوسا يطلب منهم العون والمساعدة للقضاء على الشيخ وأتباعه، فأرسلوا له العون المطلوب، فجهز السلطان جيشا عرمرما للقضاء على الشيخ وأتباعه، فالتقى الجيشان قرب بحيرة تسمى «كتو» فهزم الله جيش السلطان هزيمة نكراء، وتعتبر هذه المعركة من أعظم المعارك التي جمعت بين سلطان غوبر «ينف» والشيخ عثمان بن فودي وأتباعه، وهي كما وصفها الشيخ محمد بلو بمثابة يوم التقى الجمعان[14] وكانت بداية الانطلاق، وصاروا يغزونهم في عقر ديارهم إلى أن فتح الله عليهم كل بلاد هوسا، وعين فيها أمراء من تلاميذه لتعليم الإسلام ونشره وحفظ بيضته.

وفي عام 1812 بعد استتابة الدولة وقيامها على سوقها قام الشيخ عثمان بتقسيمها إلى قسمين:

  1. القسم الشرقي للدولة وضعه تحت إمرة ابنه محمد بلّو وعاصمته مدينة سكتو.
  2. القسم الغربي للدولة وضعه تحت إمرة أخيه عبد الله بن فوديو وعاصمته مدينة (غندوGondo).

ثم تفرغ الشيخ للعبادة والعلم في مدينة سفاوا (Sifawa) واعتزل السياسة وأمور الحكم، لأنها ليست من أهدافه الأساسية، بل اضطر إلى ذلك، فلما استتب الأمن، وانتشر الإسلام الصحيح، رجع إلى هدفه الذي فرغ نفسه له، وهو العلم والعبادة والذكر.

في عام 1817م توفي الشيخ عثمان بن فودي في مدينة سفاوا وحُمل إلى مدينة سكتو، ودفن فيها رحمه الله تعالى رحمة واسعة آمين.

قد خلَف الشيخ دولة تمتد من غربي النيجر غربا إلى حدود البرنو شرقا، وإلى الجنوب حتى أدماوا شمال الكمرون، وإلى الشمال حتى مشارف الصحراء الكبرى.   ومجمل القول إنه قد حكم دولة سكتو الإسلامية من عام تأسيسها على يدي الشيخ عثمان بن فودي إلى عام 1903م حيث سقطت على يدي الإنجليز أحد عشر خليفة، وقد حاول كل واحد منهم أن يحافظ على الكيان الذي تركه مؤسس الدولة من حيث الجهاد والتعليم، وتطبيق الشريعة الإسلامية.

المبحث الثاني: منهج الشيخ عثمان بن فودي في التربية الروحية

قد رفع الإسلام مكانة العلم والعلماء وخصهم الله تعالى بخشيته من بين سائر عباده وقال تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»[15] وجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء فقال صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر»[16].

ولا تقتصر مهام العلماء على التدريس في المدارس والمساجد بل تمتد لتشمل جميع أنشطة الحياة لأنهم قدوة المجتمع وشعلته المضاءة، مما يحتم عليهم أن يكونوا في مقدمة المشاركين في الأنشطة الاجتماعية والسياسية والتصدي للمصائب التي تحل بالأمة إما باللسان أو بالقلم أو بالسنان.

ويعتبر الشيخ عثمان بن فودي من العلماء الذين أولو العلم والتربية كل الاهتمام، لأنه آمن أن العلم والتربية لا يفترقان، وأنه لا علم بغير تربية، وتميزت دولته باهتمام مؤسسها وخلفائه بالعلم، بل إن أغلبهم من العلماء الفطاحل، واهتموا بفتح المدارس القرآنية لتعليم الصغار وتربيتهم تربية دينية، وكذلك فتحوا الحلقات العلمية للكبار، وكان العلماء يفتحون أبواب بيوتهم على مصارعها للتدريس واستقبال طلاب العلم، وكانوا يدرسون العلوم الدينية والتربوية واللغوية.

