التصوف السني في السنغال: معالم وأعلام
الأمين العام لرابطة علمـاء الإسـلام في السنغال وعضـو فرع مؤسسـة محمـد السـادس للعلماء الأفارقة بالسنغـال
التصوف السني في السنغال: معالم وأعلام يحيى جبريل نيانغ جمهورية السنغال
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأميّ الذي أُرسل ليتمم مكارم الأخلاق، وعلى آله وصحابته الكرام البررة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فرحم الله القائل: بليتُ بأربع: «إبليس والدنيا ونفسي والهوى، فكيف الخلاص وكلهم أعدائي.»
والخلاص من هؤلاء الأعداء في تزكية النفس بقوله جلّ وعلا خالق النفس:
{قَدْ أفْلَحَ مَنْ زكَاَّهَا وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} سورة الشمس. الآيتان (9 – 10).
وعلى ضوء هذه الآية المقدسة مدار التصوف السني في تزكية النفس الأمّارة بالسوء.
المدخل
التصوف عبادة تطبيقية للنصوص الواردة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتحقيق مقاصد الدين الإسلامي الحنيف، إلاّ أنّه يهتم بالجانب الروحي لتزكية النفس ومكوناتها ومساندة العقيدة وتقويم السلوكيات على ضوء الشريعة والحقيقة. ومن هذا المنظور يمكن القول بأنّ التصوف قد وُجِد فعلا بوجود هذا الدين منذ فجر الإسلام، إلاّ أنّه لم يُسمّ باسمه (التصوف). إلاّ بعد فترة من الزمن[1].
وبالنسبة للموضوع المقترح، يمكن القول بأنّ التصوف السني وصل إلى القارة الإفريقية بوصول الإسلام نفسه إليها، أي قد وصل الوليد بوصول الوالد – إن صح التعبير-، وعليه فإنّ السؤال المطروح هو: متى وصل الإسلام إلى القارة الإفريقية؟
إنّ التاريخ قد أثبت بأنّ الإسلام قد وصل إلى القارة الإفريقية قبل الهجرة بقليل، وذلك عند وصول أوّل دفعة من اللاجئين إلى الحبشة، وكان ذلك بأمر من الرسول عليه الصلاة والسلام. والحبشة جزء من القارة الإفريقية. وبهذا يمكن القول: إنّ القارة الإفريقية هي الأخرى قد ساهمت في تبليغ الدعوة ومساندتها منذ البداية.
وبالنسبة للسنغال، فإنّ الإسلام قد وصل إليها حوالي القرن الثالث الهجري، وازداد انتشاره بعد الفتوحات الإسلامية في عهد عقبة بن نافع الفهري، ثمّ توغّل إلى المناطق المجاورة أيّام الأدارسة. ثمّ تقوّى وانتشر في عهد المرابطين بقيادة عبد الله بن ياسين (تـ 403هـ /1013م).
وقد تولّد من حركة هذا المجاهد ما يسمى ب (الرباط) في منطقة شمال وغرب إفريقيا، يعني من صحراء المغرب الجنوبية إلى ضفة نهر السنغال (منطقة فوتا تورو).
هذا ومن ضمن الفاتحين ثلة من الفقهاء السنيين يُفقّهون الناس في المذهب المالكي الذي يعتمد على العقيدة الأشعرية، وكان التصوف السني هو الآخر يعتمد عليهما معا – شريعة وحقيقة- ضمن النصوص.
