مجلة العلماء الأفارقة

مجلة العلماء الأفارقة مجلة علمية نصف سنوية محكمة تعنى بالدراسات الإسلامية والثوابت المشتركة بين البلدان الإفريقية تصدرها مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة. تنشر فيها مقالات علمية تخدم أهداف المؤسسة المنصوص عليها في الظهير الشريف الصادر بشأنها

جهود العلماء الأفارقة في خدمة الثوابت الدينية المشتركة

Slider

الشباب الإفريقي وحضوره في التربية الدينية والتنمية البشرية

د. يحيى ولد البراء
جامعة نواكشوط- موريتانيا

الحديث عن الشباب الإفريقي وحضوره في حقلي التربية الدينية والتنمية البشرية في مجلة ناطقة باسم العلماء الأفارقة هو في الحقيقة حديث عن أثر الإسلام وتأثيره في الوقت الحاضر في شعوب القارة ومدى استجابتهم لتعاليمه، سواء على المستوى الأخلاقي والثقافي أو على المستوى التكويني والاقتصادي.

ثم هو بالاستتباع حديث عما سينجُم عن مُخرجات هذا التأثير من ثمار تُمهِّد لتلك الشعوب أسبابَ السلم والرفاه والانعتاق. وقولنا: إنه “في الحقيقة حديث عن أثر الإسلام وتأثيره”، يستبطن بالفعل دورَ القوى الحية الشبابية باعتبارها الأداة الأولى للتأثير والتغيير كما هو منثور في نصوص الوحي ومشاهد في وقائع التاريخ.

لهذا سنتناول هذا الموضوع – المتسم بالشمول والاتساع وتعقد المظاهر والظواهر- من خلال محاور أربعة نراها ضرورية لتجلية أهم ملامحه على مستوى الملاحظة والوصف، ومرشحة أن تقدم استنتاجات حوله وتنبؤات عن مساراته واردة على مستوى الفهم والتفسير.

سنتحدث في المحور الأول عن الأهمية الطبيعية والبشرية للقارة، وما تزخر به من مقدرات وازنة وواعدة تفرض حشدَ طاقات شبابها للانخراط أكثر فأكثر في دفع عجلة التغيير نحو الأفضل والأنفع. وسنتعرض في المحور الثاني لعلاقة القارة بالإسلام، ولأشكال ممارسته والتحديات التي تواجهه في الوقت الحاضر. وسنبرز في المحور الثالث نماذج من قيام الشباب الإفريقي المسلم بالدعوة نشرا وتعميقا، ومدى نجاعة خطاباته وممارساته وتقييم مردوديتها الفعلية في الواقع المعيش. وسنبين في المحور الرابع والأخير الأدوار التي ينبغي أن يقوم بها هذا الشباب في تطوير القدرات المادية واللامادية لشعوب القارة من أجل تنمية متكاملة في شكلها وفي مضمونها.

ولا شك أن استثمار طاقات الشباب الإفريقي المسلم لإحداث نهضة في القارة السمراء حاضنةٍ للتعدد وصائنةٍ للموروث، ومُنتَبهةٍ لقيم الإحسان والعدالة، يظل مطروحا. خاصة في خضم الجدل الدائر حول إمكانيات النهوض الإفريقي مع بروز تحديات خارجية وداخلية تجعل من هذا النهوض أمرا عصيا على التحقق.

إفريقيا: بعض المعطيات الأساسية

إذا كانت بلدان القارة الإفريقية قد عرفت وما زالت تعرف تعثرات متكررة في مسيرتها التنموية على خلاف أغلب بلدان القارات الأخرى، وتبرز نواقص بادية للعيان في البنى التحتية والسلم المجتمعي، وتضم أكبر نسبة في الفقر على المستوى العالمي (ستون في المائة من فقراء العالم في سنة: 2019م[1]، فإنها تمثل في المقابل قوة اقتصادية وبشرية واستراتيجية بالغة الأهمية، تبوؤها مكانة خاصة يحسب لها حسابها في المستقبل، وتفسر أسبابَ ودوافع تكالب القوى الدولية عليها منذ قرون، وبروزَها مسرحا لمآرب نفوذها وسيطرتها إلى وقتنا الحاضر.

وسنحاول من خلال تتبع المعطيات المتاحة عن البلدان الإفريقية على مختلف الأصعدة بيان صحة هذين التعميمين اللذين ذكرناهما آنفا، الواصِفَين لهشاشة الوضع الراهن للقارة ولآفاق انطلاقتها المستقبلية الواعدة.

إفريقيا: التنوع السكاني والوضع الاستراتيجي

تُعتبر قارة إفريقيا ثاني قارات العالم من حيث المساحة (73,11 مليون كلم مربع)، ويصل سكانها، حسب تقديرات مايو 2021م، إلى  1,367,390,803 فردا[2]. وتعتبر ذات أهمية كبرى من الناحية الاستراتيجية (المضائق والممرات المائية، والتنوع المناخي)، وتضم مزيجا فريدا من الخصائص التمييزية والمقدرات الاقتصادية (الثروات الطبيعية والطاقة البشرية).

وتضم هذه القارة أربعا وخمسين دولة، تتنوع فيها الأعراق البشرية بشكل كبير مما يجعل أغلب الدول مركبا إثنيا، وأغلب الإثنيات عابرا للدول. كما تتميز بتعدد لغاتها التي تصل حسب بعض الإحصائيات من 1250 إلى 2100 لغة[3] وفي بعضها إلى ما يزيد على 3000 [4].

وإذا كانت بلدان القارة الإفريقية تحتضن إمكانات اقتصادية بالغة الأهمية، فإنها تتمتع، زيادة على ذلك، بمُقدرات بشرية كبيرة، نظرا لارتفاع نسبة الشباب في ساكنتها؛ أي من تتراوح أعمارهم بين سن الخامسة عشرة والرابعة والعشرين سنة[5]. فنسبة الشباب في القارة تتجاوز حسب الإحصاءات الأممية عتبة %65 [6] بل تصل في بعض الدول إلى ما يناهز %75 من مجموع السكان. لذا تعتبر إفريقيا القارة الفتية، أي الأكثر شبابا وهذا ما يمنحها ميزة ديموغرافية واستراتيجية. خاصة أنها من أسرع مناطق العالم نموًا [7] وأن نسبة %60 من سكانها لا تتجاوز أعمارهم الخمسة والعشرين عامًا [8]. ويترقب المهتمون بالشأن الديموغرافي أنه بحلول سنة 2030م سيزيد عدد الشباب في إفريقيا بنسبة %42 [9] عما هو عليه الآن.

