مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

إمارة المؤمنين وحوار الأديان من خلال «نداء القدس»

دة. وداد العيدوني
عضو مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة

تقديم

تمثل القدس بمختلف مكوناتها وأبعادها، رمزًاً من رموز الهوية الدينية، والثقافية ،بما تحتويه من موروث حضاري وإنساني، تشترك فيه وتتصل معه مختلف الشعوب العربية والإسلامية، على امتداد تاريخها العريق، فهي أولى القبلتين، وثالث الحرمين ،وأرض الرسالات السماوية، وفيها من الآثار والمعالم التراثية ما يميزها عن باقي المدن التاريخية، وتأتي أهميتها الدينية من كونها المدينة التي عرج منها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذكرت في القرآن الكريم، وأنها المدينة الأهم للعالم المسيحي لأنها تضم كنيسة القيامة، والحدث الأهم في حياة رسول السلام عيسى عليه السلام.

ومن أهم وأبرز معالم القدس التراثية والأثرية، المسجد الأقصى بما فيه من مساجد ومعالم دينية وحضارية أهمها قبة الصخرة، هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الكنائس والمصليات الكنيسية والأديرة التاريخية، والتي ما زالت تؤدي وظيفتها ويستخدمها المقدسيون في القدس للعبادة والتعليم، وهي مقصد ديني للشعوب العربية والإسلامية والمسيحية، ومقصد للمهتمين في دراسة فنون العمارة والتاريخ والآثار.

والقدس الشريف بهذا، يشكل أيقونة كونية، لطالما سعت مختلف الشعوب والملوك والسلاطين والأمراء في البلاد العربية والإسلامية وغيرها، إلى حمايتها والمحافظة عليها، وأهمها مؤسسة إمارة المؤمنين سواء في المشرق أو المغرب، فإمارة المؤمنين بالمغرب دائما ما كانت حريصة على وضع القدس ضمن أولى الأولويات، وحمايتها والمحافظة عليها كانت من الواجبات التي لطالما حرص عليها أمراء وملوك المغرب، بمقتضى الإمامة العظمى لإمارة المؤمنين، ولعل آخر ما يدل على ذلك «إعلان القدس»، الموقع مؤخرا بالمغرب، بين ملك المملكة المغربية، محمد السادس نصره الله وأيده، بصفته أميرا للمؤمنين، وقداسة البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، حيث أصدرا هذه الوثيقة التاريخية الفريدة من نوعها، والتي من شأنها أن تتضمن في عمقها وأبعادها معالم التسامح والتعايش والحوار بين الأديان والشعوب والثقافات، وكذا من شأنها أن تأسس لمستقبل مشرق لأيقونة الشعوب والأديان «مدينة القدس.»

ومنه، فما الرسالة التي تبعثها مؤسسة إمارة المؤمنين من خلال نداء القدس؟ وما خلفيات وجهود إصدار النداء؟ وما الإضافة التي يشكلها هذا النداء ضمن جهود تحقيق التعايش والحوار بين الأديان في العالم؟ وما تجليات حضور أدوار وجهود إمارة المؤمنين من خلال نداء القدس؟

المحور الأول: «نداء القدس» كرسالة لقاء واتحاد الصف بين مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية ومؤسسة إمارة المؤمنين.

شكل نداء القدس، فرصة تاريخية لبعث رسالة عالمية للقاء والتفاهم واتحاد الصف بين مؤسسة الكنيسة ومؤسسة إمارة المؤمنين، رسالة مفادها تجديد وتأكيد الحوار بين الأديان، بحيث شكلت بداية محطة لاستحضار قيم الحوار والتعايش في رحاب الأمة الإسلامية (أولا)، ثم إن وثيقة النداء صدرت من قبل مؤسستين تعرفان تاريخا مشتركا من العلاقات العريقة (ثانيا)، أدى إلى جانب العديد من الجهود المبذولة إلى بروز هذا النداء «نداء القدس» (ثالثا)، وهو النداء الذي شكل مرجعية يمكن الرجوع إليها والبناء عليها مستقبلا (رابعا).