إن الحياة البشرية لا تستقيم ولا ترقى، ولا يحدث لها توازنها المنشود الذي يُسعد الإنسان كفرد أو جماعة في الدنيا ويفوز في الآخرة إلا إذا ظللتها الحياة الروحية التي تقوم على صفاء الروح وطهارة  النفس، كثمرة من ثمرات التربية الروحية التي أمر بها الإسلام والتزمها الربانيون من العلماء في حياتهم الخاصة وفي تربية أتباعهم ،وتمكنوا من صناعة جيل يؤمن بالإسلام ويدافع عنه مع الالتزام بالأخلاق الإسلامية ،ويعتبر الشيخ عثمان بن فودي من العلماء الذين نجحوا في تربية أتباعه واتبع في ذلك منهجا رسمه لنفسه، ويظهر منهج الشيخ عثمان في التربية الروحية  في عدة مجالات التي اهتم بها في تعليمه ووعظه وإرشاداته من أهمها:

1ـ تهذيب النفس

اهتم الشيخ عثمان بالتربية الروحية في دعوته وتدرسيه وذلك بتهذيب النفس وتزكيتها على منهج التصوف السني، ورسم لذلك منهجا هادفا الذي من خلاله يصلح الفرد الذي بصلاحه يصلح المجتمع وينمو، ووضّح المنهج الذي ينبغي سلوكه في تهذيب النفس وإصلاحها من خلال دروسه ومواعظه بقوله: «واعلم أن من قواعد الصلاح مراقبة الأوقات بحقوقها بالتوبة عند العصيان، وشهود المنة بالطاعة، والرضى بقضاء الله في البلية،  والشكر في النعمة وينال ما ذكر مع عون الله تعالى برياضة النفس، والخلوات والصمت إلا عن ذكر الله، وترك النوم إلافي الضرورة حتى يخلص القلب من الصفات المذمومة ويتصف بالمحمودة بنور يقذفه الله فيه بلا واسطة فضلا منه أو بعقل كامل، وعلم واسع واجتهاد صاف، أو بصحبة شيخ مرب أو اخ صالح مع إدامة ذكر الصلاح »[17] . ونرى الشيخ هنا يركز على تهذيب النفس بالتوبة والرضى بقضاء الله وقدره، ورياضة النفس وملازمة الخلوات والصمت إلا عن ذكر الله مع قلة النوم إلا للضرورة، وأن هذا كله يتحقق بعلم واجتهاد أو بصحبة شيخ مرب، وهذا كله لتهذيب النفس وتنقيته من أدران المعاصي التي تدنس صفاءها ونقاءها، ويربي مريديه ويرشدهم إلى آداب السلوك والمعاملة، والقدوة الحسنة.

 2ـ التعليم

للشيخ عثمان نوعان من الطلاب الصفوة والعوام

أـ الصفوة وتعليمهم وتربيتهم: وهم عبارة عن صفوة من طلابه الممتازين الذين أطلق عليهم اسم «الجماعة» وقد تكونت هذه الجماعة في الأساس من تلاميذه الذين نهلوا العلم على يديه حيث قام بصقلهم فكريا وتهنئتهم ذهنيا وعلميا وتهذيب نفوسهم، وذلك بهدف قيامهم بمسؤولياتهم التربوية والدعوية في المجتمع، وينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: قسم ملازم للشيخ في حضور دائم، ذلك لأن مسؤوليتهم كانت تقوم على شرح دروس الشيخ ونسخ كتبه ونشرها في أرجاء البلاد، وذلك بهدف التمكين لرسالة الإسلام في الانتشار والتمكين لها في أذهانهم على أن الإسلام دين شامل تتكامل فيه الروح والعقل والجسم ويعنى بالتربية الروحية والجسمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية[18].

أما القسم الثاني من الصفوة فقد كانوا يخرجون من عند الشيخ بعد إكمال تربيتهم علميا وروحيا وينتشرون في مناطق شتى من بلاد السودان الغربي والأوسط يُعلمون الناس الدين الإسلامي وينشرون الدعوة في مناطقهم عن طريق الدرس والوعظ والتربية الروحية، ولا يكتفون بذلك، بل كانوا يرسلون بعضا من تلاميذهم النجباء ليتلقوا العلم عند الشيخ الشيء الذي يحفظ لهم علاقاتهم بشيخهم، إما مباشرة أو عن طريق مؤلفاته التي كانوا يقومون بتدريسها وشرحها ونسخها وتوزيعها على تلاميذهم الذين يقومون بتدريسها[19].

قد اتخذ الشيخ عثمان في تربية جماعته (الصفوة) طريق التربية الروحية التي تعمل على نقاء الباطن وإصلاحه، أي على الزهد والتواضع والإخلاص، ودربهم على مختلف الأعمال من حفظ القرآن الكريم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أسلوب التعليم والدعوة بالموعظة الحسنة والحكمة[20].

قد لعب هؤلاء (الصفوة) دورا كبيرا في نشر العلم والإسلام في مناطق واسعة من السودان الغربي، بل نجح بعضهم في إقامة ممالك إسلامية تابعة لدولة الشيخ عثمان في مناطقهم مثل مودبو آدم في منطقة أدماوا (شمال شرق نيجيريا وشمال الكمرون) والشيخ صالح بن محمد بن جنتا الذي أسس أول حكومة إسلامية في إلورين ilorin)) ببلاد يوربا في الجنوب (نيجيريا) والشيخ يعقوب في ولاية باوتسى، وغيرهم.