كما تعد إفريقيا من أكثر قارات العالم في نسبة المتدينين [10] إذ تبلغ حسب بعض الإحصائيات حوالي %89 من تعداد السكان [11]. ففيها تنتشر ديانات الإسلام والمسيحية، ونِحَل مختلفة (الإحيائيات القديمة)، وإن كان أغلب السكان من معتنقي الإسلام والمسيحية اللذين يظهران في بعض الأحيان ممزوجين بمعتقدات أو ممارسات الطقوس الإحيائية.

ويحتل الإسلام موقعا متميزا في إفريقيا فهي تعد القارة الأولى من حيث عدد معتنقيه الذين يقدر عددهم حسب بعض الإحصائيات بحوالي 581 مليون نسمة [12]. ولذا تُوصف بأنها قارة الإسلام؛ نظرًاً لانتشاره بصورة كبيرة في كل أنحائها، سواء في الشرق أو الوسط أو الغرب أو الجنوب. وهي تأتي في المرتبة الثّانية من بين القارات من حيث النسبة المئوية للمسلمين في العالم إذ بلغ حوالي %15 [13].

وقد ساد الإسلام في النصف الشمالي من القارة بشكل قوي. فهناك 21 دولة عدا دول الشمال الإفريقي تعد من فضاء العالم الإسلامي وهي: أوغندا، وبنين، وبوركينا فاسو، وتشاد، وجزر القمر، وجيبوتي، والسنغال، والسودان، وسيراليون، والصومال، والطوغو، والغابون، وغامبيا، وغينيا، وغينيا بيساو، والكاميرون، ومالي، وموريتانيا، وموزمبيق، والنيجر، ونيجيريا.

وإذا نظرنا إلى نسبة توزيع المسلمين في القارة، فسنجد أن مناطق شرق القارة وغربها أكثر كثافة من منطقتي الجنوب والوسط. ففي منطقة الشرق الإفريقي تبلغ نسبة المسلمين قرابة (%7,49)، وفي الغرب الإفريقي [14] الذي يعد أكبر كتلة إسلامية في القارة الإفريقية تبلغ النسبة حدود %7,62. أما منطقتا وسط إفريقيا وجنوبها فتبلغ نسبة المسلمين %2,10 في الجنوب، و%4,15 في الوسط.

وربما يكون ذلك راجعا إلى التأثر بحركات انتشار الإسلام الأولى، فالإسلام يكاد يشكّل الأغلبية في غرب القارة وشرقها والنسبة الباقية عن هذه الأغلبية تتوزعها المسيحية والديانات الطبيعية التقليدية، في حين أنه يشكّل الأقلية في منطقتي الوسط والجنوب.

ويُـعَـد تسخير إمكانات الشباب في الشأن العام تحديا رئيسيا وفرصة بالغة الأهمية في ذات الوقت. فهو فرصة نظرا لما للشباب من طاقات ومواهب تدفع بالمجتمعات، إن هي وجهت التوجيه الرشيد، إلى آفاق بعيدة من الرقي، ووحدة الصف، واستقرار الأوضاع.

وهو تحد كبير لأن الشباب هم الأكثر عرضة لامتهان الجريمة وارتكاب أعمال العنف والسير في دروب التيه خاصة أن نسبة كبيرة منهم يعيشون في أحزمة فقر مدقع في المدن والقرى، أو في مناطق تشهد صراعات دموية عنيفة. ولذا يصف كروز أوبراين (Cruise O’Brien) (1996) الشباب الإفريقي بأنه “الجيل الضائع” الذي هو، حسب تعبيره، معارضة طبيعية، ليس لديهم الكثير ليخسروه وليسوا مجهزين بشكل جيد لجعل معارضتهم فعالة ويسهل التلاعب بهم من قبل شيوخهم [15].

ولما كانت بلدان القارة الإفريقية من أكثر دول العالم أزمات وبؤر توتر، ومن أضعف القارات على المستوى التصنيعي والعلمي والاقتصادي حيث تسهم بنحو %2 فقط في الزيادة السنوية للناتج المحلي الإجمالي العالمي وترتفع فيها درجة اعتماد الاقتصاد على السلع الأولية، فإن اتساع قاعدة هرم السكان قد يكون بالنسبة للأفارقة خيرا ومنفعة جليلين في ظل حكامة رشيدة ومتبصرة؛ لأنه سيؤدي حتما إلى تطور الحياة العامة في مختلف واجهاتها المادية والبشرية؛ وقد يكون شرا مستطيرا وجائحة مدمرة إذا ظل هذا العدد الكبير من الشباب يعانون من تخلف العقليات والإهمال وسوء الإدارة والإقصاء.

تشير هذه المعلومات إلى أي مدى تبرز القارة الإفريقية رهانا كبيرا في عالم اليوم وثروة طبيعية وبشرية واستراتيجية تتداعى عليها الأمم من كل الجهات، تستدعي من المسلمين من أبنائها ومن غيرهم أن يولوها من الاهتمام والرعاية ما تستحقه.

القارة السمراء وحركة الإسلام

انطلاقا من الإحصاءات المتقدم ذكرها فإن القارة الإفريقية تعد من أهم معاقل الإسلام في الماضي والحاضر، فقد عرفت هذا الدين في وقت مبكر من ظهوره أيام الدعوة النبوية في مكة. ونشأت فيها كيانات سياسية أسست حواضر كبرى كان من دوافعها بالأساس تسهيل حركة القوافل بالربط بين دول الإسلام في الشرق الأدنى، وبين الشرق الإفريقي، أو بين مصر وبلاد المغرب وشعوب جنوب الصحراء.