أولا: نداء القدس كمحطة لاستحضار قيم الحوار والتعايش لدى الأمة الإسلامية

شكلت الأمة الإسلامية ولازالت، فضاء رحباً مشتركاً لحسن الوئام والتعايش المتبادل والإيجابي، نابع من حسن تطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية السمحاء،

والتي تضمنت في جميع مصادرها ابتداء من القرآن الكريم، ومروراً بالسنة النبوية الشريفة، وكذا في اجتهادات الفقه الإسلامي، قيم ومبادئ وتعاليم التعارف والحوار والتعايش وقبول الآخر بل والإقبال عليه[1].

فمنهج الشريعة الإسلامية ينطلق من التعارف كمنطلق أساسي، لتحقيق عملية الحوار والتعايش،  بحيث جاء في القرآن الكريم،  قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  )[2]، فلا يمكن أن يكون هناك تعايش بدون تعارف، وخلال عملية التعارف والتواصل، فإن تعاليم الشريعة الإسلامية تجعلنا ونحن نمارسها لا نفرض على الآخر اختيار أو معتقد ديني معين ،حيث جاء في محكم كتابه العزيز: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتى يَكُونُوا مُؤمِنِينَ)[3].

ووفق نفس القيم والمبادئ والتعاليم الإسلامية، تعامل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ونفس الأمر في عصر الخلفاء الراشدين، وبعدهم مختلف أمراء وسلاطين الدولة الإسلامية، وهكذا تواتر واستمر تطبيق تلك القيم، إلى يومنا، حيث يعمل علماء الأمة على مواكبة مختلف التطورات والأحداث بفتاوى تحرص على نبذ العنف والتطرف بدواعي دينية، كما تحرص في المقابل على الدعوة لقيم السلام والتعايش والقيم الإسلامية الحقيقة، التي عاشت عليها الأمة الإسلامية لقرون عديدة.

ومنه، وأمام ما يشهده العالم من تحديات مرتبطة بتزايد حدة العنف والتطرف، فإنه لا بديل للأمة الإسلامية اليوم، إلا أن تحشد كل طاقاتها من أجل التشبث أكثر بقيمها العليا ومبادئها السمحاء، من أجل أن يتحقق تواؤم الإنسان المؤمن مع نفسه

ومجتمعه وبيئته[4]، فهناك دور كبير ينتظر الحضارة الإسلامية كي تقوم بالإسهام فيصنع الاستجابة الصحيحة لتحديات العصر ومعالجة مشكلات عالمنا المعاصر[5]، وفق تلك القيم والمبادئ.

ثانيا: إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية والكنيسة الكاثوليكية من تبادل الزيارات إلى «نداء القدس»

ترجع العلاقات التاريخية المشتركة بين سلاطين وملوك [6] المملكة المغربية والكنيسة الكاثوليكية إلى عهد قديم مند عهد الأدارسة[7]،  مرورا بالمرابطين[8]، وما بعدها وصولا إلى العلويين، فبالرجوع إلى التاريخ، نجد العديد من المحطات التي تؤرخ للحضور المسيحي في إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية ولحسن صنيع إمارة المؤمنين مع المسيحيين[9]،  سـواء كمقيمين أو كضيوف أو حتى كأسرى، ففي عهد المولى إسماعيل ،أصدر السلطان ظهيرا[10] في 8 محرم 1092ه موافق 28 يناير 1681م، يتعلق بتسهيل عمل الرهبان الفرنسيين بالمملكة الشريفة، وما تلا ذلك من تبادل للرسائل التي تخص الشأن الديني مع الملك الفرنسي لويس الرابع عشر.

كما أنه في عام 1980م، قام الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، بزيارة رسمية إلى دولة الفاتيكان، عدت هي أول زيارة من نوعها إلى الحبر الأعظم بروما من قبل رئيس دولة مسلمة يحمل صفة أمير المؤمنين.

وبعد أربع سنوات من زيارة الملك الراحل دولة الفاتيكان صدر ظهير ملكي شريف يؤكد مركز الكنيسة الكاثوليكية بالمغرب، وحقها في ممارسة مهامها بحرية خاصة فيما يتعلق بالعبادة، والتعليم الديني، وإنشاء إطار قانوني للتعايش السلمي بين المسلمين والكاثوليك، وهو ما تلاه في سنة 1985، زيارة البابا يوحنا بولس الثاني للمملكة المغربية[11].