أشهر الطرق الصوفية في إفريقيا
أشرنا في المقدمة بأنّ التصوف قد وُلد بميلاد الإسلام نفسه، ووصل إلى إفريقيا يوم وصوله إليها بالفعل كذلك، وأنّ الإسلام قد انتشر عن طريق القوافل التجارية، وأنّ المرابطين قاموا بإقامة المراكز للرباط، فانقلبت هذه المراكز إلى محاضر علمية للتعليم، وكان المذهب الفقهي للإمام مالك قد سبق إليها قبل جميع المذاهب، ويُدرس التصوف ضمن الفقه الإسلامي مثل المواد الأخرى بعد تعليم القرآن الكريم؛ لأنّ من هؤلاء الفقهاء متصوفين. فالشريعة صِنْو للحقيقة، فلقنوا أبناء البلاد مبادئ التصوف، فاتخذوها وسيلة للتربية الروحية وتقويم السلوكيات وتغيير العادات…
وأشهر الطرق الصوفية التي يستعينون بها لنشر الدعوة والتربية الدينية وتهذيب السلوكيات، هي:
- القادرية: التي سبقت ممارستها في كل من السنغال وموريتانيا ومالي ونيجريا، فحظيتْ بقبول واسع وأتباع عدّة، ونالت بذلك شهرة واسعة ولها معالم وأعلام كبار في تلك المناطق.
- التجانية: التي ظهرت في القرن الثاني عشر الهجري في ربوع إفريقيا على يد دفين فاس سيدي أحمد التجاني، ثم انتشرت بسرعة في بلدان المنطقة الغربية عبر صحراء المغرب الجنوبية.
ولما كانت مبادؤها واضحة المعالم من الكتاب والسنة، فقد استطاعت في ظرف قصير أن تشقّ طريقها عبر القارة الإفريقية، كالسنغال وجاراتها من بلدان غرب إفريقيا كلها.
وبعد برهة من الزمن ظهرت في السنغال طريقة صُوفية أخرى على يد أحد رجال الله السنيين، وهو الشيخ أحمد بمب مبكي رحمه الله، في القرن 19 الميلادي؛ وهي الطريقة المريدية، وهي أيضا وليدة إفريقيا. وقد انتشرت هي الأخرى بجانب الطريقة القادرية والطريقة التجانية، وسنعرض نبذة عن نشأتها وعن حياة مؤسسها فيما بعد.
وهذه الطرق الصوفية الرئيسية هي التي يمارسها مسلمو بلدان غرب إفريقيا، مع التسامح والاحترام المتبادل بين جميع أتباعها من جهة، وبينهم وبين من لا يمارس أيّ شيء من الطرق، كما سنرى لاحقا ذلك التعايش السلمي وقبول الآخر بين أبناء المجتمع في تلك الأقطار من إفريقيا.
التعايش الصوفي في المجتمع الإفريقي
نشير هنا إلى أنّ هذه الطرق الثلاث ظلت لحدّ الآن سارية المفعول في المجتمع، مع التعايش السلمي بين أتباعها بدون حرج، ومع الاحترام المتبادل بين المواطنين بغض النظر عن التعصب الصوفي والقبلي أو الإقليمي. فكلّ مريد يمارس الطريقة التي يتمسك بها بكلّ حرية، مع احترام الآخرين في ممارساتهم الصوفية أو المذهبية. وكذلك المشايخ الأعلام أنفسهم يتعاملون فيما بينهم بدون أي مشكلة، مع التسامح وقبول الآخر.
وخلاصة القول: إنّ التصوف السني يتبوأ مكانة عالية في بلدان المنطقة الغربية من إفريقيا: في السنغال وموريتانيا ومالي والنيجر ونيجيريا وغينيا كوناكري وغينيا بساو وبوركينافاسو.
وهذه الطرق على اختلاف المنهج العملي، إلاّ أنّها تلتقي في الأصول الأساسية للثوابت الدينية المشتركة والعُرفية الإفريقية المشتركة.
فهذه كلها من العوامل الأساسية المتينة، التي ربطت بينهم الانسجام التام والوحدة والتفاهم والتعايش السلمي.