وكان من النتائج التي انتهت إليها حركة الإسلام في ماضي إفريقيا أن الوضع الديني السائد اتسم بسيادة المنحى السني الأشعري، واعتمد معتنقوه في معرفة الأحكام الشرعية أساسا على المذهبين المالكي بالدرجة الأولى والشافعي بعده؛ وانضووا في غالبيتهم العظمى في مجموعة من الطرق الصوفية التي تضطلع بعمل ريادي في تنظيم المجتمعات وتعليمها ورسم طرق معائشها.

لقد كان دين الإسلام عند الشعوب الإفريقية من يوم تعرفوا عليه ذا جاذبية قوية وأخاذة بالمقارنة مع الديانات الأخرى، مما جعلهم يعتنقونه في بعض الأحيان طوع أنفسهم وبسرعة فائقة وبحجم كبير. فكانت جاذبيته أقوى مفعولا من إرادة المسلمين وسعيهم في نشره. ويستغرب المرء من حال الدول الإفريقية التي شهدت حروبا أهلية كالسيراليون وليبريا في أواخر القرن الماضي كيف تقدم فيها الإسلام بشكل ملحوظ، فانتقل عدد المسلمين من أقل من %5 قبل أحداث العنف إلى أزيد من %20 بعدها [16].

لهذا يتعجب الملاحظ من هذا القبول والاحتضان للإسلام عند الأفارقة على قلة الجهود الإسلامية المبذولة في خدمته مقارنة بالجهود الضخمة للجماعات التبشيرية التنصيرية. ولا شك أن من أسباب ذلك ما اتصف به من سماحة وتوافق مع الفطرة الإنسانية وبالغ إحسان. فقد ذكر النّبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعم الأرض وتقوم به الحجة على العالمين: “ليبلغَنَّ هذا الأمرُ (أي الإسلام) ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه، وذلًّا يذلُّ اللهُ به الكفرَ” [17].

وعلى إثر الأحداث ذات الأثر العميق التي شهدتها القارة بدءا من الكشوف الجغرافية والارتباط بالتجارة الغربية، ثم المد الاستعماري وما انجر عنه من حركية اجتماعية تغيرت فيها المواقع والأدوار وحتى الخرائط البشرية كثيرا، وانتهاء بحركات المقاومة وقيام الدول المستقلة وما نجم عن ذلك من تموقعات جيوسياسية، طرأت على مسار الإسلام تغيرات جلية، أثرت بالغ التأثير في حركته ومساحته وشكله ومحتواه، واستجدت قضايا على شعوب القارة برزت بموجبها تحديات ونوازل جديدة طرحت على مسلميها بقوة وإلحاح.

منها ما هو جيوسياسي جاء إثر التغيرات التي شهدها العالم خلال حقبة ما بعد الكشوف الجغرافية، والتي انعكست على القارة الإفريقية وتأثر بها الإسلام إيجابيا أحيانا وسلبيا أحيانا أخرى. ومنها الأحداث التي عاشتها القارة من حروب أهلية دارت رحاها في أجزاء منها متعددة، وتهجيرات قسرية من مكان إلى آخر، ونزوحات مستمرة من الأرياف إلى المدن، وجفافات ومجاعات متكاثرة، كل ذلك كان له وقعه المباشر أو غير المباشر على مسلمي القارة وعلى وضع الإسلام بها.

كما أن ما جدّ في العالم من تطورات على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية حمل معه تحديات كبيرة تواجه أبناء القارة الإفريقية وتتوجه أكثر نحو المسلمين. وطبعا هذه التحديات لا تواجه الإسلام في ذاته لأنه دين، يسع بحكم مطلقيته وتعاليه كل الظروف والمتغيرات على مر الأزمنة وامتداد الأمكنة، وإنما تتوجه نحو المسلمين أنفسهم في قدرتهم على فقه الوقائع وتحقيق المناطات.

ولقد أدى تغلغل الخطاب السلفي في القارة الإفريقية بدءا من ثمانينيات القرن الماضي سواء منه السلفية العلمية، أو السلفية الجهادية، أو السلفية المدخلية بتيار من الشباب المتدين إلى القول بعدم صوابية ما كان عليه سلفه من إسلام عقدي ومذهبي وطرقي، فانتشر هذا التوجه بعنفوان بين الكثير من أبناء القارة منذ ستينيات القرن الماضي.

وقد جمعت المنظمات غير الحكومية والدولية والمؤسسات التي نشطت في نشر الفكر السلفي بين الدعوة والعمل الاجتماعي والإنساني، فانتشرت مؤسسات خيرية وإنسانية كثيرة مثل: هيئة الإغاثة العالمية، ولجنة مسلمي إفريقيا، ومؤسسة الحرمين الخيرية، تهدف كلها إلى تحريك قواعد الإسلام السني في إفريقيا ومكافحة توسع الطرق الصوفية وطمس الممارسات الدينية المتوارثة.

وقد صاحب هذا التوجه الدعوة إلى عدم التمذهب والقول إن اتباع مذهب معين ليس واجِبا دينيا بل على العكس من ذلك بدعة متروكة؛ خاصة أن إرغامات العصر وتعقد مسائله تفرضه -حسب زعم متبنيه.

وجاءت الشيعة لتمثل في المشهد اليوم في القارة الإفريقية كما بشريا تتسع سعة موجته يوما بعد يوم، خاصة أن إفريقيا كانت من أهم المناطق التي كثف فيها الشيعة نشاطهم وضاعفوا مجهوداتهم. وقد ينضاف إلى هذا العامل ويقويه تعلق الوجدان الإفريقي بالتصوف وما يلازم ذلك من احترام بالغ لأهل البيت وتعظيم لهم. كما يقويه اشتداد الحملة القوية التي قامت بها التيارات السلفية ضد التصوف بما يعنيه من حب للشرفاء وطلب للبركة والتوسل بالصالحين، فجاءت رد فعل المجتمع في انتقال بعض أبنائه إلى المذهب الشيعي.