ب ـ تعليم العوام: لم يقتصر الشيخ عثمان على تعليم الصفوة فقط بل خرج إلى العامة يعلمهم ويحدثهم ويكسبهم إليه بجذب قلوبهم بما كان يحدثهم به من علم قريب من أفهامهم مستعملا في ذلك أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، فقط كان الشيخ عالما بنفسية مجتمعة وله إدراك عميق للتركيب الاجتماعي والسياسي في بلاد الهوسا، فقد كان يخرج لوعظ العوام أيام الجمع وبعد العشاء من كل يوم، فأول اليوم خلوة ومنتصفه جلوة، وآخره دعوة، بهذا المنهج التعليمي التربوي استطاع الشيخ عثمان أن ينشر الشعاع العلمي الروحي في السودان الغربي، وأقام دولة إسلامية استمرت لمدى قرنين[21]، وكذلك طلابه الذين نشرهم في طول البلاد وعرضها ينهجون نفس نهجه في الوعظ والتربية الروحية لأتباعهم وتلاميذهم.

3ـ الوعظ

بدأ الشيخ عثمان مهمة الوعظ حوالي سنة 1775م وقضى في هذه المرحلة ما يقرب من ثلاثين سنة قبل أن يدخل في مرحلة الجهاد المسلح 1804م وقد ركز على الوعظ والتربية الروحية، واتبع في تحقيق ذلك الوسائل التربوية دقيقة ،حيث ركز على توجيه دعوته إلى كافة طبقات المجتمع دون اقتصار فئات معينة ،واقتصرت المواضيع التي تناولها خلال هذه المرحلة على تعليم فروض الأعيان وإزالة بعض الإشكاليات المتعلقة بالدين[22]، وينقل لنا ابنه الشيخ محمد بلو صورة مجلسه في التعليم والتربية ويقول: «إذا وصل المجلس سلّم بسلام عام يسمعه جميع الحاضرين، وإذا صعد إلى الكرسي حياهم بتحية عامة ثلاث مرات ببشاشة وطلاقة الوجه، ثم ينصت الناس فلا يضجر ولا يحقد ولا يسأم، مع كونه مبتلى بجماعة من العوام ذوي سوء أدب، إذا أنصتهم لا يسكتون، وإذا منعهم من السؤال لا ينتهون، ثم يحدثهم بصوت عال، لا يواجه بخطابه أحدا دون آخر، ولا يستحي أحدا من الحاضرين، وإن كانو شيوخا جلة، أو علماء حسدة ، بل يتكلم على الجميع ، ولا يبالي بهم في ما يعم الانتفاع به »[23] . ويظهر من هذا النص حنكة الشيخ عثمان في التعامل مع مستمعيه، واستعماله أسلوب التعليم المباشر في التربية والتدريس وصبره مع بعض مستمعيه سيء الأدب.

ويعتبر أسلوب التعليم المباشر من الأساليب التربوية التي اتخذها الشيخ عثمان في نقل العلم لتلاميذه، فقد كان الشيخ عندما يريد الخروج إلى الدرس «يقف في زاوية الدار هنيهة، ويتكلم بكلام ثم ينصرف إلى الناس فسألته- السائل ابنه محمد بلو- عن ذلك، فقال: أجدد النية وأعاهد الله على الإخلاص فيما أخرج إليه وأسأله أن يفهم الحاضرين ما أحدث به». كما اتخذ الشيخ أسلوب الوعظ والإرشاد في مخاطبة العوام وتعليمهم باللين والرفق ولا يضجر ولا يسأم، وكانت دروسه ووعظه للرجال والنساء، بل يعتبر أول من عقد حلقة علم لتعليم النساء في المنطقة.

نموذج لمجلس الشيخ عثمان بن فودي

كان الشيخ يبدأ مجلسه بتجديد النية والإخلاص لوجه الله والدعاء بالتوفيق والقبول ونفع الناس بما يقول، ثم يفتتحه بخطبة شيخه (عبد القادر الجيلاني) أو بخطبة أخرى أو بحديث الرحمة أو حديث إنما الأعمال بالنيات، ثم يركز كلامه على جانبين: الباطن والظاهر أو القلب والجوارح.