معالم وأعلام في التصوف السني في إفريقيا
أشرنا في مستهل البحث إلى نشوء محاضر علمية للفقه المالكي ومراكز تربوية، وأشرنا كذلك إلى أنّ الصوفيين كانوا من القائمين بتفقيه الناس، يلقنونهم مبادئ التصوف ضمن نصوص من الكتاب والسنة. ومع مرور الزمن تكونت في المناطق معالم ومعاقل صوفية، كالزوايا الخاصة للطرق الصوفية، يسهر عليها أعلام ومشايخ معتمدون في هذا الجانب الروحي لنشرها. وسنذكر بعد قليل، نبذة يسيرة من المعالم الأثرية للتصوف السني، وأعلاما من العلماء البارزين ومشايخ طرقية، على سبيل المثال لا الحصر.
ففي السنغال- مثلا- توجد الزاوية الكنتية القادرية بمدينة نجاسان، وعلى رأسها اليوم الخليفة العام لهذه الطائفة، سماحة الشيخ البكاي حفظه الله ورعاه. ولهذه الزاوية العظيمة فروع تابعة لها في طول البلاد وعرضها، لأنّ هذه الطريقة كانت من أقدم الطرق تاريخيا في الوصول إلى غ رب إفريقيا. ولها عدة أتباع في سائر بلدان المنطقة الغربية كما سبقت الإشارة إليها.
ومن أعلامها الكبار الشيخ البكّاي الكبير الذي زامن الشيخ عمر الفوتي أيام مُقامه في حمد الله. وسنذكر لاحقا تاريخ تأسيس الزاوية الكنتية في السنغال عند ذكر الزوايا وأعلامها. ومما يبرهن على حضور الطريق ة القادرية في السنغال منذ مدة من الزمن، أنّ رجال الثورة الإمامية في فوتا تورو (شمال السنغال) في القرن 17 الميلادي بقيادة الشيخ سليمان بال 1118 – 1182هـ / 1707 – 1762م والشيخ عبد القادر كن 1138 – 1236هـ /1726 – 1815م، الذي كان أوّل أمير للمؤمنين في هذه الدولة الإسلامية، التي أطلق عليها المؤرخون اسم: الدولة الإمامية في فوتا تورو شمال السنغال، كانوا قادريي الطريقة. ولا تزال هناك زوايا قادرية في فوتا حتى الآن، كمدينة بَكّل وبوكجوي.
أبرز الطرق الصوفية في السنغال
-
1- الزاوية القادرية الكنتية في نجاسان
قد أشرنا إلى أنّ القادرية هي أقدم الطرق الصوفية في غرب إفريقيا. فأمّا زاويتها الأولى في نجاسان، فقد تم تأسيسها منذ عام 1800م على يد الشيخ أبو نعامة رضي الله عنه في بلدة نْدَانْكَ نَارْ – نجاسان حاليا – في السنغال.
وقام المؤسس بنشر هذه الطريقة وتوسعتها في المناطق المجاورة، فتلقاها المواطنون لأنّها كانت معروفة لديهم قبل وصوله. كما أشرنا إلى رجال الثورة الإمامية بقيادة الشيخ سليمان بال والشيخ عبد القادر كن أوّل أمير للمؤمنين في هذه الدولة الإسلامية في الق رن السابع عشر الميلادي، الذين عاشوا نفحات هذه الطريقة في ذلك العهد.
ومن أعلام الزاوية الكنتية، الشيخ أبو محمد الكنتي (1840 – 1914م)، الذي شمّر هو الآخر عن ساق الجدّ وقام بنشر هذه الطريقة بشكل أوسع حتى كثر المنتسبون إليها، وعمل على تحسين المعاملة بين الناس على أحسن وجه.
- 2- الزاوية العمرية التجانية
نسبة إلى الشيخ عمر بن سعيد الفوتي رضي الله عنه، ذلك الخليفة الأكبر الذي تلقّى الخلافة العظمى في الطريقة التجانية على يد العلامة الشيخ محمد الغالي بو طالب، أحد مريدي مؤسس الطريقة، أيّام كان هذا الأخير مجاورا للروضةالشريفة، مقر خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، بعدصُحبة الرجلين 3 سنوات للخدمة.
