مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

أنوار النبوة توثيق صادق وهدايات متجددة

د. محمد ناصيري
دار الحديث الحسنية- الرباط

مقدمة

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق، وجعل سيرته نبراسا لكل الخلق، والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه، ورثة علمه، ونقلته بالعمل.

وبعد، فإن سيرة المصطفى تفردت في كمالها وجمالها، ووثاقة نقلها وشمولها لأحوال الإنسان فردا وجماعة، واختصت بعظمة آثارها على مر التاريخ منذ البعثة.

هي سيرة التقى فيها الوحي بالتفكير المعقول، القائم على التعليل الواضح الخالي من التعقيد. فكانت الكتابة فيها تحفها هيبة خاصة. فلا يستطيع أديب أن يختصر التعبير عن تجلياتها، ولا وصف أحداثها وتفسيرها، ولا النفوذ إلى عمق مضامينها. ولا تتبع طريقة التأثير في البشر والبشرية عبر تاريخها… فلابد من تخصصات شتى يهتدي بخبرتها ونماذجها إلى تحليل دقيق واستنباط عميق.

يقول العلامة الندوي رحمه الله: “إنه لم يعرف في تاريخ البشرية كله عمل أدق وأعقد، ومسؤولية أعظم وأضخم، من مسؤولية محمد صلى الله عليه وسلم كنبي مرسل، كما أنه لم يعرف غرس أثمر مثل غرسه، وسعي تكلل بالنجاح مثل سعيه، إنها أعجوبة العجائب، ومعجزة المعجزات “…

ويتابع نقلا عن السياسي والأديب والشاعر الفرنسي لامارتين قوله في وضوح: “إن إنسانا لم ينهض أبدا – متطوعا أو غير متطوع – لمثل هذا الهدف الأسمى؛ لأن هذا الهدف كان فوق طاقة البشر، لقد كان تحطيم تلك الحواجز من الأوهام والأحلام التي حالت بين الإنسان وخالقه، والأخذ بيد الإنسان إلى عتبة ربه، وتحقيق عقيدة التوحيد النقية العقلية المعقولة الساطعة، في ضباب هذه الوثنية السائدة، والآلهة المادية، هو ذلك الهدف الأسمى والأعلى، إنه لم يحمل إنسان مثل هذه المسؤولية الضخمة، والمهمة الجليلة العظيمة، التي تخرج عن طوق البشر، بمثل هذه الوسائل الحقيرة، الضئيلة. “[1]

إنها عبارات مشعرة بالقصور عن الوفاء بحق عظمة السيرة النبوية، وأهداف وسبل صاحبها، فكيف بوصف من سارها من كل النواحي ذات الصلة بالسلوك وخلفياته؟

أنوار النبوة تجلت في سيرة سيد الخلق، وكانت محور كتابة كل من كتب من أمة الإسلام أي أمة الدعوة مؤمنيها وغيرهم، فمن كتب في الفقه فعن نور سيرته يصدر، ومن كتب في الأصول فعن كيفية استثمارها يكتب، وكذا من كتب في الحديث وفنونه فعن طرق التوثيق يكتب، وهكذا ستجد أرباب التاريخ والأدب والحساب والنجوم والطب وغيرهم إنما يدفعهم نور النبوة لنشره، أو تحريره، أو العمل على لوازمه ومقتضياته، أو عرض حكمه وآدابه. إنه النور الخالد، الذي تخلد ذكره في الصوامع عبر الزمن وفي كل بقاع العالم “أشهد أن محمداً رسول الله. ”

يقول الدكتور محمد عمارة عن سير العظماء والمصلحين والقادة والعلماء والفلاسفة عبر الحضارات: إنها تكتب وتختم ولا يعاد إليها لكن “سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت وما تزال وستظل ميدانا مفتوحا للتأليف والإبداع الذي يكتشف في السيرة العطرة المزيد والجديد حتى لكأنها نبع متجدد وكتاب مفتوح يكشف فيه العقل المبدع ما لم يكشفه الأسلاف… وذلك بقدر ما يتحلى هذا العقل بالوعي والإخلاص والحب والولاء”2. لقد عاود النظر الأوزاعي فاستخرج أصول علم العلاقات الدولية، وأعاده القاضي عياض فاستخرج تنوع تصرفات النبي، وعاود النظر ابن قيم الجوزية، فاستخرج الهدي الشامل من أحكامها…. ويتوالى النظر وتتجدد المعاني.

وفي هذه المقالة رصد لبعض ما خص الله به سيرة سيد الخلق من أوجه التوثيق: الحفظ والعمل، ولمع من الهدايات المتجددة، مستعينا بأنظار غير المسلمين، عبر الزمن، لما تضمنته من قواعد منتزعة من الحكمة النبوية النابعة من الوحي، رأوا أنه لا سبيل للبشرية من اعتمادها لتكرار الإنقاذ من السقوط والدمار الذي تتجه إليه كل مرة عبر العصور. وذلك من خلال محورين:

الأول: أنوار النبوة: التوثيق الصادق والنقل الأمين.