أما الجانب الأول وهو جانب القلب: فيذكر فيه أن صفات القلب على ضربين مهلكات ومنجيات، ويبدأ الحديث عن التخلية (ما يجب التخلي عنه) ثم التحلية (ما يجب التحلي به)  فيذكر أن المهلكات هي: الكبر والعجب والحسد والحقد والرياء وحب الجاه، والافتخار وإساءة الظن بالمسلمين، فهذه المهلكات من أصول مذمومة الأخلاق، ويجب على كل مسلم أن يتخلى عنها، ويشرحه كل واحد منها، ثم يتكلم عن المنجيات التي يجب على كل واحد أن يتحلى بها وهي: التوبة والإخلاص والصبر والزهد والتوكل وتفويض الأمر إلى الله والرضا بقضائه والتقوى والخوف والرجاء، وهذه المنجيات من أصول محمود الأخلاق، ويمضي في شرح كل واحدة منها[24].

أما الجانب الآخر وهو جانب الجوارح: فيذكر فيه أنه يجب على كل مسلم أن يحفظ أذنه من استماع كل لغو وباطل، وأن يحفظ عينيه من النظر إلى الحرام والهمز واللمز، ثم يذكر واجبات كل عضو من الأعضاء، ويعزز أقواله بأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء وبخاصة الغزالي الذي تأثر به في تقسيمه لأعمال القلوب والجوارح والمنجيات منها والمهلكات.

وكان لدروس الشيخ ومواعظه آثار كبيرة في أتباعه ومجتمعه حيث كانت سببا لتذويب كثير من حمية الجاهلية وتعصبها وتفاخر بالقبائل، وانتشرت رابطة الإخوة الإسلامية لا فرق بين هوساوي وفلاني وغيرهما من القبائل.

كما أن الشيخ عرف بالتقوى والصلاح مع غزارة العلم والمعرفة والتأني الحكيم مع العزم الحاسم المتوكل على الله مما جعله قدوة للناس، والقدوة في التربية الروحية التي هي أفضل الوسائل وأقربها إلى النجاح، قد اعتمد الشيخ عثمان عليها ليحقق التغيير المنشود حيث تدور مفردات المنهج حول خمسة محاور تتمثل في أصول الشريعة وفروعها، والحث على إتباع السنة النبوية والتصوف السني، والتصدي للعادات التقليدية المخالفة للإسلام، والإخلاص في العمل مع العلم وتقوى الله تعالى والزهد والتواضع، وكان الشيخ منشغلا بالعلم يملأ ذلك حياته، ويستفيد ساعات ليله ونهاره، وكان لا يخلو يوم وليل من مجلس أو أكثر للدرس والوعظ في نسق وترتيب منظم، واستطاع بهذا المنهج الروحي والعلمي والوسائل أن ينشر الإسلام وثقافته في مساحات واسعة من السودان الغربي، ومما لا شك فيه أن الحركة الإصلاحية التي قادها الشيخ عثمان بن فودي، قد أثرت في بعض الحركات الإسلامية في غرب إفريقيا من حيث المنهج، أي التركيز على العلم والعبادة والتربية الروحية مثل: حركة الشيخ أحمد لبو الماسني في بلاد ماسينا، لقد كان الشيخ أحمد لبو أحد أتباع الشيخ عثمان بن فودي روحيا[25] وتأثر بكتابات الشيخ الإصلاحية، وتمكن من إقامة دولة إسلامية أشد صرامة في تطبيق الشريعة الإسلامية، والعبادة والتعليم والتربية الروحية، وحركة الحاج عمر بن سعيد الفوتي في غينيا ومالي والسنغال[26] وغيرها من الحركات الإصلاحية في السودان الغربي في القرن التاسع عشر الميلادي.

خاتمة: نتائج وتوصيات

وفي الختام قد توصلنا إلى النتائج التالية:

  1. أن التربية الروحية تساعد على تهذيب النفس مع الزهد والتواضع والإخلاص.
  2. أن الشيخ عثمان قد نجح في تربية روحية لأتباعه.
  3. أن العلم والتربية الروحية أساسان لكل خير، حيث ركز الشيخ عثمان عليهما في بناء دولته.
  4. للشيخ دور كبير في نشر العلم والعبادة والزهد في السودان الغربي في القرن التاسع عشر الميلادي.

ونوصى بالآتي:

  1. على الجيل الحالي أن يهتموا بقراءة سير السلف الصالح لتزكية النفس، وصقل الفكر والاقتداء بهم في أخلاقهم وأعمالهم.
  2. تدريس سيرهم في المناهج الدراسية المعاصرة لتنشئة جيل مؤمن بالله مع حبه لدينه ووطنه.
  3. الاهتمام بالثوابت المشتركة بين علماء المغرب وعلماء إفريقيا لنشر ثقافة التعايش السلمي في المجتمعات والدول.