وهكذا استمرت العلاقة الدينية بين إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية، والكنسية الكاثوليكية بدولة الفاتيكان،  إلا أن تمت مؤخرًاً وبعد 34 سنة،  الزيارة الثانية من نوعها من قبل الحبر الأعظم، وهي زيارة قداسة البابا فرنسيس، بدعوة كريمة من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، التي استمرت يومين، وهمت تناول موضوع الحوار بين الأديان وقضايا المهاجرين، وقد توجت هذه الزيارة بإصدار وثيقة تاريخية هي الأولى من نوعها، وهي «نداء القدس»، ينادى من خلالها إلى احترام قيم السلم والسلام والتعايش والمحافظة على مدينة القدس، وطابعها الديني الفريد من نوعه، باعتبارها أرضا للتعايش واللقاء بين الديانات السماوية الثلاث المسيحية واليهودية والإسلامية.

ثالثا: نداء القدس كثمرة لجهود إمارة المؤمنين في سبيل تحقيق قيم السلام وحوار الأديان السماوية الثلاث.

يشكل «نداء القدس» ثمرة طيبة للتفاهم والحوار بين الأديان، القائم فعلا، ولاسيما بين المملكة المغربية ودولة الفاتيكان، ولسنوات طوال، كما مر بنا، فهو ثمرة للعديد من المجهودات التي يبذلها جلالة الملك، محمد السادس، أمير المؤمنين[12]، من أجل إحلال قيم التسامح والسلم والحوار بين الثقافات والأديان، في مختلف دول العالم، وذلك من خلال مجموعة من الآليات والمواقف والمبادرات السابقة والممهدة والداعمة لتصورات وأسس احتضان وتبني وإصدار نداء القدس من قبل المملكة المغربية وفوق أرضها.

فالمملكة المغربية، ومنذ قيام إمارة المؤمنين بها، كانت ولازالت أرضاً للتعايش بين جميع سكانها بمختلف دياناتهم، الإسلامية والمسيحية واليهودية، وحرص مختلف سلاطينها وملوكها المسلمون، على العناية بأتباع الديانات السماوية الأخرى، وحمايتهم، وضمان حقهم في ممارسة مختلف شعائرهم الدينية.

كما تعتبر المملكة المغربية، في الوقت المعاصر، وكدولة حديثة واعية بتحديات الواقع المعاصر، وحرصا منها على مواجهة تلك التحديات، متمسكة في ذلك بروح التعاون الدولي، فهي تعتبر عضواً مؤسساً لمنظمة تحالف الحضارات، المنظمة التي تعنى بحشد جهود الفاعلين على الصعيدين الوطني والدولي، من أجل تعزيز قيم السلم والسلام والالتزام المشترك بقيم التعايش وقبول الآخر.

كما أن جلالة الملك محمد السادس، ما فتئ يؤكد في العديد من خطبه الملكية السامية وبرقياته ورسائله على قيم التسامح والسلام والتعايش والحوار، ولاسيما في رسائله التي يبعثها إلى الملتقيات الدولية حول الموضوع،  ومن أجل ذلك منح “التحالف العالمي من أجل الأمل ”[13]،  برعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، جائزة الاعتراف الخاص للريادة في النهوض بقيم التسامح والتقارب بين الثقافات، سنة 2017م، وذلك للقيادة السديدة لجلالته في تعزيز الانسجام بين مختلف الثقافات سواء في المغرب أو على الساحة الدولية.

وتبعا لذلك، فإن «نداء القدس» لم يصدر صدفة، وإنما لاختيار وقناعة ومسار طويل من الجهود في سبيل دعم قضية التعايش والسلام بين الشعوب والأديان، كما أنه لم يصدر عن مؤسستين دينيتين كبيرتين هما مؤسسة إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية، وعلى رأسها جلالة الملك محمد السادس أمير المؤمنين، ومؤسسة الكنيسة الكاثوليكية، وعلى رأسها البابا فرنسيس، إلا لوجود ثقة وتقدير متبادلين بين الطرفين، فالكنسية الكاثوليكية ترى في المملكة المغربية دولة فاعلة ومؤثرة في تحقيق الحوار بين الأديان.