والثاني: الهدايات المتجددة المأخوذة من دراسة السيرة عبر العصور.

أولا: أنوار النبوة: التوثيق الصادق والنقل الأمين

سيرة النبي صلى الله عليه وسلم النموذج الذي جاء به الإسلام

السيرة النبوية حفت بالعناية الربانية؛ لأنها تعكس مقاصد الوحي والرسالة في الخلق اعتقادا وسلوكا، فردا وجماعة. والسيرة تشمل موضوعاتها حياة النبي صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها، وحياة من حوله على مر عصرهم. ولذلك فإن السيرة هي نموذج ما جاء من أجله الوحي والبعثة.

يقول لامارتين: “إن العمل والفعل الذي يحدثه المحدث في علم التاريخ وسجل الخلود وكتاب الإنسانية، هو المقياس الصحيح لمقدار الوحي وقوة القلب والوجدان والفكرة السامية العالية التي تنفذ إلى مكان بعيد وتبقى زمنا طويلا وتمضي في الحياة رخوة… ولا ريب أن ذلك ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، والوحي الذي نزل عليه”[2].

ولا يخفى أن كل العظماء الذين مروا في الدنيا، إنما ثبتت شهرتهم، واستمر ذكر مآثرهم، بفضل ما أبدعوا وتركوا للبشرية مما يرقيها أو ينفعها. وكان لهم من الذكر بقدر الجوانب التي تميزوا فيها، وعرف عنهم بقدر الأصحاب الذين اختصوا بهم ونقلوا عنهم. لقد أغرم المؤرخ الأنجليزي توماس كارليل في كتابه “الأبطال” بسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوصفه بالبطل النبي، ووصف كل بطل بأهم ميزة فيه، وفي كل صفات البطولة وصف شخصين إلا في صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المميزة فذكره وحده، وفي كل صفات الأبطال المميزة يذكر معهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. [3]

وليس واحد من رواد الدنيا ثبت له من سيرته وتفاصيل حياته، في المنشط والمكره، في السر والعلن، في السرور والغضب، في البيت والخارج، في السلم والحرب، في العزلة والاجتماع، في السفر والحضر، في العادة والعبادة… ما ثبت للنبي الأكرم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. إنها السيرة العملية الواضحة، الجلية الناصعة، كأنه يعيش في بيت من زجاج.

إن هذا الوضوح والشمول في التوثيق القائم على الممارسة والسلوك المحسوس، يعكس مكانتها في رسالة الإسلام، ومكانة صاحبها. وقوة أثرها وتأثيرها. إنه النور الذي خص الله به البشرية بعد الأنبياء والرسل. فلابد من هذا الوضوح والظهور والجلاء والخلود لتقوم الحجة البالغة على الخلق على مر العصور. قال تعالى: ﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين﴾ [سورة المائدة، الآية: 15].

إن الحجة التي تقوم بالخبر المتواتر تقطع قول كل قائل، والتواتر يحصل بنقل الجمع الذي يستحيل معه التواطؤ على الكذب عن مثله، ويدعمه الحس والمشاهدة. وها هي سيرة سيد الخلق تتوفر لها من وسائل النقل والتوثيق ما يقطع شك كل شاك في كمالها وأثرها. إنه جيل الصحابة الذين اعتبروا سيرة المصطفى في السكون والحركة، وسائر الأحوال صورة ناصعة للدين الهادي، والعمل القويم بأنوار الوحي، والحال الرشيد من أحوال الإنسان، فسارعوا لامتثالها. لقد اعتبروا التأسي به مطلبا شرعيا، فنقبوا على كل تصرف نبوي، قال تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر﴾ [سورة الأحزاب، الآية: 12]. شهادة الصحابة الدقيقة والصادقة على فضل النبوة

لقد اعتبر الصحابة الكرام تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من تعظيم شعائر الله، ففاقت عنايتهم بأحواله العناية بأحوال أي عظيم أو رائد، أو ملك مخوف مهيب، أو عالم مبدع، ممن قدموا للبشرية خدمة، أو كانت لهم الصولة. إن اقتفاء سيرته فاقت الخيال، فصاروا في مجموعهم نسخا واقعية من سيرته. فهذا عروة بن مسعود يصف حال الصحابة حول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في كفره به فيقول: “أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له”[4].