من هو الشيخ عمر الفوتي تال (1211 – 1281هـ /1797 – 1865م)؟
إليه يرجع الفضل في انتشار الطريقة التجانية في ربوع المناطق الغربية من إفريقيا، وقد كان عَلَما بارزا وطودا شامخا. ذلك المجاهد الأكبر، الذي كان جهاده يسير على ثلاث جبهات:
- جبهة لمحاربة الوثنية وتوطيد الدين الإسلامي؛
- وجبهة للتربية الروحية ونشر التصوف السني (الطريقة التجانية)؛
- وجبهة للتعليم والتثقيف عن طريق التأليف شعرا ونثرا.
وقد كان لجهاده في هذه الجبهات آثار ونتائج إيجابية، وثمار يانعة انتش رت في جميع البلاد المذكورة ومعالمها، فنشأت بموجبها عدة زوايا صوفية يسهر عليها أعلام كبار.
فمن هؤلاء الرجال، حفيده شيخ المشايخ (كما يكنيه علماء عصره)، الشيخ سعيد النور تال رحمه الله (1864 – 1980م). فقد كان هذا الصوفي اللامع عارفا بالله، لعب أدورا هامة في حياة المجتمعات الإفريقية التي كانت تحت الوصاية الاستعمارية، سواء من الجانب الديني بشكل خاص، أو في الجانب السياسي والتعايش السلمي بين جميع الطبقات بشكل عام.
ففي الجانب السياسي كان الشيخ من أكبر مساندي جلالة المغفور له محمد الخامس، قبل وخلال وبعد منفاه. ومما قاله لجلالته في هذا الصدد، قولته الشهيرة: «إنّك سترجع بإذن الله إلى وطنك، وتقود شعبك رغم أنف الاستعمار، »ولله الحمد، فقد تحققت تلك الأمنية.
وقد استطاع هذا الصوفي الجليل أن يواصل مسيرة جهاد جدّه الشيخ عمر الفوتي، ولكن بشكل سلمي بين المواطنين أنفسهم، وبينهم وبين المستعمرين. فمثاله في جميع مواقفه السلمية والإصلاحية، يتمثل في جواب سيد الطائفة الشيخ جنيد رحمه الله، الذي عندما سئل عن صفة العارف بالله، قال: «لون الماء، لون إنائه.»
ومعنى هذا، أنّ الشيخ سعيد النور صوفي ساير زمانه، كما قال الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه: «بسير زمانك سِرْ». فكان ب ذلك لون عصره وزمانه. وفي هذا قال أحد شعراء عصره:
بكم سكنت بلاد الله لما *** لشدة ما بها كادت تميد
أقمت بأرضها شرقا وغربا *** وسرت لحادهم وهم رقود
فقلت مقالهم وهم سكوت *** وقمت مقامهم وهم قعود
فقد سدت الأنام وكل رأي *** رأيت سداده رأي سديد
وهذا يدل على مواقف هذا الصوفي في تطبيق مهمة الدين ومقاصده في حياة الأفراد والجماعات، وفي مخالطتهم، من دون أن ينعزل عنهم لحظة واحدة.
وخلاصة القول: إنّ الشيخ سعيد النور، كان رمزا بارزا، يمثل الزاوية العمرية في السنغال، كما قام أمثاله من ذرية الشيخ عمر الفوتي- رضي الله عنهم جميعا- بنفس الدور، في كل من مالي والنيجر ونيجيريا.
وتُعتبر الزوايا الآتية ذكرها امتدادا للزاوية العمرية في السنغال، والدليل على ذلك تلك الصلة المتينة والعلاقات الروحية فيما بينها من جهة، وبين أعلامها ومشايخها من جهة ثانية. هذا وقد واصل مسيرة الشيخ سعيد النور من بعده، ابن عمه وخليفته الشيخ منتقى أحمد.