ومن الصعب الحصول على أرقام دقيقة عن عدد المتحولين إلى المذهب الشيعي في إفريقيا، لكن في نيجيريا وحدها -الدولة الإفريقية الأكبر من حيث عدد السكان- هناك نحو %12 يعرفون أنفسهم بأنهم شيعة والحال أنهم سنيون، في سنة: 1980م. كما يمثل التشيع في جارتها الشمالية النيجر نسبة %8. وتبلغ نسبة الشيعة في تشاد %21، من إجمالي عدد المسلمين، و%20 في تنزانيا، و%8 في غانا، وفي السينغال يعدون بالآلاف[18].

وإضافة إلى ذلك، شهدت إفريقيا منذ ثمانينيات القرن الماضي هزات قوية خاصة مع دخول خطابات إسلامية جديدة. ومن المعلوم أن أصحاب هذه الخطابات السياسية والدعوية كان لهم نصيب كبير في إنتاج الخطاب المتطرف الذي أصبح اليوم صاحب التأثير الأول على أكبر قدر من المستمعين المسلمين وغير المسلمين باستخدامه للمنابر والمنشورات والفضائيات والشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي، وصار مبعثا لمزيد من الشحن العاطفي والتحريض على العنف، وتكريس الانقسام؛ وأدى إلى الكثير من الاعتداء على دماء الناس وأموالهم، وآذن بخراب دول بكاملها، وزاد المسلمين في بلدان الغرب رهقاً، ورفع من درجة توجس أبنائها من المسلمين والإسلام خيفة، فاستغله الساسة الغربيون للحرب على الإسلام، وإضعاف حركة انتشاره في أنحاء العالم.

كانت هذه اللوحة التي رسمنا خطوطها الكبرى محاولةً لإبراز أهم التحديات التي تواجه الإسلام السني في القارة الإفريقية في الوقت الراهن، سواء من حيث الدين والفكر والثقافة أو من حيث السياسة والوضع الجغرافي والمالي. وهي تبين مواطن قوته ومواطن ضعفه وأهم التحديات التي يعرفها على المستوى الدولي وعلى المستوى المحلي.

ومن الضروري التنبيه على أن المعرفة والوعي الدينيين قد عرفا تحسنا ملحوظا على مستوى الكيف خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين نظرا لتوفر الكتب المطبوعة وقوة الاحتكاك بين الشعوب الإسلامية شمال وجنوب الصحراء والازدياد في عدد المدارس وإلزامية التعليم.

ومن المؤكد أن الدين الإسلامي يأتي حاليا في المركز الثاني بعد الديانة المسيحية في إفريقيا. وتبين المؤشرات المستقبلية أنه سيتجاوزها بحلول عام 2050م؛ وذلك لأنه هو الدين الأسرع نمواً في العالم. وتشير التوقعات إلى أن عدد المسلمين في العالم سينمو بمعدل أسرع من حال المسيحيين نظرا لسبب الحداثة في السن وارتفاع معدل الخصوبة، ولسبب عدم التأثر الكبير بالتحول الديني [19].

وفيما يتعلق بإفريقيا، فوفقا لدراسة مركز “بيو” للأبحاث، فإن نسبة المسلمين في إفريقيا جنوب الصحراء مثلت في سنة 2010م حوالي %16 من مسلمي العالم، وهذه النسبة سترتفع بحلول العام 2050م إلى %24.3 من مسلمي العالم يقطنون في إفريقيا جنوب الصحراء.

الشباب ومساهماته في إرساء القيم وجلب المنافع

يمثل الشباب طاقة كبيرة تنعم بها المجتمعات البشرية وتعد في الحقيقة أهم ثروة تمتلكها: تنوعا وعطاء واستمرارية. فهو باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله، كما أن أطيب الثمار بواكيرها، وهو “نافذة الأمل” لما يمتلكه من الحيوية والصحة وتجدد الأفكار وسيولة الأذهان، ولما يتمتع به من النشاط والقوة البدنية ومن القدرة على التأثير والتواصل مع مختلف فئات المجتمع. إنه بالتعبير التنموي “الربح الديمغرافي “الذي بفضله تنعم المجتمعات بثروة عظيمة إن تمت الاستفادة منها؛ فتقطف ثمار المجهود الفكري والعضلي لفئة واسعة من البالغين سن العمل. فالشباب قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة. قال تعالى: ﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير﴾[20].

وقد بيَّن الدين الإسلامي أهمية قدرات أبناء هذه الفئة، ولفت الانتباه إلى خطورة المرحلة العمرية التي يمرون بها، وأوصى بحسن تكوينهم وتوجيههم الوجهة النافعة باعتبارهم غرسة ناشئة غضة، قابلة للصياغة والتكييف على الشكل الذي يراد منها، وأكد على ضرورة الاستعانة بهم في كل الأمور.

ولهذا اهتمّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بهم، وأولاهم عناية خاصة: تربية وتعليما وإصلاحا وتقديما. وعمل عليه الصّلاة والسّلام على تهذيب أخلاقهم، وشحذ هممهم، وتوجيه طاقاتهم، وإعدادهم لتحمّل المسؤولية في قيادة الأمّة، كما حفّزهم على العمل والعبادة، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «سبعة يُظلّهُم الله في ظِلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه…» وعدَّ منهم: «شاب نشأ في عبادة الله»[21].

وحثّ صلّى الله عليه وسلّم الشّباب على الأخذ بأسباب القوة على مستوى العقيدة، وعلى مستوى البنية البدنية والنفسية، وعلى مستوى العمل والعزيمة، فقال: «المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف»[22]. وبين أنّ القوّة ليست بقوّة البنيان فقط، ولكنّها قوّة امتلاك النّفس والتحكّم في أهوائها ورغباتها، فقال: «ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» [23].

وتواردت أحاديثه صلى الله عليه وسلم مؤكدة أن الخير كل الخير في الشباب وفي عصر الشباب. فقال عليه الصلاة والسلام: «أوصيكم بالشباب خيرا، فإنهم أرق أفئدة، إن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فحالفني الشباب، وخالفني الشيوخ».[24] ثم تلا قول الله تعالى: ﴿فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم﴾[25]. وأشار عليه الصلاة والسلام إلى قيمة هذه المرحلة من العمر فذكر صلى الله عليه وسلم أن من تمام نعيم أهل الجنة أنهم يدخلون الجنة وهم شباب فقال: “أهل الجنة شباب مرد كحل لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم”[26].