إنها العناية الربانية لفصول بزوغ رسالة الإسلام، والحكاية الصادقة لرحلة تحرير الإنسانية من عبادة الأهواء وآلهة الأحجار والخرافات، ونقلها إلى عبادة الواحد القهار، وتحريرها من أشكال الاستعباد لغير الله، ومن الجور والظلم. إنها التوثيق الدقيق لخطوات نقل الإنسانية من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا، والحيرة وغموض المصير، وفقدان المعنى للوجود، إلى سعة الدنيا والآخرة. ولندع الذين عاشوا اللحظة يصورون لنا تلك الأحداث والأحوال التي رافقت أنوار السيرة وهي تعالج أمراض البشرية، وتضيء ما أظلم منها بسبب الفلسفات الغامضة المحيرة، والجبروت الذي هدم كل عزة في الضعيف، والطغيان الذي أفرزه المال والجاه، ونوازع النفس التي تخرج ما في الإنسان من شر. قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي واصفا أوضاع الإنسان والبشرية لحظة انبثاق النور الهادي وانطلاق مسير السيرة النبوية : “أيها الملك، كنا قوماً أهلَ جاهلية، نعبدُ الأصنام، ونأكل المَيْتَة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكلُ القوِيُّ منَّا الضعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينَا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقَه وأمانته وعفافه. فدعانا إلى الله، لنوحّدَه ونعبده ونخلعَ ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمَرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارمِ والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزّور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام[5]،. .. (فعدَّد عليه أمورَ الإسلام)، فصدَّقناه وآمنَّا، واتّبعناه على ما جاء به، فعبدْنا الله وحده فلم نُشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أَحَلَّ لنا، فعَدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليَرُدُّونا من عبادة الله، إلى عبادة الأوثان، وأن نستحلَّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقُّوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجوْنا ألا نُظلم عندك أيها الملك”[6][7].

إنها أوصاف صادقة، لواقع البعثة، والتعبير الدقيق عن الحقائق والأحوال التي عاشتها الإنسانية وهي تتلقى أول أنوار البعثة، وتتلمس الخروج من ظلمات الجهل بالله، وبحقيقة الوجود، والمصير.

إنها طائفة اختارها الله لتوثيق مرحلة الانتقال إلى حياة الطمأنينة، وعبادة الله الواحد، والانتقال من الشرائع الموضوعة على مقاس الأهواء، وأخلاق القوة إلى قواعد أخلاق العفة والفطرة السليمة، وقوانين علام الغيوب، وشريعة العدل التي تسوي بين بني البشر [8][9].

أنوار النبوة سطعت على البشرية، ووثقتها الطائفة المؤمنة أفعالا بحب وشغف وافتخار وامتنان، عندما اقترن خطاب الله بسيرة نبيه وتصرفاته، فليس هناك فصل بين التنظير والعمل. فأدركوا أنه يفعل ما يقول، ويقول ما يفعل. لقد وجدوا فيه أثر أنوار الوحي، فكان ذلك هو المرغب في الاقتداء به. حبا له ورغبة في التشبه بالصادق الأمين، وطلبا لمرضاة الله. إنها قاعدة البشر في التشبه بكل من يعظمونه أو يهابونه رغبة ورهبة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يكون أحد يجبر على فعل لم يقتنع بنفعه، أو يهاب شخصه، أو يستأثر بشيء يميزه، حتى إنه ليجلس المجلس لا يميز فيه عن غيره، ولا يعرفه الأجنبي عنه. قال تعالى واصفا طبعه وأخلاقه: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾[ سورة القلم، الآية: 4].

أنوار تلامس العقل والوجدان، في وضوح ويسر

إن أنوار سيرته أطمعت الصغير والكبير والمرأة والرجل في خلقه، فكان قريبا من كل أحد؛ إن كانت الجارية لتأخذ بيده في السكك حتى تقضي ما خرجت لأجله. عن أنس بن مالك، قال: «إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت»[10].

لقد ربى صحابته على الحرية في الاختيار وعلى الإقناع العقلي والوجداني، وإتاحة السؤال وبحث الجواب. إن بناء الأنفس وإخراجها من عاداتها وطباعها المألوفة تتطلب قدرا من الصبر والإقناع والحوار والتواصل بين المربي والمتلقي، فالمجتمع له سلطة، والشهوة لها صولة. ومما يوثق لهذه الأحداث التي تتأسس فيها قواعد معيارية جديدة، ومتميزة، ويراد لها أن يلتزم بها كل البشر، حادثة الشاب القرشي الذي جاء بكل جرأة ووضوح يريد الإذن في الزنا بعدما علم أن إعلان إسلامه يتنافى مع هذا السلوك الذي جاء بمنعه، فيخضعه النبي صلى الله عليه وسلم لجلسة تدريبية على أسلوب مقاومة الشهوة وطرق علاج النفس من عاداتها السيئة، ونقل المجتمع إلى قيم ربانية بناءة فطرية سليمة.

فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «أَنَّ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ أَتَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَزَجَرُوهُ، فَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ” ادْنُهْ “، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، فَقَالَ: ” أَتُحِبُّهُ لِأمُِّكَ؟ ” قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ.