الشيخ منتقى أحمد 1331 – 1428هـ/1914 – 2007م
لقد طبق الشيخ منتقى أحمد الصوفي التقي هو الآخر بنود الشريعة والحقيقة، فمضى على خطوات الشيخ سعيد النور، وشمّر عن ساق الجدّ، وقام بحماية التراث الإسلامي، وحراسة حظيرة التصوف السني.
كما قام بعدة مشاريع إسلامية، أعظهما بناء الجامع العمري الفخ م بدكار،
وتأليف موسوعة تاريخية ضخمة حول حياة جده الشيخ عمر الفوتي وجهاده. واسترد جميع ممتلكات الشيخ عمر الفوتي، التي أخذها الاستعمار الفرنسي في سيغو، منها الكتب والسيف وغيرها، وهي الآن في متحف الأسرة بدكار.
والشيخ منتقى رحمه الله، هو أحد رجال التصوف السني، وحامي حمى الشريعة والحقيقة. وقد كان عَلما بارزا من أعلام التصوف السني في السنغال، ولعب دورا هاما في الدين عموما، وفي التصوف بشكل خاص، فجزاه الله خير الجزاء.
وقد قام بنفس الخطوات- ولله الحمد- خليفته البار، خادم الحضرة العمرية، وحامي التراث الإسلامي، وهو الشيخ محمد المدني تال حفظه الله ورعاه، وهو في الوقت نفسه رئيس رابطة علماء الإسلام في السنغال.
-
3- الزاوية التواوونية
ومؤسس هذه الزاوية التي هي من ثمار الزاوية العمرية، هو الشيخ الحاج مالك سي- رضي الله عنه- في القرن التاسع عشر الميلادي (1855 – 1922م). وقد كان عارفا بالله، ص وفيا قيّما مربيا، ومرقيا في الطريقة التجانية. وله منهج خاص في هذا المجال، لذلك قال الشيخ أبو بكر سي الشاعر في منهجه هذا:
ربى بلا خلوة أصحابه علنا *** حتى استقاموا فيا لله منحاه
ومن أعلام هذه الزاوية بعد مؤسسها:
-
- الشيخ أبو بكر سي رضي الله عنه (1885 – 1957م).
- والشيخ الحاج عبد العزيز سي الدباغ رضي الله عنه (1904 – 1997م).
-
4- الزاوية الإبراهيمية بكولخ، ومن أعلامها
- العارف بالله الشيخ عبد الله نياس رضي الله عنه (1845م).
- والعارف بالله شيخ الإسلام الحاج إبراهيم نياس، علامة زمانه وبرهان الطريقة التجانية، المولود في السنغال عام 1318هـ /1900م. ويعتبر رضي الله عنه من المجددين لدعائم التصوف السني في غرب إفريقيا، حيث سخر كل طاقاته علميا وفكريا لنشر هذه الطريقة وتوسعة رقعتها في إفريقيا الغربية، خصوصا في نيجيريا وما والاَها من البلدان.
ومن أشهر أعلام هذه الزاوية بعد الشيخ إبراهيم، شيخان صوفيان، هما:
- الشيخ العلامة الإمام حسن سيسي، المولود في ديسمبر 1945م بكولخ في السنغال.
- والشيخ العلامة أحمد التجاني نياس، المولود عام 1932م بالسنغال، (الذي توفي أثناء كتابة هذا البحث، تغمده الله بواسع رحمته).
رحمة الله على الجميع، فكلهم قاموا بدور بارز في تعزي ز كيان التصوف السني، وسدّوا الفراغات من كل جانب تلقينا وتعليما وتربي ة، وصبغوا مريديهم وتلاميذهم بالصبغة السنية، شريعة وحقيقة، {صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة} سورة البقرة الآية (138). فجزى الله عنا هؤلاء الأعلام خير الجزاء، آمين.