وكان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على توجيهه الشباب، والعناية بمساراتهم، وبين عليه السلام أن الشباب لا يدوم ولابد للعبد أن يغتنم شبابه قبل رحيله، “فلن تزول قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن شبابه فيما أبلاه”[27].

وفي تعليم الآداب الشرعية يقول صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة: «يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»[28]. وقال لابن عباس رضي الله عنهما:

«يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»[29]. وكان ابن شهاب الزهري يقول لتلاميذه: «لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المفصل، دعا الفتيان، واستشارهم يبتغيحدة عقولهم.»

وكان الشباب أهم داعم للرسول صلى الله عليه وسلم فساندوه وأيدوه وعضدوه عند بدء الدّعوة واستبسلوا في نشر الإسلام وتحمّلوا في سبيل ذلك الكثير من المشاق والعنت. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: “ما آتى الله عزّ وجلّ عبدًا علمًا إلاّ شابًّا، والخيرُ كلُّه في الشّباب”، ثمّ تلا قوله عزّ وجلّ: ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾[30]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[31]، وقوله تعالى: ﴿وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾[32].

وإذا كانت أهمية الشباب بهذا الحجم وبهذه الدرجة من الأهمية، فلا غرابة في تبني الدول لسياسات تسعى لمأسسة العمل الشبابي وجعله ركيزة من ركائز الخطط التنموية والرهانات على المستقبل. لهذا فإن إفريقيا بشكل عام وإفريقيا المسلمة بشكل خاص هي في أمس الحاجة لمثل هذه التوجهات الاستراتيجية. فبقدر إشراك الشباب المسلم بشكل فعال وعقلاني في قضايا المجتمع السياسية والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية؛ يكون الوصول إلى تحقيق الصالح العام، خاصة إذا أحكِمت معرفة مكامن القوَّة والتميز لدى هؤلاء، وضبطت مجالات اهتماماتهم وإمكانات قُدراتهم.

أداء الشباب الإفريقي في الإرشاد والدعوة والتذكير

انطلاقا من المعطيات التي أسلفنا عن حجم الإسلام في القارة الإفريقية وعن أهمية الشباب كرافعة للمجتمع، يتبين أن الرهان كبير وأن النتائج بالغة الأهمية. وإذا كان الشباب الإفريقي المسلم قد بذل منذ عدة عقود جهودا ملحوظة في الدعوة والإرشاد والتثقيف الديني، وتجلى ذلك في جمعيات ومؤسسات أهلية وروابط وأندية كان لها وقعها وتأثيرها في الحياة العامة للمسلمين في مختلف دول القارة، فإن التحديات ما زالت جسيمة ووقعها يتعاظم يوما بعد يوم.

من هنا جاء مطلب تكثيف الجهود من أجل التثقيف الديني والتكوين العلمي المتكامل أمرا لا غنى عنه لشباب مجتمعات إفريقيا المسلمة وذلك ليتبنوا خطابا دعويا معتصما بالدليل المعتبر (وحيا ولغة وأثرا وإجماعا وقياسا)، ملاحظا لموارد الخطاب طبقا لوظائف الرسالة النبوية (تبليغا وسياسة وقضاء)، ناظرا في العواقب والمآلات، مُبئِّرا للبعد الروحي والقيمي، ذا توجه إنساني مُحق ومتسامح، آبهٍ بوحدة الأصل والخلق والمكانة المتفردة للإنسان، منسجم مع روح العصر، منفتح على الثقافات الإنسانية، يزيل توجس الآخر من الإسلام دون أن يصوغ رؤيته للعالم ومشروعه الحضاري في شكل ردة فعل ضده.

فالدعوة والتذكير والتبصير والنصيحة في الدين تنبيهاً من الغفلة، وإيقاظاً من السبات، وإعادة إلى نهج الصواب هو الدور الطلائعي للشباب. ولن تتم نجاعة الدعوة إلا بالحوار والتفاهم اللذين أصبحا مسألة أساسية في هذا التاريخ. فحين تفشل قنوات الحوار، ستحصل مواجهة ليس فقط بين الحضارات والثقافات وإنما بين المجموعات والأفراد الذين يسعون إلى تطبيق قناعاتهم حسب أهوائهم وسيؤدي ذلك منهم إلى القيام بأعمال عنف ربما تضر الإسلام بالغ الضرر. فالأمة اليوم هي أحوج إلى الحذر من هذه الدعوات التكفيرية التبديعية، التي جعلت من تكفير مخالفيها مسوغاً لسفك دمائهم، ونشر الفتنة هنا وهناك.

خاصة أن مد التنصير المتصاعد أبرز تحديات جسيمة للإسلام في القارة الإفريقية، فمنذ دخول الوافد الأوروبي إلى الوقت الحاضر وجهود التنصير تتطور في الشعوب الإفريقية متخذة كل الوسائل المتاحة لهذه المهمة. وهي تسعى بكل ما أوتيت من وسائل ضخمة لتمسيح المسلمين أو صرفهم عن دينهم أو التشويش على عقائدهم ببث الشبه وبالمضايقات وبمحاولات الإغراء. لهذا أخذت ظاهرة اللادينية مكانا يتسع يوما بعد يوم في ساحة الإسلام وخاصة في صفوف بعض الشباب الذين تأثروا بالنظريات الغربية ذات الخلفية الفلسفية المادية. فبعد موجة الشيوعية التي انتشرت في القارة، تأتي اليوم موجة من عدم الاهتمام بالدين وعدم الانصياع لأوامره واستبداله برؤى أخرى مناقضة له.

اضطلاع الشباب بمهمات التنمية البشرية

تتلخص التنمية البشرية – كما تعرفها هيئة الأمم المتحدة – في جعل أبناء مجتمع معين يتمتعون بـ “الحياة الطيبة”[33]. وذلك بالسعي في توفير رعاية صحية ناجعة، وفي إرساء مستوىً معاشي لائقٍ، وفي نشر المعرفة بكل أبعادها العلمية والدينية والخلقية وتعميقها، وفي التمتع بالحقوق اللازمة [34].