قَالَ: ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأمَُّهَاتِهِمْ “. قَالَ: ” أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ “. قَالَ: لَا وََاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ “. قَالَ: ” أفَتُحِبُّهُ لِأخْتِكَ؟ ” قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ “. قَالَ: ” أَتَحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ “. قَالَ: لَا وََاللَّهِ يَا رَسُولَ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ.

قَالَ: ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ “. قَالَ: ” أتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ “. قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: ” وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ “. قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: ” اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ “. قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ»[11].

فقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الشاب مطلبه خوفا من غضب وسخط الآخرين. فأرشده إلى مداخل العقل الوجداني، ليحرره من مستندات الشهوة وزيف الباطل.

لقد كانت أنوار سيرة سيد البشر بعدد الصحابة الذين رأوه وآمنوا به، وإن من ينظر في موسوعات الحديث ليعجب من أن رجلا واحدا يوثق لحياته بهذه الأخبار، حتى يحيط العلم بكل تفاصيل حياته. ولا يكون هذا الحفظ والتوثيق إلا معجزة أخرى تاريخية تنضاف إلى معجزاته. فهذه الأحاديث وإن كانت مادة للتشريع فهي مادة لوثيق السيرة العطرة، ترصد يوميات النبوة، بل ساعات ولحظات المبعوث للبشرية.

عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وثباته

إنها تشهد على سيرة نبي، تخلو من التناقض، خلافا لسيرة أي رجل آخر. وتغطي مختلف أحوال المجتمع، والاجتماع، خلافا لمن كتب عنه في فنه الذي أبدع فيه.

إن من نقرأ لهم من عظماء الدنيا نفاجأ بمقدار من الاضطراب في حياتهم وانتقالهم من مذهب إلى مذهب ومن إيديولوجيا إلى أخرى، غيروا في أفكارهم ما غيروا. ولاءموا مبادئهم مع مقتضيات الظروف، وباءت جهودهم بالخذلان.. غير أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ظل ثابت الجنان على عقيدته الواضحة النقية، ومعتزا بكل مبادئه، بل وممتثلا لها في سيرته وسلوكه معلنا مبدأ خطيب الأنبياء قبله حين قال: ﴿وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ۚ إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ۚ وما توفيقي إلا بالله ۚ عليه توكلت وإليه أنيب﴾ [سورة هود، الآية: 88].

فلم يداهن ولم ينحرف. إنها العظمة التي تجعل حبه يفرض نفسه على القلب. كيف واجه عالمه الصغير، مستمسكا بوعد الله له بالنصر والتمكين، واثقا من صدق دعوته، وصابرا على أن يبلغ للبشرية ما يحميها من نفسها، ويثبت ما يخرجها من حيرتها وظلمات ما يحيق بها. إنها المدرسة الوحيدة التي لم تصب علومها بالخذلان عبر كل هذه القرون[12].

مبدأ العبرة بالنتيجة في التفاوض

إنه لم يكن يلتفت للقضايا الهامشية عندما تتراءى له أنوار الحق، فكم كان طلب سهيل بن عمرو قاسيا على المسلمين في صلح الحديبية بأن تزول صفة الرسول عن محمد صلى الله عليه وسلم، في وثيقة العهد، لكنه أمر عليا أن يمسح الصفة مسوغا ذلك بأن رسالته ثابتة ولن يغير ذلك شيئا من الحقيقة، كما أنه لن يضيف شيئا للحقيقة؛ ففي صحيح البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم ردا على طلب سهيل:” والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله” – قال الزهري: وذلك لقوله: “لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها”[13].

إنه النبي المفاوض على المبادئ الكبرى، وما يتوقف على الاتفاق والإرادة المشتركة، أما المعاني الثابتة من غير توقف على إرادة أحد، بل حقائق تابعة للإرادة الحرة، فلا تنقطع بها الأهداف الكبرى.

ممارسة تدبيرية تدفع الظلم، وتجلب الاستقرار

إن الذي استعد لمخاطبة أهل الدنيا لابد أن يكون في سلوكه لين الجانب، مالم تنتهك الحرمات، ولابد أن يكون للجميع، ولذلك فإن أهم خطوة سلكها بعد هجرته هي وضع مبادئ العيش المشترك بين مختلف المكونات الاجتماعية، والعرقية والدينية، وصهر عرب الجزية من أجل هدف واحد.

إن الظلم محرم على الجميع، والظلم لابد له من معايير تميزه عن باقي السلوك، فكانت وثيقة المدينة[14]، التي تمثل مفخرة التدبير النبوي لنواة دولة الإسلام، التي ستعظم وتغطي ثقافتها ومبادئها ثلث العالم كما قال لا مارتين[15].

لقد أعطت حق كل طائفة، ومجموعة عرقية، وميزت واجبات كل منها على جهة التعميم وعلى جهة التخصيص، فلأول مرة ستعرف البشرية الوثيقة السامية للدولة [16].