-
5- الزاوية الغُناسية
هذه الزاوية هي الأخرى من ثمار الزاوية العمرية أيضا، أنشأها أحد رجال الله، من رجال التصوف السني، وهو الشيخ العلامة التقي الزاهد الصوفي الكبير، الشيخ محمد سراج الدين با (1316 – 1400هـ/1900 – 1980م).
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الصوفي الكبير، قد أنشأ في التصوف مَعْلَمًا تعبّديا فريدا من نوعه، يسمَى «داكا»، وهو عبارة عن عزلة تامة عن كل الملذات الاجتماعية والنعم المنزلية، مدة عشرة أيام كاملة. أي بمثاب ة الاعتكاف في ساحة صحراوية، تبعد عن المدينة عدّة كيلومترات، للعبادة وممارسة الأذكار وتلاوة القرآن الكريم والاستماع إلى المواعظ البليغة…
وهذا الاعتزال الاعتكافي موسمٌ سنوي، تحضره جموع غفيرة من أتباع الطريقة التجانية من شتى الأماكن، ليذوقوا شيئا من خشونة الحياة، والبعد عن حياة الترف والتنعّم، مثل أيّام منى في موسم الحج.
-
6- الزاوية الطوباوية
وهي الزاوية والطريقة الصوفية الثالثة في السنغال، أنشأها أحد رجال الله السنيين، العارف بالله الشيخ أحمد بَمْبَ مْبكي (1270 – 1345هـ /1854 – 1927م) رضي الله عنه. وتسمى هذه الطريقة أيضا، التي نشأت في القرن التاسع عشر الميلادي، ب «الطريقة المريدية»، وهي كذلك مستمدة من نصوص الكتاب والسنة. ولها نفحات محسوسة من محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومواقف ربانية عند شيخها، وهي تدعو إلى الانسجام والتعاضد، وتحث على العمل والامتثال للأوامر.
عاش مؤسسها عدة مشاكل من طرف الاستعمار الفرنسي، أدت به إلى المنفى خارج وطنه، حيث نُفي إلى منطقة منعزلة غير مأهولة في الغابون، تسمى «مايمبي»، ومكث هناك سبعا من الأعوام الطوال، ثم جعلوه تحت الإقامة الجبرية بعد عودته من المنفى. ومع ذلك، ظلّ عدد الأتباع يزداد يوما بعد يوم إلى يومنا هذا، داخل السنغال وخارجه، فاكتسبت الطريقة بذلك شهرة وطنية، وازداد المريدون إيمانا واقتناعا بفعاليتها، فأخذت هي الأخرى تشق طريقها في قلوب الناس، مما أكسب مؤسسها محبة الجميع من مواطنيه، فانتشرت الطريقة بشكل هائل داخل السنغال وخارجه.
وبعد العودة كذلك، أسس الشيخ أحمد بمب مدينة طوبى، واتخذها مقرا للطريقة، ومنارة تشع منها الأنوار، ثم بنى بها هذه الزاوية العظيمة العالية المنارات، التي تعد رمزا من رموز الإسلام، ومهدا للتصوف السني، ومعلما بارزا يدل عليه.
وبعد وفاة الشيخ، قام خلفاؤه الأعلام من بعده بتطوير جميع المساعي الدينية لنشر الطريقة، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
- الشيخ محمد المصطفى مبكي، المولود عام 1306هـ/1888م.
- والشيخ عبد الأحد مبكي، المولود عام 1332هـ/1914م.
وآخرون من الأعلام، ممن قاموا بنشر تعاليم المؤسس ومبادئ الطريقة المريدية. وتساند هذه الطريقة عدة مؤلفات، تركها المؤسس بعد رحيله.