ولما كان الهدف الأول والأهم للتنمية هو المواءمة بين تأثيرات العوامل الماديّة في الحياة والعوامل الروحيّة، من أجل زيادة كميّة الخيارات المتاحة للنّاس؛ عن طريق زيادة المهارات والمُؤهّلات البشريّة. فمن المعروف الذي لا يحتاج إلى نصب الدليل أن الشّباب ظل وسيظل الركن الأساس الذي تقوم عليه الأمم وبه تنهض وتقود مسيرتها الحضارية. فهو العنصر الذي يمتلك الطّاقةَ والقوّةَ اللذين يجعلان منه رافعة حقيقية للتطور والنماء. لهذا حرصت الدول ذات التخطيط والتدبير العقلانيين على إشراكهم في كل قضايا المجتمع.

ويتأكد الأمر بالنسبة للدول الإفريقية المسلمة، حيث تستدعي إكراهات قصر معدل الأعمار واتساع القاعدة الشبابية من الشباب، سواء من أهل المبادرات الفردية أو من المنضوين في هيئات ومنظمات أهلية، إسهاما لا مناص منه. فالحكومات، وحتى في البلدان المتقدِّمة، لَم يعد بإمكانها بمفردها سَدّ الاحتياجات الضرورية للأفراد والمجتمعات نظرا لتشعب متطلبات الحياة وتنوع مظاهرها. ولذلك كان من الضروري مواكبة العمل الاجتماعي للعمل الحكومي من أجل ملء المجال العام، وتكميل جهود الدولة في تلبية لوازم الإنفاق.

بل إن تدخل التنظيمات الشبابية قد يكون أحيانا رائدا في التدخل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وليس مكملا. فقد أصبَح مطمح العمل الاجتماعي تغطيةَ احتياجات المجال العمومي برمته، ولذا صار العمل الاجتماعي الشاملُ المعيارَ الأول لقياس مستوى رقي الدول، ومن أهم الأسباب المساعدة في تطوير المجتمع وإحداث تنمية بشرية واقتصادية صلبة. فالمورد البشري، وعماده الشباب، وأحرى في المجتمعات الفَتِيَّة أصبح اليوم اللبنة التي يقوم عليها صرح الدول.

لهذا نشهد تعددا ملحوظا للمبادرات الشبابية الفردية والجماعية في القارة الإفريقية في السينغال ومالي والنيجر ونيجيريا وغيرها تسعى في خدمة المجتمع سواء في التعليم أو في الصحة أو في التربية والإرشاد. وتمثل حركة الشباب المسلم في نيجريا مثالا ناصعا لهذا التوجه نحو خدمة المجتمع.

فهذه الحركة مبادرة تطوعية، تبناها الشباب المسلمون في نيجيريا، ورسموا نظامها في سنة 1963م من أجل خدمة ورعاية المساجد. ثم تحولت في السنوات اللاحقة لتضطلع بجميع أنواع العمل الاجتماعي كدعم الأيتام، ومساعدة المحتاجين، وعيادة المرضى، وتنظيم رحلات الحج والعمرة. وهي تضم 209 فروعاً منتشرة في 23 ولاية نيجيرية. وتشير التقديرات إلى وجود ما يقرب من مليون عضو منتسب للحركة ممن تتراوح أعمارهم ما بين 12 و30 عاما [35].

ويؤكد القائمون على هذه الحركة أن جميع المنتسبين يعملون لمرضاة الله عز وجل، لا يتقاضون أي أجرة في مقابل قيامهم بتلك الأعمال التطوعية.

وينبغي لصانعي القرار الذين يرسمون السياسات العامة أن يشجعوا مثل هذه المبادرات للاستفادة من “الربح الديموغرافي” من أجل استثمارات اجتماعية واقتصادية مناسبة؛ تقود إلى تجاوز مُعضلة الفقر، وبلوغ مستويات مستدامة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني أنه يتعيَّن القيام بالمزيد من الاستثمارات في التعليم، وتمكين الشباب من المهارات التي يَتطلبها عامل التنافُسية في سوق العمل، وإحداث فُرص العمل والاستثمار في المجال الصحي، بما في ذلك الصحة الإنجابيَّة الموجهة للشباب. فالاستثمار في السكان هو السبيل الأكثر فعالية لتعزيز التحولات الاجتماعية الناجحة، وتحقيق عوائد عالية، ووضع البلدان على مسار قوي للنمو الطويل الأمد. كما أن المشاركة النشطة للشباب هي أمر حيوي في تشكيل السلام والمساهمة في المصالحة.

وإذا كان التعليم هو أهم ركيزة في التنمية البشرية، فقد اصطبغ التعليم في إفريقيا، إضافة إلى ضعف ارتباط مخرجاته بسوق العمل، بصبغة ماسخة وطامسة لهوية السكان الأفارقة. فالنظم التعليمية في كثير من أقطار القارة -إن لم يكن كلها- تتبنى مرجعيات نظم تعليمية مغايرة لواقعها وتفتقر إلى مواءمة وملاءمة متطلبات أبناء القارة وظروفهم الراهنة.

وقد أبعدَ تبني تلك النُظم ذات المرجعيات الغيرية، المبادئَ والقيمَ الإفريقية الأصيلة، فلم تعد المدارس والجامعات المنتشرة في القارة تعلم الناشئة المُثل السامية (الصدق والعدالة والاستقامة، والرحمة والسماحة والإتقان، والأمانة والوفاء وحب الخير والإيثار)، ولذا لا غرابة أن تأتي النتيجة على حسب المقدمات: شبابا تافها يعيش في مستنقع الرذيلة وفساد الأخلاق، ويهدد بمسلكياته الاستقرار والطمأنينة المجتمعية.