إن من يتمكن من تنظيم القبائل المتقاتلة لزمن طويل، ويرتب العلاقات بين مكونات متناقضة، وقد عاشت ثقافة العبيد والسادة، وثقافة القوي والضعيف والغني والفقير بما يترتب على هذه الصفات من آثار الاستعلاء والتحقير والاستغلال، ويتولد عنها من نفوس منهزمة مستسيغة للذل، وعقول معطلة، أو قاسية لا تقبل إلا الصدر أو القبر، إن هذا الجهد والنتائج ليدعوان إلى تعظيم قلبي وتقدير عقلي وتسليم وجداني لكل المبادئ والأخلاق والسلوك التي يدعو إليها، بل والمسارعة إلى الامتثال إليها، بل ودراستها واستخلاص أصول التأثير وعوامل النجاح.

ثانيا: أنوار النبوة: الهداية المتجددة عبر الزمن

لقد سبق النقل عن الدكتور محمد عمارة أن السيرة الوحيدة التي لا ينضب معينها على كثرة التأليف فيها، هي سيرة المصطفى عليه السلام. ولو نظرنا في كل ماكتب لوجدنا أن كل ناظر في السيرة نظر المفتقر إلى ما حوته قد أخرج دررا بقدر ما عاشه من هم علمي أو وجداني، أو سياسي أو اجتماعي، أو ثقافي أو غير ذلك.

فصاحب كتاب السير للإمام الأوزاعي، اكتشف علم العلاقات الدولية، وبعده صاحب كتاب الشفا القاضي عياض انتبه إلى تنوع تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم…وصاحب كتاب الخالدون المائة رأى أن السيرة تطفح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مؤثر، وأن نفعه وأثره هو أكثر الأثر استمرارا وبقاء. وهو كذلك فقد أنقذ حياة البشر من سيطرة الخرافة، وأوهام العقول، وحيرة الحاضر والمصير وغير ذلك.

وأهل التشريع نظروا إلى ما خلفه من ثروة تشريعية أصولا، وما ألهمت سيرته تفريعا. وأهل الأخلاق يقومون السيرة من جهة ما تضمنته من أخلاق وقيم لا تستغني عنها البشرية.

البشرية اليوم تحتاج إلى سيرة المصطفى لإنقاذها من الانهيار

لا يختلف عاقلان في أن البشرية اليوم لا تتوقف عن الانتقال من فظائع إلى ما هو أعظم ومن ضيق وحيرة إلى ما هو أشد، نهب للثروات، وإهدار للموارد، وفوضى وجبروت، وطغيان واحتكار من قبل محتكري القوة، في مقابل أمم منهوبة الثروات، منهكة بالأمراض، مصابة باضطرابات مزمنة…أما الإنسان فهو متجه إلى فقدان إنسانيته بل نفسه، ليعيش على وقع استغلال إمبراطوريات الإنتاج من مواد الترفيه إلى أفتك أنواع الأسلحة ووسائل الدمار. حالة لا تختلف عن أوضاع زمن البعثة إلا في طبيعة الوسائل، والسقف المعرفي ومستوى المنتجات.

وتلوح مشاعر فقدان الأمل في إعادة التوازن للمكون البشري على الأرض، واسترجاع الإنسان لقوامه الفطري الذي خلقه الله عليه متوازنا في كل شيء، قال تعالى: ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمِ﴾[17] وامتلاك أمره بعدما سلبت إرادته، ووقع التحكم في كل أذواقه وميوله.

من هنا تنطلق أنظار الباحثين في دراسة السيرة النبوية، ومجمل التاريخ العام والخاص، إنه بحث مستمر عن قوانين تضبط السير، واكتشاف قواعد التجارب الماضية، وكذا وسائل الإنقاذ وعوامل نجاح الفاعلين. وإذا كان المسلمون اليوم لاتزال معهم بقية من آثار السيرة النبوية يتناقلونها سلوكا ونماذج تفسيرية، مما يكسبهم قدرا من الأمل والمبادرات الذاتية، ويجعلهم يتخففون من وطأة مدنية العصر وتسليعها كل شيء. فإن غير المسلمين من أهل الفكر والتجربة السياسية والإصلاحية، ومن المؤرخين، تتوفر لديهم دواعي مختلفة للنظر في سيرة المصطفى، وتقويم إنجازاتها، ودراسة عوامل النجاح وأسباب الانحسار أحيانا. إن هذه الدراسات تحت ضغط آثار ما وصلت إليه البشرية من ألوان الضعف، قد مكنت من كشف جوانب عظيمة في سيرة المصطفى، رغم تطور الأشياء مما اعتقد معه خطأ مزيد من رضى الإنسان وسعادته. وقد جاء التعبير عن هذا الإعجاب بما يجعل السيرة هداية متجددة.