الهوامش

[1] الشيخ الوزير جنيد، ضبط الملتقطات، مخطوطة في مكتبة الباحث، ص 16 ، وقد اختلف في تاريخ ولادته على أقوال

وكذلك مكان الولادة، والذي أثبتناه هو المشهور

[2] محمد بلو، إنفاق الميسور، طبعة 1964، القاهرة، مصر، ص 66.

[3] الوزير جنيد المصدر السابق، ص 17. وهذا يفند القائلين بأن الشيخ عثمان قد ذهب إلى الحج، وتأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم رجع ودعا إليها في السودان الغربي، وإنما تأثر الشيخ عثمان بشيخه جبريل بن عمر الذي حج وجاور، وبعد رجوعه، قام بالدعوة إلى تجديد معالم الإسلام والعقيدة الصحيحة في المنطقة، ومن تلاميذه الشيخ عثمان بن فودي.

[4] الشيخ محمد بلو، المصدر السابق، ص 54.

[5] -3 انظر تزيين الورقات للشيخ عبد اله بن فودي، مخطوط في مكتبة الباحث ، ص 8.

[6] انظر عثمان بن فودي، السلاسل القادرية، مخطوط في مكتبة الباحث، ورقة 1

[7] المصدر السابق، ص 8

[8] عبد الله بن فوديو، المصدر السابق، ص 4

[9]  المصدر السابق، ص 4

[10]  المصدر السابق، ص 7

[11] انظر إنفاق الميسور، ص 95

[12] عبد الله فوديو، المصدر السابق، ص 30

[13] المصدر السابق ص 30

[14]  انظر إنفاق الميسور، ص 103

[15]  سورة فاطر، الآية: 28

[16] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل تعليقا، صحيح البخاري، ط 2، 1999، مكتبة دار السلام، ص 16

[17] عثمان بن فوديو، قواعد الصلاح مع فوائد الفلاح، مخطوط في مكتبة البحث، ورقة 2.

[18] د. أحمد عمر عبيد الله، الأسس التربوية لحركة التجديد عند الشيخ عثمان بن فوديو، ضمن بحوث الندوة العالمية حول الشيخ عثمان بن فوديو بجامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم 19 21 نوفمبر 1995 م، ص 110 بتصرف.

[19] وما زالت بعض الحلقات العلمية في المنطقة تُدرس بعض كتبه.

[20]  المصدر السابق، ص 111

[21]  المصدر السابق، ص 112 بتصرف.

[22] -2 انظر, بهيجة الشاذلي, الإسلام والدولة في إفريقيا جنوب الصحراء, مركز الدراسات الصحراوية 2015 م جامعة محمد الخامس الرباط، ص 14

[23]  انفاق الميسور، ص 85 .

[24] انظر: حسن عيسى عبد الظاهر، الدعوة الإسلامية في غرب إفريقيا وقيام دولة الفلاني، الطبعة الأولى 1989 م جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ص 204 .

[25]  لكن لم يلقه كما هو المشاع عند بعض المؤرخين لكنه قادري الطريقة مثل الشيخ عثمان بن فوديو.

[26] هو الناشر للطريقة الصوفية التجانية في غرب إفريقية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.

فهرس المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

أولا: المخطوطات

1 ـ جنيد الوزير، ضبط الملتقطات، مخطوطة في مكتبة الباحث.

2ـ ـ عبد الله بن فوديو، تزيين الورقات، مخطوط، في مكتبة الباحث.

3ـ عثمان بن فوديو، السلاسل القادرية، مخطوط في مكتبة الباحث.

4ـ عثمان بن فوديو، قواعد الصلاح مع فوائد الفلاح، مخطوط في مكتبة الباحث.

ثانيا: المطبوعات

1ـ بهيجة الشاذلي، الإسلام والدولة في إفريقيا جنوب الصحراء، مركز الدراسات الصحراوية جامعة محمد الخامس الرباط ،2015م.

2ـ حسن عيسى عبد الظاهر، الدعوة الإسلامية في غرب إفريقيا وقيام دولة الفلاني، الطبعة الأولى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ،1981م.

3ـ محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ط2، دار السلام ،1999م.

4ـ الشيخ محمد بلو، إنفاق الميسور، طبعة 1964م، القاهرة.

 ثالثا: الندوات

1ـ الندوة العالمية حول الشيخ عثمان بن فوديو بجامعة إفريقيا العالمية، من 19 إلى

21 نوفمبر 1995م الخرطوم، السودان.

رابعا: المجلات

1- مجلة كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، ليبيا، العدد السادس عشر ،1999م

 

تحميل المقال بصيغة PDF