ولم يكن الشعور بالخلل الذي يعتري التعليم الإفريقي قاصرا على أهل الخبرة من المسلمين، بل أبداه عديدٌ من الكتاب الغربيين. يقول المؤرخ البوركانيبي كي زربو:

“لما كانت البلدان النامية لم يتح لها الوقت الكافي لكي تتساءل بطريقة نقدية عن نمط التربية الأكثر مواءمة لاحتياجاتها التنموية، فقد اكتفت بمواصلة النظام الذي خلفته السلطة الاستعمارية مع تطويره. هكذا اعتمد معظمها نظاما تربويا استعماريا مستوردا وضعيف التكيف مع احتياجاتها. حتى إذا بلغت الثمانينيات كانت أشبه بمعرض تجاري دولي يحوي تشكيلة منوعة من النماذج والأيدولوجيات المستوردة من أوروبا وأمريكا الشمالية، والشيء المؤكد أن إفريقيا أصبحت، طبقا لما يسميه أحد الباحثين، مقبرة التجارب الدولية “[36].

وبالرغم من أن بناء المنهج الناجع ينبغي أن يلائم واقع المجتمع ونفسية المتعلم، فمن الملاحظ أنه لا توجد مناهج أعدت للبيئة الإفريقية عموما أحرى كل دولة على حدة. والحال أن كل بيئة لها خصوصياتها التي ينبغي أن تجعل في الحسبان من مثل واقع المسلمين في القارة أو في كل بلد منها باعتبارهم أقلية أو أغلبية، ومن حيث كون اللغة العربية لغة ثانية لدى المتعلمين، ومن حيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وبصرف النظر عن كل مظاهر القصور التي تسم التعليم العربي الإسلامي في إفريقيا إجمالا، وهو في الغالب يتم عبر جهود فردية أو ترعاه هيئات مدنية ذات إمكانات محدودة، فإنه قد حقق قفزات نوعية وأعطى نتائج إيجابية. من ذلك:

  • نشر اللغة العربية في قطاعات عديدة من المجتمع باعتبارها الأداة الأساسية لفهم الدين، وبواسطتها يتمكن المسلم من التعرف على القرآن والسنة، ويستطيع التعامل مع أدبيات العلم الشرعي والثقافة الإسلامية.
  • تدريس العلوم الشرعية بدءا بتحفيظ القرآن الكريم والاعتناء برسمه وتجويده، ووصولا إلى بسط معارف السنة والعقائد والحلال والحرام.
  • الحفاظ على الهوية الإسلامية؛ فقد أسهم التعليم الإسلامي والعربي في إفريقيا في الحفاظ على الوجهة الثقافية والدينية للمسلمين وربطهم عاطفيا بباقي الأمة الإسلامية.

خاتمة

بعد هذا العرض الذي حاولنا من خلاله بيان دور الشباب الإفريقي المسلم في مواصلة الدعوة والإرشاد وفي الدفع بعجلة تنمية المجتمعات، نستطيع الخروج بمجموعة من الملاحظات الأولية، نحسب أنه عند تعميقها وإنضاجها، قد يتمكن المهتمون بالشأن الإفريقي من تقديم مقترحات في تطوير وتحديث هذا العمل الذي يقدمه الشباب في القارة السمراء حتى يصل إلى مستوى المنافسة.

من تلك الملاحظات أن للإسلام جاذبية قوية في نفوس الأفارقة بحيث يكفي قدح زناد الدعوة والتعليم حتى تشتعل جذوة الانخراط فيه والاندفاع في تعاليمه.

ومنها أن المسلمين في هذه القارة يمتازون عن غيرهم من المسيحيين والوثنيين بالرقي الاجتماعي: نظافة وأخلاقا وتكافلا وتواصلا ومعرفة.

ومنها أن التصوف بمفهومه الطرقي يلائم إلى حد كبير نفسيات السكان الأفارقة ويدفع بهم إلى الكثير من العطاء والبذل والنفع للناس.

ومنها أن السعي في إيقاد جذوة حماس الشباب الإفريقي ووعيهم بانتمائهم الحضاري وفي إشراكهم في الرأي والتسيير كفيل بتوجيههم نحو رسم معالم مشروع حضاري متميز وأصيل.

الهوامش

[1] -يراجع لهذه المعلومة: مارتا شوتش، وروث هيل، وكريستوف لاكنر، مدونات البنك الدولي

[2] -قائمة الدول الإفريقية حسب عدد السكان: https://www.wikiwand.com/ar

[3] -Heine، Bernd؛ Heine، Bernd، (2000). African Languages: an Introduction. Cambridge University Press

[4] – Epstein، Edmund L.؛ Kole، Robert، (1998). The Language of African Literature. Africa World Press. ix.

ISBN 0-86543-534-0. Africa is incredibly rich in language—over 3,000 indigenous languages by some counts, and many creoles, pidgins, and lingua francas

[5] -https://ar.wikipedia.org/wiki

[6] -هذا هو التعريف المتبع في اصطلاح هيئات الأمم المتحدة. ويمكن الرجوع إلى:

Population Facts: Youth population trends and sustainable development” (PDF). UN Department of Economic and Social Affairs, Population Division2015

[7] – “Africa’s economic growth in a new global context”. ODI

[8] -“Population” (PDF). www.un.org

[9] -Youth – Definition – United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization”. www.unesco.org.

[10]. /https://www.maghress.com مجلة مغرس الإلكترونية-

[11] -المرجع نفسه.

[12] -– هذه الأرقام منقولة من:

The Future of the Global Muslim Population, مركز بيو لأبحاث الدين ,World Muslim Population, muslimpopulation.

[13] -هذه الأرقام منقولة من:

MICHAEL LIPKA AND CONRAD HACKETT, Why Muslims are the world’s fastest-growing religious group.

[14] -يشتمل غرب إفريقيا على ست عشرة دولة، هي: السنغال، جامبيا، الرأس الأخضر، غينيا بيساو، غينيا (كوناكري)، سيراليون، ليبيريا، ساحل العاج (كوت ديفوار)، غانا، توجو، بنين، نيجيريا، بوركينا فاسو، مالي، موريتانيا، النيجر.

[15] -Cruise-O’Brien, D. (1996) ‘A Lost Generation: Youth Identity and State Decay in West Africa’ in Webner/ Ranger (Eds.), Postcolonial Identities in Africa, London: Zed Books

[16] -محمود عاطف، الإسلام في سيراليون: معلومات عامّة عن الاسلام والمسلمين في سيراليون، والأقلية الإسلامية في ليبريا، مجلة البيان، العدد 289.