ومنه فلولا ذلك التفاهم القائم والعلاقات العريقة والجهود المبذولة لما كان التنسيق والتفاهم واتخاذ القرار من أجل إخراج بيان بين مؤسستين دينيتين كبيرتين أطلق عليه «نداء القدس»، ينادى من خلاله إلى إحلال قيم السلم والسلام، والتعايش والحوار، وهو في نفس الوقت شعلة موقدة وستظل من أجل الدعوة دائما إلى حوار الأديان واحترام الثقافات الأخرى والتعايش السلمي بين جميع الديانات.

رابعا: نداء القدس كأرضية مرجعية وتأكيد من إمارة المؤمنين على قيم التسامح والحوار بين الأديان

يشكل «نداء القدس»، في عمقه وأبعاده ومختلف مستوياته، إطاراً مرجعياً، ومنطلقاً أساسياً، وميثاقاً مستقبلياً، للتصورات الكفيلة بتحديد ملامح القيم والمبادئ العالمية المتفق عليها للتسامح والحوار والتعايش بين الأديان، منطلقها القدس الشريف كأيقونة لتلاقح تلك القيم جميعها.

ومن ثم فإن النداء حرصت من خلاله مؤسسة إمارة المؤمنين ومعها الكنيسة الكاثوليكية، على تسطير الإطار العام الممهد لاتخاذ أي قرار أو للقيام بأي خطوة أو مبادرة بناءة في اتجاه توطيد وتقوية وتطوير أفاق الحوار والتعاون بين أتباع جميع الديانات السماوية، في مختلف بقاع العالم، من أجل مواجهة التحديات التي يطرحها الواقع المعاصر والمرتبطة أساسا بتنامي خطاب الكراهية والتطرف الديني والصراع الطائفي.

كما يشكل نداء القدس، تأكيدا راسخاً من المملكة المغربية على رغبتها الفعلية والصادقة في المضي قدما بمسلسل دعم جهود تحقيق السلم والحوار بين الأديان ،وتأكيدا منها كذلك على دورها الريادي الذي طالما التزمت به، ونقلا لذلك الدور إلى المستوى الدولي والعالمي، وتفعيلا لذلك، وضمن ذات النهج، ومباشرة بعد إصدار نص النداء، عملت المملكة على تقديم مشروع قرار إلى منظمة الأمم المتحدة، يروم تعزيز قيم الحوار بين الأديان والثقافات ومحاربة خطابات الكراهية، وهي الخطوة التي عرفت تقديرا كبيرا من المنتظم الدولي،  وأخذاً منه بعين الاعتبار مختلف المبادرات والجهود المبذولة ولاسيما مبادرة «ميثاق القدس»،  ومنه فقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم الخميس 25 يوليوز 2019م، القرار المتقدم به، وصادقت عليه بالإجماع، وهو ما يعكس توافق وتأييد تسعين بلداً حول العالم ،يمثلون كافة المجموعات الإقليمية ومختلف الحساسيات الدينية والثقافية والعقائدية، كما يعكس المصداقية التي تتمتع بها المملكة المغربية وإمارة المؤمنين بها، ملكاً وشعباً،  على الساحة الدولية ودورها كداعم للحوار والاعتدال، ويجسد تقدير رسالة السلام واحترام الأديان والتنوع الثقافي التي تحمل المملكة المغربية لواءها وتدافع عنها في جميع المحافل.

المحور الثاني: تجليات حضور أدوار إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية في نص وروح نداء القدس

تقوم إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية، بالعديد من الأدوار الكبرى في سبيل مؤسسة حوار الأديان (أولا)، والحرص على تحقيق مجموعة من الحقوق كما كرسها نداء القدس (ثانيا)، كما تعمل على المحافظة على القدس وعلى طابعها الفريد من نوعه (ثالثا).

أولا: إمارة المؤمنين ومأسسة حوار الأديان

تقوم إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية، بأدوار جسام في سبيل مؤسسة حوار الأديان، والتسامح والتعايش، بداية من رئاسة لجنة القدس وبيت مال القدس (أ)، ثم المجالس والهيئات الدينية بالمملكة (ب).

أ‌- رئاسة لجنة القدس:

تعتبر لجنة القدس[14]، المنبثقة عن منظمة التعاون الإسلامي[15]، من المؤسسات التي اضطلع برئاستها منذ نشأتها سنة 1975م جلالة المغفور له، الحسن الثاني، طيب الله ثراه، وخلفه في ذلك جلالة الملك محمد السادس، نصره الله.