ومن عوامل النجاح التي يذكرها الغرب ما يقول إيميل درمنغم: “كان محمد يعد نفسه وسيلة لتبليغ الوحي، وكان مبلغ حرصه أن يكون أمينا مصغيا، أو سجلا صادقا للكلام المنزل، ويضيف عوامل النجاح التي منها: عدم الكلام بما يرضي الناس بل بما يعتقده. ومنها الرسالة السماوية الساطعة القاطعة المنفصلة عن أغراضه الشخصية. ومنها أنه إذا كان يضعف أحيانا بحكم بشريته، فإنه كنبي ظل ثابتا، ولم يكذب وكيف يفعل وقد رأى تأييد الله له في انتصاراته، فهل يليق أن يفسد ذلك بالكذب[18].

إن ما أثار هذا الباحث هو ثباته على رسالته وعدم ممالأة الملأ، ثم تخلصه في دعوته من أغراضه الشخصية، وصدقه الدائم في دعوته. إنها عوامل يفقدها العالم اليوم الذي لم يعد يستقر على شيء إلا خاصية تبديل الأفكار وتبعيتها لحاجات القوى المتحكمة.

كما رأى بودلي بأن من أعظم سياساته التي أدت إلى النجاح الباهر هو أنه استطاع صهر العرب في فريق واحد لا يهزم، واستطاع أن يجعل المرأة المهضومة الحقوق في المهام العسكرية حيث تتولى معالجة المرضى، ويراه بودلي لأول مرة في تاريخ الحروب وقع هذا[19]. لقد رصد بودلي عنصرا مهما بدونه لن تنعم البشرية، وهو عنصر اتحاد مكونات الدولة والمجتمع، لأنه اليوم هو أخطر ما يهدد الدول. كما انتبه إلى عناصر اجتماعية مهمة كالمبادرة إلى الصدقة بأنواعها المادية والمعنوية ومنها أن تلقى أخاك بوجه طلق. هي أمور أصبحت البشرية فاقدة لها أو تابعة لمنطق الربح المادي.

ظهور أنوار النبوة وعلوها على سائر الأفكار

لقد وعد الله عز وجل بظهور سيدنا محمد على سائر الدعاة وبظهور دينه على سائر الأديان، قال تعالى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ [سورة التوبة، الآية: 33[.

إنه ظهور مكافئ لكل عصر، فعصر الحضارات الجهوية، قابله ظهور حضارة الإسلام في الجهات، على أنقاض حضارة الفرس والروم. وحضارة زمننا العالمية ذات الصبغة التعميمية، حيث تعمم الثقافات، وتعمم الأفكار، وتعمم النماذج، في ظل ثورة إعلامية عابرة للقارات والقلوب، لابد أن يقابلها ظهور يكافئها. قال تعالى مبرزا هذا المقام: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا [سورة النور، الآية: 55].

إنها وعد مستمر في خط الزمن، لا يختص بزمن دون زمن ولا بعامل دون آخر، بل في كل حقبة فقدت البشرية بوصلتها يهيئ الله رجالا ونساء يمح الله بهم الباطل ويزهقه.

فمتى وجد الإيمان بالرسالة الخالدة والعمل الصالح بمقتضاها جاء الاستخلاف وهو تمكين لمظاهر الأمة أخلاقا وثقافة، وتمكين لقواعد الدين وأركانه الممسكة لبيت البشرية وسقف أمنها. لقد انتقلت البشرية اليوم إلى حالة الإحباط والفجور في التدبير، وكشفت الأحداث المتلاحقة من أوبئة وشح في الموارد، وحرص على السيطرة نوازع النفوس الراغبة في التسلط وقهر الغير.

وكتب أهل الرأي عن حقارة ما آلت إليه أوضاع الإنسان في ظل تسارع وتيرة الإنتاج واستهلاك الموارد، من استغلال وتصييره سلعة أو آلة أو فرصة للربح، وتنفيذ السلع وتكديس الثروة.

لم يعد الإنسان يطمئن على حياته الآنية ولا المستقبلية وفقد روحه، وهدد جسده. إنها حيرة وظلمة تستقبل البشرية وتزداد حلكة مع الأيام والسنين، من غير أن تلوح في الأفق بوادر الفرج. أصبح يفقد الإنسان معاني الحياة.

السيرة تقدم للإنسانية نماذج للحلول

الرشد الإيماني

لم يكن الإنسان زمن البعثة تنقصه معايير الفطرة، ولكن ينقصه من يرشده إليها. إن ثبات المبدأ هو معلم الهداية، والسيرة تقدم عنصر الثبات علميا وعمليا. لقد جاءت الآيات تبني عقيدة التوحيد، لتخرج الإنسان من أوهام الآلهة إلى حقيقة الإله الواحد. ولذلك ظل النقاش حول الوحدة والتعدد في الآلهة: ﴿أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق المل منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم﴾ [سورة ص، الآية: 56].