[17] -رواه أحمد، والطبراني في الكبير، وصححه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين، ولم يتعقبه الذهبي.

[18] -ذلك بحسب دراسة أجريت مؤخرًا من قبل مركز بيو للأبحاث.

[19] -وفقا لتقرير معهد بيو وقد كشفت عن ذلك دراسة صدرت في عام 2017م.

[20] -سورة الروم، الآية: 53.

[21] -متفق عليه.

[22] -مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، القاهرة: 1955م، رقم 2664

[23] -متفق عليه.

[24] -البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، تحقيق: جماعة من العلماء، الطبعة: السلطانية، بالمطبعة الكبرى الأميرية، ببولاق مصر، 1311 هـ.

[25] -سورة الحديد، الآية: 16.

[26] -الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، المسند المعروف بـ (سنن الدارمي)، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412هـ/2000م، رقم 2868.

[27] -الترمذي، محمد بن عيسى، الجامع الكبير (سنن الترمذي)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشار عواد معروف: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م.

[28] -رواه البخاري ومسلم.

[29] -أحمد بن حنبل، المسند، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م، والترمذي، محمد بن عيسى، الجامع الكبير (سنن الترمذي)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشار عواد معروف: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م.

[30] -سورة الأنبياء، الآية: 60.

[31] -سورة الكهف، الآية: 13.

[32] -سورة مريم، الآية: 12.

[33] -الحياة الطيبة: لفظ قرآني مأخوذ من قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾، سورة النحل، الآية: 97.

[34] -انظر: أحمد ماجد (2016م)، تقرير التنمية البشريّة الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، الإمارات العربيّة المتحدة: وزارة الاقتصاد، صفحة 2.

[35] -المصدر نفسه.

[36] -سانو، قطب مصطفى (1419هـ)، النظم التعليمية الوافدة في أفريقيا، قراءة في البديل الحضاري، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر: 1419هـ – 1998م، ص 64.

مصادر ومراجع باللغة العربية

مصادر مطبوعة

  • أحمد بابا بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، طبع مكتبة الثقافة الدينية القاهرة.
  • أحمد بن حنبل، المسند، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421هـ – 2001م.
  • أحمد ماجد (2016م)، تقرير التنمية البشريّة الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، الإمارات العربيّة المتحدة: وزارة الاقتصاد.
  • البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، تحقيق: جماعة من العلماء، الطبعة: السلطانية، بالمطبعة الكبرى الأميرية، ببولاق مصر، 1311هـ.
  • الترمذي، محمد بن عيسى، الجامع الكبير (سنن الترمذي)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشار عواد معروف: دار الغرب الإسلامي- بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م.
  • الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، المسند المعروف بـ (سنن الدارمي)، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412هـ/2000م.
  • سانو، قطب مصطفى (1419هـ). النظم التعليمية الوافدة في إفريقيا. قراءة في البديل الحضاري، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر: 1419هـ – 1998م.
  • الطبراني، المعجم الكبير، مكتبة ابن تيمية – القاهرة، الطبعة: الثانية.
  • عبد الرحمان السعدي، تاريخ السودان.
  • محمود كعت، تاريخ الفتاش.
  • مسلم بن الحجاج، الجامع الصحيح، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة: 1374هـ – 1955م.

مصادر مخطوطة:

  • اللمع في إشارة حكم الطبغ. المؤلف: أحمد بابا بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت التنبكتي السوداني- مكتبة: مما حيدرة تنبكت- تحت رقم 15445 ورقم : 38327.
  • معراج الصعود إلى نيل حكم مجلوب السودان. المؤلف: أحمد بابا بن أحمد بن عمر بن محمد أقيت التنبكتي السوداني- مكتبة: مما حيدرة تنبكت – تحت رقم 3844.
  • سراج الإخوان في أهم ما يحتاج إليه في هذا الزمان. المؤلف: عثمان بن محمد بن فودي- مكتبة: مما حيدرة تنبكت- تحت رقم 5118.
  • تنبيه الإخوان عن أحوال أرض السودان. المؤلف: عثمان بن محمد بن فودي – مكتبة: مما حيدرة تنبكت- تحت رقم 7555.
  • أصول العدل لولاة الأمور وأهل الفضل. المؤلف: عثمان بن محمد بن فودي – مكتبة: مما حيدرة تنبكت- تحت رقم 3433.
  • سراج الإخوان. المؤلف: عثمان بن محمد بن فودي- مكتبة: مما حيدرة تنبكت- تحت رقم 12406.
  • ضياء الحكام. المؤلف: عثمان بن محمد بن فودي – مكتبة: مما حيدرة تنبكت – تحت رقم 12402.
  • إزالة الريب والشك والتفريط في ذكر المؤلفين من أهل التكرور والصحراء والشنجيط. المؤلف: أحمد بن أبي الأعراف التكني الموسوعلي الجليميمي – معهد أحمد بابا تنبكت- تحت رقم 1072 – 1073.

مصادر ومراجع باللغة الإنجليزية

  • “Africa’s economic growth in a new global context”. ODI
  • Cruise-O’Brien, D. (1996) ‘A Lost Generation: Youth Identity and State Decay in West Africa’ in Webner/Ranger (Eds.), Postcolonial Identities in Africa, London: Zed Books
  • Epstein, Edmund L.; Kole, Robert, (1998). The Language of African Literature. Africa World Press. ix. ISBN 0-86543-534-0
  • Heine, Bernd; Heine, Bernd, (2000). African Languages: an Introduction. Cambridge University Press
  • MICHAEL LIPKA AND CONRAD HACKETT, Why Muslims are the world’s fastest-growing religious group. 2015
  • Population Facts: Youth population trends and sustainable development” (PDF). UN Department of Economic and Social Affairs, Population Division 2015
  • The Future of the Global Muslim Population”، مركز بيو لأبحاث الدين World Muslim Population”, muslim population
  • Youth – Definition – United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization”. www.unesco.org

تحميل المقال بصيغة PDF