وتعتبر رئاسة لجنة القدس التي يضطلع بها جلالة الملك محمد السادس نصره الله، من أهم الآليات المؤسسية التي لطالما عبر من خلالها جلالته عن مواقفه الداعمة والمساندة والداعية لإقامة حوار الأديان، ومن خلالها وباسمها دائما يخاطب جلالة الملك، العالم الإسلامي والغربي ومختلف الدول، للتعريف بالأهمية الدينية لمدينة القدس ودورها في بعث رسالة السلام والتعايش والحوار بين الأديان بوصفها رمز وأيقونة للتجانس والتلاقح الديني فيما بين الديانات السماوية الثلاث.

ب- المجلس العلمي الأعلى والهيئات الدينية بالمملكة المغربية:

يعتبر جلالة الملك أمير المؤمنين، بالمملكة المغربية، وهو بهذه الصفة يترأس المجلس العلمي الأعلى، وما يتبعه من مجالس علمية محلية، وكذا تتبع له مختلف الهيئات الدينية بما فيها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، ويعمل جلالته من خلال هذه المؤسسات على تأطير وترسيخ قيم التسامح والحوار بين الأديان داخل المملكة المغربية، وخارجها، ووسائل وآليات التشجيع عليها.

كما يسهر جلالته من خلال معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، على ترسيخ تلك القيم، قيم التسامح والتعايش والحوار بين الأديان، لدى مختلف الطلبة الأئمة، الذين بدورهم سيساهمون في تلقينها وترسيخها في كافة المساجد والمؤسسات التعليمية التي سيشتغلون بها، ولا يقتصر الأمر على الأئمة المغاربة، بل إن المعهد يستقبل كذلك الطلبة الأجانب من مختلف الدول ولاسيما من الدول الإفريقية، وبالتالي فالمعهد وخريجوه من أئمة مرشدين ومرشدات سيساهمون في تأطير وتكوين أجيال على قيم التسامح والإخاء.

ثانيا: ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية بين إمارة المؤمنين ونداء القدس

تعتبر مؤسسة إمارة المؤمنين، بما لها من أدوار ومهام، أكبر ضمان لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وذلك باعتبار أن جلالة الملك بالمملكة المغربية، وبصفته أمير المؤمنين، فهو أمير لجميع المؤمنين، بما فيهم المسلمون والمسيحيون واليهود، وبالتالي فهو يضمن لجميع المؤمنين بالديانات السماوية الثلاث الحق في ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية، وذلك يتطابق مع ما جاء في نص النداء، حيث نص على: «ضمان حق أصحاب الديانات السماوية الثلاث في أداء شعائرهم الخاصة فيها.»

وهو الأمر الذي عبر عنه جلالة الملك محمد السادس صراحة في خطابة الذي ألقاه أمام قداسة الباب فرنسيس، بمناسبة زيارته الأخيرة للمملكة المغربية[16]، حيث جاء فيه:

«وبصفتي ملك المغرب، وأمير المؤمنين، فإنني مؤتمن على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية. وأنا بذلك أمير جميع المؤمنين، على اختلاف دياناتهم.

وبهذه الصفة، لا يمكنني الحديث عن أرض الإسلام، وكأنه لا وجود هنا لغير المسلمين. فأنا الضامن لحرية ممارسة الديانات السماوية.

وأنا المؤتمن على حماية اليهود المغاربة، والمسيحيين القادمين من الدول الأخرى، الذين يعيشون في المغرب.»

وهو كما كان معمولا به على مر التاريخ الإسلامي دائما، فقد تم ترسيخه في أحكام دستور المملكة المغربية، لسنة 2011م، حيث نص في الفقرة الأولى من الفصل 41 على أن: «الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية.»

كما أن نفس الفصل الثالث من الدستور، يسير في نفس النهج، حيث ينص على أن «الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية.»   ثالثا: المحافظة على الطابع الخاص لمدينة القدس

تبذل إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية، جهودا حثيثة من أجل المحافظة على مدينة القدس، وذلك ما جاء في نص النداء، وتستوعب تلك المحافظة على مستويين، المستوى الأول إنساني، حيث تحرص المحافظة على مدينة القدس باعتبارها تراثا مشتركا للإنسانية (أ)، ثم المستوى الثاني ديني، وهو المحافظة على مدينة القدس كونها مدينة متعددة الأديان (ب).