إنه مصدر التلقي في بناء النماذج والمعايير التي تستحق الاعتماد في الحكم على الأشياء. إن السيرة تقدم قانون المعيارية أصلا ومنطلقا في إصلاح المنطق، والسلوك، وإلا فقد الحق معناه، وهذا بلال الذي عاش الذل والهوان عندما امتلأ قلبه بمعاني الألوهية وأدرك عظمة التوحيد، وشعر بقيمة الإنسانية فيه، استهان بكل أنواع التنكيل والعذاب، فعن عبد الله بن مسعود، قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد”[20]. إنه مشهد تلتقي فيه المعايير المختلة بالمعايير الثابتة، فالصناديد الذين يعذبون هؤلاء لم يصلهم أذى منهم، إنما وحدوا الله فقط، فصار استعمال عقولهم من كون الحجارة لا تنفع ولا تضر مرضا يحتاج إلى علاج بالقوة.

إنه مشهد أيضا تظهر فيه واقعية هذه الدعوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن بعضهم قد غلب على أمره فنطق بكلمة الشرك، التمس لهم العذر، معتبرا ذلك أنه لم يغير من القلب شيئا إذا كان موقنا. لكن بقي ثبات بلال الذي عاش الاستعباد في السابق، وهوان النفس، شهادة في تاريخ البشرية على مقدار تأثير أنوار النبوة، وسيرة المصطفى، في بناء الرشد الإيماني، وغرس معايير الحق، وتحرير العقل.

لقد واكب الوحي مرحلة انتشال الإنسانية من سقوطها، ووثقت الآيات الحوار الذي كان يجري بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يمثلون نموذج البشرية الحائرة.

ومن تلك النماذج التي عمل على إزالتها وأحل محلها نموذج الرشد، اعتماد العادة أصلا ومستندا. إنها القاعدة التي تسعى كل السياسات المحتكرة إلى الاستناد إليها لتقرير ما تشاء من أنواع الظلم والإفساد.

البعث والنشور

لقد استغرق الحوار حول البعث والنشور آيات عديدة ومواقف مختلفة، إنها كانت قضية أساسية في بناء الرشد الإيماني. إن إنكار البعث لهو عنوان حيرة شديدة تدل على ضبابية المصير، وسبب قوي في اندفاع المرء إلى الاستمتاع ما استطاع بملذات الدنيا، وتحقيق أقصى الأماني في التجبر ما أمكن. فجاء القرآن موثقا لهذه القضية في أكثر من اثني عشر موضعا ومنها: ﴿بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين﴾ [سورة المؤمنون، الآيات: 8183]

وتدل الآية على أنها مسألة تنتاب البشرية عبر الزمن، وقد تكون أساسا لكل الشرور.

الرشد السلوكي

إن من يتتبع سيرة المصطفى عليه السلام وأحاديثه سيقطع بأن هذه الرسالة هي رسالة تهذيب النفس والخلق، ولا يستطيع أن يقنع بهذا إلا من احتمل أن يكون نموذجا، إذ السقوط في الأخلاق أسرع إلى نفس الإنسان.

إن الخلق له مظهر واحد هو السلوك التلقائي للإنسان، وهو أثر للثقة في ثمرته، فقد جبل المرء على حب النفع المادي والاستعجال، ورجاء المقابل عن سلوكه. لكن أهل العفة والنفوس الكبيرة كانت تتسم بصفة الخلق، فمنهم من يردعه الحرص على الوصف، ومنهم تردعه حقيقة الفعل المشين، أو يرغبه الفعل المرضي.

إن هذا ما يفسر ربط الخلق بالأجر الكبير عند الله في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يؤسس للنموذج الأخلاقي علميا، بعدما أعطى النموذج ممارسة.

الخاتمة

إن أنوار السيرة حفظت في التاريخ، سلوكا وممارسة وعملا مستمرا، إنها شهادة أقوى من كل الوثائق والروايات. ولقد أبرز الانقلاب الكبير والعظيم في المجتمع الذي وقعت فيه البعثة مقدار حاجة البشرية إلى علم الوحي، ومعايير الدين، وأخلاق العفة، والتفكير المنطقي والتجرد عن أنانية النفس. فلم يكن ذلك الإقبال على ما دعا إليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن ترهيب، وإلا لنكص الناس وفشلت الدعوة، واندثرت معالمها وقواعدها كما وقع لسائر الدعوات. ولم يكن لأجل ممالأة شخص النبي طمعا فيه، وإلا لرجع الناس بعدما يفقدون الأمل فيما كانوا ينتظرون…لقد استمر العمل بسيرة المصطفى، والاستضاءة بأنوارها إلى يوم الناس هذا، يقينا بضرورتها لتحقيق العبودية لله، وبجدواها للموازنة بين الطبيعة البشرية، ومقتضيات السمو والمطلق الذي ينشده الوحي في الإنسان. فإنه لا يسد مسدها علم تجريبي ولا برهان عقلي منطقي، ولا فلسفة حلقت في عالم الغيب وما وراء الطبيعة.