ونختتم بالإشارة إلى أنّ الطريقة المريدية، تساهم هي الأخرى في نش ر الثوابت الدينية المشتركة، وقد حصرت أتباعها في حظيرة العقيدة الأشعرية، وربط الصلة بين المؤمنين، والحث على العمل والتضامن الاجتماعي. شأنها في جميع الميادين، شأن نظيراتها من الطرق الصوفية المستمدة من الكتاب والسنة، التي تتمسك بها شعوب الغرب الإفريقي لحد الآن، وتعمل جدّيا على التربية السلوكية والتمسك بالقيم الإسلامية السمحة، ويحاف ظ مشايخها على القيم الإنسانية، والأعراف الإفريقية المستحسنة، والمثل العليا لدى الشعوب الإفريقية منذ العصور الغابرة من تاريخها الطويل؛ كالتسامح، وقبول الآخر، والتعايش السلمي، وحسن الجوار، واحترام الناس بعضهم بعضا في ممارساتهم العقدية في الحضرة الإلهية.
ونقتطف فيما يلي، بعض الأبيات من قصائد شيخ هذه الطريقة، تبرهن على معايير الطرق الصوفية وأتباعها في حسن الخلق:
وكل ورد يورد المريدا *** لحضرة الله فلن يحيدا
سواء ينتمي إلى الجيلاني *** أو ينتمي لأحمد التجاني
أو لسواهما من الأقطاب *** إذ كلهم قطعا على الصواب
وهكذا عاش المجتمع السنغالي على التسامح وحسن الجوار والاحترام المتبادل، بدون أي تعصب قبلي أو صوفي أو مذهبي…
ملخص لبعض المعالم والأعلام في السنغال
ونقدم- فيما يلي- موجزا عن بعض الأعلام في التصوف السني في السنغال، بحسب معالم الطرق الثلاث فيها: القادرية والتجانية والمريدية.
1/ الزاوية القادرية بفوتا تورو
- / رجال الثورة الإمامية في فوتا تورو في القرن السابع عشر الميلادي كلهم قادريون، أمثال: الشيخ سليمان بال، والشيخ عبد القادر كن (1726 – 1815م).
- / الزاوية الكنتية في نجاسان، وأعلامها:
- الشيخ أبو نعامة رحمه الله المؤسس في عامِ 1800م
- الشيخ أبو محمد الكنتي رحمه الله 1840 – 1914م
- الشيخ بكاي الكنتي الخليفة الحالي.
2/ الزاوية العمرية التجانية في السنغال، وأعلامها
- الشيخ عمر الفوتي المؤسس.
- الشيخ سعيد النور تال (1864 – 1980م)،
- الشيخ منتقى أحمد منتقى (1914 – 2007م).
3/ الزاوية الغناسية، من أعلامها
- الشيخ محمد سراج الدين با (1316 – 1400هـ /1900 – 1980م).
4/ الزاوية الإبراهيمية بكولخ، وأعلامها
- الشيخ عبد الله نياس المولود في عام 1845م،
- شيخ الإسلام إبراهيم نياس 1318هـ /1900م،
- الشيخ حسن علي سيسي المولود، عام 1945،
- الشيخ أحمد التجاني إبراهيم نياس، عام 1932م.
5/ الزاوية التواوونية التجانية، وأعلامها
- الشيخ الحاج مالك سي المؤسس (1855 – 1922م)،
- الشيخ أبو بكر ضي خليفته (1885 – 1957م)،
- الشيخ عبد العزيز سي الدباغ (1904 – 1997م).
6/ الزاوية الطوباوية للطريقة المريدية، وأعلامها
- الشيخ أحمد بمب مبكي المؤسس (1270 – 1345هـ /1854 – 1927م)،
- محمد المصطفى مبكي (1306هـ /1888م)،
- الشيخ عبد الأحد مبكي (1332هـ /1914).
فهؤلاء هم الأعلام من المتصوفين في السنغال، ويوجد أمثال هؤلاء الأعلام في بلدان المنطقة الغربية من القارة الإفريقية، الذين لعبوا دورا هاما في التصوف السني.