أ‌ – المحافظة على مدينة القدس باعتبارها تراثا مشتركا للإنسانية:

نص نداء القدس على ضرورة المحافظة على مدينة القدس باعتبارها تراثا مشتركا للإنسانية، ولعل ذلك من صميم حرص إمارة المؤمنين بالمغرب كذلك على المحافظة على هذا التراث الإنساني المشترك، والمغرب بصفته عضوا نشيطا في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، ساهم في جهود المنظمة، هذه الأخيرة التي عملت منذ سنة 1965 ولغاية سنة 2017م على إصدار ما يقارب تسعة قرارات، كان أبرزها القرار  الصادر في العام 2016م عندما أدرجت اليونسكو 55 موقعا تراثيا في العالم، على قائمة المواقع المعرضة للخطر ومنها البلدة القديمة في القدس المحتلة وأسوارها.

كما أصدرت منظمة اليونسكو خلال اجتماع بالعاصمة الفرنسية باريس في شهر أكتوبر 2016م قراراً اعتبر فيه الحرم الشريف المسجد الأقصى تراثا إسلاميا خالصاً، وجاء قرار المؤتمر الإسلاميّ الثامن لوزراء الثقافة لعام 2014م، الذي تعتبر المملكة المغربية عضوا فيه، حيث تم فيه اعتماد القدس كعاصمةً للثّقافة الإسلامية للعام 2019م.

ويشكل قرار اعتماد القدس عاصمة دائمة للثقافة الإسلامية، تتويجا وتعبيرًاً صادقاً عن مدى أهمية وقيمة مدينة القدس للأمة العربية والإسلامية، وهي قرارات تليق بقيمة القدس ومكوناتها المادية والروحية.

ب‌- المحافظة على مدينة القدس كونها مدينة متعددة الأديان:

ينص نداء القدس على المحافظة على الطابع الخاص لمدينة القدس، وهو دائما ما يحرص عليه أمير المؤمنين، ملك المغرب، ويجعل من تلك المحافظة على طابعها الخاص، العربي والإسلامي، موقفا ثابتا لطالما عبر عنه وأكده جلالته في العديد من المناسبات، ولاسيما في رسالتيه الأخيرتين الموجهتين إلى كل من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السيد دونالد ترامب[17]، وإلى الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريس[18]، على إثر رغبة الإدارة الأمريكية في نقل سفارتها إلى القدس الشريف.

كذلك هو الشأن، فإن جلالة الملك يسهر من خلال وكالة بيت مال القدس ـ التابعة للجنة القدس، والتي تحظى برئاسة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، على الحفاظ على هوية مدينة القدس الشريف وطابعها الديني والثقافي والحضاري من خلال المساهمة في دعم تمويل المشاريع والبرامج التي تعزز الوجود العربي والإسلامي فيها بالشراكة والتعاون مع المؤسسات والفعاليات العربية الإسلامية والدولية.

ناهيك عن العديد من المبادرات المستقلة أو الثنائية، والتي تدل على حرص جلالته على العناية بالمسجد الأقصى، والقدس الشريف، آخرها إصدار جلالته الأمر بتخصيص منحة مالية كمساهمة في ترميم وتهيئة بعض فضاءات المسجد الأقصى، كما أمر بإرسال معماريين وصناع تقليديين مغاربة لصيانة الأصالة المعمارية العريقة للمسجد الأقصى، دفاعاً من جلالته عن الوضع التاريخي لمدينة القدس وتأكيداً على هويتها الحضارية ورمزيتها الدينية كفضاء مفتوح للتعايش والتسامح بين مختلف الأديان السماوية[19].

خاتمة

شكل نداء القدس، بما احتواه من قيم ومبادئ، وما بعثه من رسائل، وما سيمثل من مرجعية صلبة لأجيال المستقبل، ميلاد وثيقة عالمية، متوافق عليها بين مؤسستين دينيتين كبريتين لهما من التأثير الضيء الكثير، انصهرت فيه جهود وطموحات وآفاق هاتين المؤسستين، وتأكدت فيه رغبتها في المضي قدما في مسلسل دعم قيم التسامح والتعيش بين الشعوب والأديان.