إن السيرة بهذا التوثيق منقطع النظير، من جهة الرواية، ومن جهة العمل المستمر. بل ومن جهة الشواهد الأجنبية، لهي أحد معالم رسالة الإسلام الخالدة، ومعجزة إضافية لمعجزات النبوة. وهي بهذه الصفات مصدر للاهتداء، ومعين من القواعد لا ينضب. لا ينظر فيها أحد إلا خرج بما يريح قلبه، ويقوي علمه، ويرشد فكره، ويسدد قراره. ويضبط تطلعاته، إنها صورة من صور الوحي المتمثل في تصرفات النبي.

السيرة خزان لعظمة المبادئ، والحكمة الدائمة، والتجربة دائمة إمكان التكرار، في منهجها وعوامل نجاحها، نتائجها. إنها سيرة الإنسان كامل الإنسانية، وسيرة المجتمع المنشود، ومسيرة البناء الدائم لكمال البشرية والحفاظ على المعاني التي لا قيام لها من دونها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين.

الهوامش

[1] -مقالات في السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي، إعداد سيد عبد المجيد غوري، دار ابن كثير، بيروت ط. الأولى 2002م ص28 وينظر أصل النقل من مقدمة تاريخ تركيا للفونس دو لا مارتين 1 /276_277 الذي صار كتابا بعنوان “حياة محمد.”2- تقديم لكتاب النور الخالد، فتح الله كولن ص 5.

[2] – الرسول العظيم بأقلام المستشرقين والمفكرين الغرب، محمد إبراهيم ص33.

[3] -الرسول العظيم، ص 37 .

[4] – محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر. ط. دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية) ط. الأولى، 1422هـ (3/ 195).

[5] -هذه الحادثة كانت قبل فرض صيام رمضان، والصوم هنا صوم التطوع، وكذا الزكاة هي مطلق الصدقة.

[6] هـ – 2001 م (2/ 753).

[7] -أحمد بن حنبل، المسند، تحقيق شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، طبعة مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى،

[8] م. ينظر فصل جميل من الكتاب يصف فيه أحوال الصحابة في نقلهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم عملا وتأسيا ص32 وما بعدها.

[9] -مناظر كلاني، تدوين الحديث ترجمة عبد الرزاق إسكندر، مراجعة بشار عواد ط. دار الغرب الإسلامي بيروت، ط. الأولى

[10] – محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح المختصر، (8/ 02).

[11] المسند، أحمد بن حنبل، 36 /546. الطبراني في “الكبير “(9767). قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/921) رجاله رجال الصحيح.

[12] -النور الخالد، محمد فتح الله كولن، ط. دار النيل / مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط الأولى 1427ه/2007مـ،ص15.

[13] – الجامع الصحيح للبخاري (3/ 195).

[14] – تنظر دراسة هذه الوثيقة في كتاب الوثائق السياسية للعهد النبوي للدكتور محمد حميد الله وهي مروية في كتاب سيرة ابن هشام متفرقة.

[15] -نقلا عن كتاب مقالات في السيرة النبوية ص6.

[16] -ظاهرة الاختلاف في المجتمع النبوي، محمد ناصيري بيروت، ط, دار ابن حزم ط. الأولى 2010 م ص 60.

[17] – سورة الإنسان آية 3.

[18] – الرسول العظيم بأقلام المستشرقين ص46.

[19] – الرسول العظيم، ص 51.

[20] – السنن، أبو عبد الله ابن ماجه، تحقيق فؤاد عبد الباقي، ط. دار الفكر بيروت بدون تاريخ (1/ 105) وقال البوصيري إسناده ثقات.

فهرس المصادر والمراجع

  1. القرآن الكريم.
  2. أحمد بن حنبل، المسند، تحقيق شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، طبعة مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م.
  3. محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر. ط. دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية) ط. الأولى، 1422هـ.
  4. أبو عبد الله ابن ماجه، السنن تحقيق فؤاد عبد الباقي، ط. دار الفكر بيروت بدون تاريخ
  5. محمد حميد الله، الوثائق السياسية.
  6. مناظر كلاني، تدوين الحديث ترجمة عبد الرزاق إسكندر، مراجعة بشار عواد ط. دار الغرب الإسلامي بيروت، ط. الأولى 2004م.
  7. محمد فتح الله كولن، النور الخالد، ط. دار النيل / مؤسسة الرسالة، القاهرة، ط الأولى1427هـ / 2007م.
  8. أبو الحسن الندوي، مقالات في السيرة النبوية، إعداد سيد عبد المجيد غوري، دار ابن كثير، بيروت ط. الأولى 2002م.
  9. محمد ناصيري، ظاهرة الاختلاف في المجتمع النبوي، بيروت، ط, دار ابن حزم ط. الأولى 2010م.
  10. الرسول العظيم بأقلام أعلام المستشرقين والمفكرين العرب، محمد إبراهيم، طبعة المنهل 2011م.

تحميل المقال بصيغة PDF