خاتمة
ذكرنا في هذا البحث المتواضع بعض الطرق الصوفية التي تُعد من التصوف السني، وأنها تستمد موردها من السنة. وذكرنا منها القادرية والتجانية والمريدية، مع العلم أن هناك طرقا أخرى لم نذكرها في هذا العرض، لأنّ وجود البعض يقتضي وجود البعض الآخر. فالبعرة تدل على البعير، وآثارها وآثار الأقدام تدل على المشي. ومعنى هذا، أنّ القارة الإفريقية لم تتخلف عن الركب في جميع مجالات الدين الإسلامي شريعة وحقيقة، لأنّ الشعور الديني عموما والشعور التصوفيّ خصوصا قوي لدى شعوب القارة الإفريقية جمعاء.
ولا يفوتنا في هذا المجال أن نشكر مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله ورعاه على مجهوداته العملاقة تجاه الدين الإسلامي، وغيرته الإفريقية المقدسة التي دفعته إلى القيام بِجمْع كلمة المسلمين عموما في هذه القارة، وهمته العالية في لمّ شمل العلماء الأفارقة، فأنشأ مؤسسة تربط بين علماء القارة السوداء، تعمل لرفع راية الإسلام عموما، وخدمة الثوابت الدينية المشتركة تحت مظلة الأخوة الدينية والإفريقية خصوصا.
ولتحقيق هذا الغرض، أنشأت المؤسسة تحت رعايته السامية مجلة للعلماء الأفارقة، للتعريف بقيم الإسلام السمحة، وخدمة الثوابت المشتركة، الأمر الذي يتيح للعلماء فرصة سانحة للتعارف من جهة، والعمل لبناء مجد إفريقيا من جديد دينيا وعلميا واقتصاديا وسياسيا من جهة ثانية، حتى تحذو القارة الإفريقية حذو قارات العالم في جميع المستويات.
ولهذا نسأل الله العلي القدير أن يثبت خُطى مولانا أمير المؤمنين على الصراط المستقيم، حتى يحقق جميع أمنياته، ويتمم مشاريعه في بلاده خاصة، وفي كل البلاد الإفريقية المسلمة عامة؛ وأن يحفظه الله سبحانه وتعالى بما حفظ به الذكر الحكيم، ويقر عينه في ولي عهده مولاي الحسن وصنوه مولاي الرشي د، وما ذلك على الله بعزيز.
- عاشت إفريقيا المسلمة، وعاش أمير المؤمنين المحبوب؛
- عاشت الفروع التابعة للمؤسسة؛
- عاشت إدارة المجلة ورجالها، وشكرا لها على اختيار هذا الموضوع الهام:
«التصوف السني في إفريقيا، معالم وأع لام»؛ لأنّها أتاحت لأعضاء الفروع فرصة سانحة للبحث العلمي وتبادل المعلومات الجهوية.
فشكرا للجميع، ولكل من قام بتحقيق الغرض في نشر المعلومات النافعة للقارة الإفريقية وأبنائها. ولله الحمد في الأولى والآخرة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش
[1] – راجع الكلمة لغويا والجدل حولها.
مراجع البحث
- القرآن الكريم، والسنة الشريفة.
- كتاب: أثر التصوف السني في تعديل وتقويم السلوك.
– كتاب: دور الطريقة التجانية في مساندة العقيدة الأشعرية.
- مقالة خاصة حول التسامح وقبول الآخر في المجتمع الصوفي، (محاضرة قام بها فرع السنغال، في عام 2019م)
- كتاب: الإرشادات الربانية للطريق إلى الجنة.
- كتاب: السلف أسوة للخلف الطالع.
- كتاب: الطريق الروحي للسائرين إلى الحضرة القدسية.
- محاضرة بعنوان: الإسلام والمجتمع، (نظمتها رابطة علماء الإسلام في السنغال، بتاريخ 24 نوفمبر 2007م).
- كتاب: المرشد المعتمد في سيرة الشيخ منتقى الصوفي.
- كتاب: الدر المنثور في حياة الشيخ سعيد النور، لمؤلفه الشيخ منتقى تال رحمه الله.