ومن خلال دراستنا للموضوع، يمكننا الوقوف على مجموعة من النقاط الهامة، نوردها كالآتي:

  1. نداء القدس جاء بعد مسار طويل من العلاقات الوطيدة بين مؤسسة إمارة المؤمنين بالمملكة المغربية، ومؤسسة الكنيسة الكاثوليكية؛
  2. نداء القدس جاء ثمرة لمجموعة من الجهود التي يبذلها جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بصفته أمير المؤمنين، واعتراف المجتمع الدولي والعالمي بتلك الجهود؛
  3. نداء القدس يعبر عن الثقة القوية التي تحظى بها المملكة المغربية، وعلى رأسها جلالة الملك، أمير المؤمنين، من قبل الكنيسة الكاثوليكية، ورغبتها في تقوية وتوطيد والاستثمار في هذه الثقة؛
  4. نداء القدس يأكد على الأهمية الكبرى التي تحظى بها مدينة القدس، وطابعها الديني الفريد، وعلى الرغبة القوية في المحافظة عليها وفق ذلك؛
  5. نداء القدس يشكل ميثاق عالمي وأرضية مستقبلية ومرجعية صلبة متوافق عليها لقيم التعايش بين الأديان والثقافات والشعوب؛

نداء القدس انعكاس لأدوار إمارة المؤمنين المرتبطة بالحرص على تحقيق التعايش بين الأجناس والأديان، والمحافظة على القدس وعلى طابعها الديني الفريد.


الهوامش

[1] رجاء ناجي المكاوي، إمارة المؤمنين وحوار الأديان من خلال نداء القدس، مداخلة ضمن اليوم الثالث من الدورة التواصلية العلمية الثالثة التي تنظمها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تحت عنوان: إمارة المؤمنين ومكانتها المرجعية في حفظ الثوابت الدينية المشتركة أيام 12 و13 و14 رمضان 1440 ه الموافق ل 18 و19 و20 ماي 2019 بالرباط.

[2] سورة الحجرات، الآية 13

[3] سورة يونس، الآية 99

[4] أحمد صدقي الدجاني، الحوار مع الآخر في الإسلام، مجلة التسامح، عمان، العدد 2، السنة 1، ربيع 1423 ه – 2003 م، ص: 18 .

[5] عبد الهادي الفضلي، الإسلام والتعدد الحضاري بين سبل الحوار وأخلاقيات التعايش، الطبعة الأولى، بيروت 2014 م،ص: 167 .

[6]  تم تغيير لقب «السلطان» إلى لقب «الملك»، في دولة المغرب الحديث، واعتمد هذا اللقب منذ سنة 1957 م.

[7] للاطلاع أكثر انظر: سعدون عباس نصر الله، دولة الأدارسة في المغرب – العصر الذهبي، الطبعة الأولى 1987 م، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت.

[8] عباس الجراري، دولة المرابطين، مجلة دراسات أفريقية، العدد الثاني، أبريل 1986 م.

[9] جامع بيضا وفانسانفيرولدي، الحضور المسيحي بالمغرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، الطبعة الأولى،منشورات دار أبي رقراق للتواصل – الرباط.

[10] ظهر مصطلح الظهير في عهد الموحدين، وقد تمسكوا به ليشيروا به إلى كل ما يصدر عنهم من القرارات والأوامر والأحكام المخزنية،) بهيجة سيمو، نظم الدولة المغربية وآليات تصريف أحكامها، مقال ضمن أشغال الندوة العلمية في موضوع الجريدة الرسمية مائة سنة في خدمة القانون، الأمانة العامة للحكومة، 2012 م، الصفحات 37 – 45 (، والظهير حسب الدستور المغربي لسنة 2011، هو الشكلية القانونية التي يمارس بها جلالة الملك اختصاصاته سواء في المجال الديني، أو المجال العسكري، أو الدبلوماسي، أو المدني أو غيره، ينص الفصل 41 في فقرته الأخيرة «يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر»، كما ينص الفصل 42 في فقرته ما قبل الأخيرة على أنه «يمارس الملك هذه المهام، بمقتضى ظهائر، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور

[11] للاطلاع أكثر عن تفاصيل الزيارة، يرجى زيارة الموقع الالكتروني الرسمي للقناة الثانية، على الرابط التالي: https://cuttus/g45ot

[12] الفصل 41 : الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية .

[13] وهي مبادرة جديدة ضد التطرف، جرى إطلاقها يوم 18 شتنبر 2017 م، في قمة التحالف العالمي من أجل الأمل المنعقدة في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد ترأس القمة السيدة المديرة العامة لليونيسكو، وعرفت حضور عدد من قادة القطاعين العام والخاص والناشطين في المجتمع المدني في إطار المعركة ضد التعصب والتطرف العنيف، بما فيهم صاحب السمو الأمير مولاي رشيد، للاطلاع أكثر حول الموضوع، يرجى زيارة الموقع الإلكتروني الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، على الرابط التالي :  http://www.unesco.org/new/ar/social/and-human-sciences/themes/sv/news/director_general_chairs_global_initiative_against_violent_ex

[14] للاطلاع أكثر على اللجنة، انظر الموقع الالكتروني الرسمي الخاص بها: http://www.bmaq.org/page/al-quds-committee

[15] للاطلاع أكثر على منظمة التعاون الإسلامية، انظر الموقع الالكتروني الخاص بها: https://www.oic-oci.org

[16] -1 وهي الزيارة التي تمت يومي 30 و 31 مارس 2019 ، وعرفت مجموعة من الأشغال انتهت بإصدار نداء القدس، للاطلاع على نص الخطاب يرجى زيارة الموقع الرسمي لوكالة المغرب العربي للأنباء، على الرابط التالي : https://cutt.us/ZFB0l

[17] -1 للاطلاع على نص الرسالة يرجى زيارة الرابط التالي:  http://www.mapnews.ma/ar/discours-messages-sm-le/roi

[18] للاطلاع على نص الرسالة يرجى زيارة الرابط التالي: http://www.mapnews.ma/ar/discours-messages-sm-le-roi

[19] -3 حسب بلاغ وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، للاطلاع أكثر انظر: https://2u.pw/kWZCl

 المراجع المعتمدة:

كتب:

  1. أحمد صدقي الدجاني، الحوار مع الآخر في الإسلام، مجلة التسامح، عمان، العدد 2، السنة 1، ربيع 1423 هـ – 2003 م.
  2. عبد الهادي الفضلي، الإسلام والتعدد الحضاري بين سبل الحوار وأخلاقيات التعايش، الطبعة الأولى، بيروت 2014 .
  3. جامع بيضا وفانسانفيرولدي، الحضور المسيحي بالمغرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، الطبعة الأولى، منشورات دار أبي رقراق للتواصل – الرباط.
  4. سعدون عباس نصر الله، دولة الأدارسة في المغرب – العصر الذهبي، الطبعة الأولى 1987، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت.

مقالات ومجلات:

  1. بهيجة سيمو، نظم الدولة المغربية وآليات تصريف أحكامها، مقال ضمن أشغال ندوة العلمية في موضوع «الجريدة الرسمية مائة سنة في خدمة القانون، منظمة من قبل الأمانة العامة للحكومة ،2012.
  2. رجاء ناجي المكاوي، إمارة المؤمنين وحوار الأديان من خلال نداء القدس، مداخلة ضمن اليوم الثالث من الدورة التواصلية العلمية الثالثة التي تنظمها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تحت عنوان: إمارة المؤمنين ومكانتها المرجعية في حفظ الثوابت الدينية المشتركة أيام 12 و13 و14 رمضان 1440 هـ الموافق لـ 18 و19 و20 ماي 2019 بالرباط.
  3. عباس الجراري، دولة المرابطين، مجلة دراسات أفريقية، العدد الثاني، أبريل 1986

   المواقع الإلكترونية:

  1. الموقع الالكتروني الرسمي لمنظمة تحالف الحضارات:

/https://www.unaoc.org

  1. الموقع الالكتروني الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة:

http://www.unesco.org

  1. الموقع الالكتروني الرسمي لوكالة بيت مال القدس:

http://www.bmaq.org

  1. الموقع الالكتروني الرسمي لمنظمة التعاون الإسلامي:

https://www.oic-oci.org

  1. على الموقع الالكتروني للبوابة الوطنية للمملكة:

http://www.maroc.ma

تحميل المقال بصيغة PDF